نجم ساطع في سماء ندوة العلماء

أخي جعفر، كنت رجلاً أيّ رجل!
18 مايو, 2025
حادثه فاجعة سكبت دموعنا وصدّعت أكبادنا
18 مايو, 2025

نجم ساطع في سماء ندوة العلماء

بقلم: الأستاذ عمير الصديق الندوي

(تعريب: مبين أحمد الأعظمي الندوي)

لأول مرة في حياتي أشعر، وكأن مشاعر قلبي تقطِّع جوانحي، وتكاد تغلب عليَّ أحاسيسي، وقد اعترى الحزن والكمد كل سُلاماي، فلم يمض من الأيام إلا قليلٌ وكنا قدأودعنا صفحاتِ هذه الجريدة(معارف) ذكرياتِ فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، وكنا قد أعربنا عنها قائلين: ما كان أجمل تلك الأيام! وكم كانت رائعة وبهيجة!

ومن كان يعلم أننا سنضطر قريبًا إلى الإضافة إلى تلك الذكريات ذكرياتٍ أخرى تُدمع العين، وتحزُن القلب، وتسلبنا بسمات الوجه، ويتحقق ما قال الشاعر:

زمن تولى من ربيع حياتنا في ظله ما أجمل الأوقات

فوجئنا بخبر وفاة الشيخ الشريف جعفر مسعود الحسني الندوي–رحمه الله–فكان كالصاعقة أو أن الصاعقة هي التي أصبحت مثل الخبر. غابت شمسٌ من شموس العلم والأدب بعد مغيب شمس الفلك بساعات، وهي تعبِّق رائحة دماء الشهداء. إنا لله وإنا إليه راجعون.

جاء الخبر، فتشظت القلوب، واضطربت النفوس، وحارت الأعين، ولكن يكاد لا يصدقه أحد، وقد قال بعض الصالحين: إن بعض الوفيات تُمسك اللسان، وتجفف الدموع، وتخفف دقات القلب، فيكتئب الإنسان، ويشعر بالضيق الشديد في داخله، ولكنه لا يريد أن ينبس ببنت شفة، أو يلفظ بكلمة، أويخفف حزنه، أويتغلب على نفسه، فكلُّ ما يريد أن يفعله حين ذاك هو ترديد القول المأثور: “إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون”.

رحل عنا الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي–رحمه الله– في حين يواجه الشعب المسلم ما بين أسرٍ وقبائل، وما بين صغير وكبير، شدائدَ ومصائبَ، وتمر البلاد بأوضاع صعبة، وظروف قاسية، ولكن وقعت الواقعة، وجرحت الكثير، وأوقعتهم في الهم والغم. وقد كتب العلامة السيد سليمان الندوي –رحمه الله–قبل اليوم بمئة سنةٍ عند وفاة الشيخ عبد الرحمن النغرامي الندوي بالعنوان ما مفاده”: “يأفل نجم ساطع من نجوم جماعتنا”: “كم من دررٍ ولآلٍ فقدتها ندوة العلماء، وكان عبد الرحمن خيرَ من أنجبتهم ندوة العلماء مِنَ النافعين الخدام لعلم الدين خلال ثلاثين سنة ماضية، وكان الله قد متَّعه بجميع أوصاف العلم والعمل”. والآن تنطبق هذه الكلمات على الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي بالتحديد.

فالكلمتان: “النافع” و”خادم الدين” لا تعبران عن مجرد صفتين عاديتين فحسب؛ بل إنما هما بمثابة مفتاح يفتح قفل العالم الإنساني المثالي. أما كونُه منحدراً من عائلة دينية روحية مرموقة، ومعلماً أكثر من نصف عمره بعيداً عن الرياء والسمعة، وكاتباً باللغة العربية والأردية بكمال البراعة والإتقان، وبسعة النظر والفكر، وممثلاً للفكر الإسلامي السليم، وخطيباً بارعاً، وكونُه صاحبَ فضلٍ وكمالٍ، ومعرفةٍ واسعةٍ، فكلُّ هذه الأشياء إنما تذكر على سبيل الاستمرار، فإنه أدى وظيفة التدريس في المدرسة العالية العرفانية بلكناؤ وبدار العلوم لندوة العلماء، وعبَّر عن أحاسيسه ومشاعره، وأفكاره ووجهات نظره عبر كتاباته في صحيفة “الرائد” وفي جرائد أخرى، وفكَّر دائماً للمجمع الإسلامي العلمي بدار العلوم لندوة العلماء، واستمد القوة من صمته فاستغلها في بيانه، وأخذ الحيوية من خموله، فاستفاد منهافي جولاته العلمية والدعوية في داخل البلاد وخارجها، يُذكر كل ذلك دوماً، فلا يسع أحداًعند ذكره إلا أن يقول عنه:

وإني وإن كنت الأخيرَ زمانُه لآتٍ بما لا تستطيع الأوائل

وإلى جانب ذلك، نلمس جوهره الحقيقي في أخلاقه وتعاملاته، وفي عاداته وخصائله، وقد درسنا حياة بعض العلماءالذين لم يكونوا متواضعين غير متكبرين فحسب، بل إنهم كانوا في قمة عالية من العفاف والغنى، وعلو الهمة، وكرم النفس، والتأدب مع أساتذتهم وأكابرهم، وكانوا لا يخافون ولا يرجون أحداً إلا الله. والسيد جعفر الحسني الندوي كان متصفاً بهذه الصفات، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه كان كمَلَكٍ كريم قطع مراحل الطفولة فشبَّ وفَتِي في صورة إنسانٍ، وبلغ من الخلق والأدب، والورع والتقوى مبلغاً استحيى منه الكبار والمشائخ.

من المتفق عليه أن الاتصاف بالكمالات الإنسانية، والصفات العالية، متنوعة كانت أو مختلفة، وأن كسب المدح والثناء فيما بين الأصدقاء والأحباء، ربما يُكتسب ذلك، ويُتكلف تحصيلُه، ولكن خصائص الأسرة، وتقاليدها السائده، وقيمها العليا لها تأثير كبير أيضاً، وهو الشيء الذي ينتقل إلى الأجيال القادمة أباً عن جدٍ. ومن المعلوم أن السيد جعفر مسعود الحسني الندوي نشأوترعرع في كنف أكابر أسرته أمثال العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي، والكاتب الإسلامي محمد الحسني، وفضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، وأبيه المفر الإسلامي الشيخ محمد واضح رشيد الحسني الندوي –رحمهم الله جميعًا–، وقطع مراحل العلم والأدب تحت إشرافهم، واستفاد منهم، وصقل مواهبه في ظل تربيتهم وتوجيههم، ومن هنا اجتمع فيه كثيرٌ من الخصائل والفضائل بما فيها قلةُ المجالسة، وقلةُ الكلام، وهدوءُ الطبع، والبعدُ عن الدنيا وأهلها، وطلبِ الجاه، وحبِّ الظهور، وتفضيلُ العمل القوي النافع دون القول بلا جدوى.

وماذا أكتب أكثر؟ فإن أخانا الحبيب جعفر مسعود الحسني الندوي كان شخصاً محبباً لدى أصدقائه، وزملائه، وأحبائه، وكل من يلقاه يظن أنه أحب إليه، وكأنه كان شخصية مغناطيسية ينجذب إليها من يقربها أو يدنو منها، فلا نستطيع أن نتذكر رحلته عنا إلا بما قال الشاعر عبدة بن يزيد:

عليك سلامُ اللهِ قيسَ بن عاصمٍ ورحمتُه ما شاء أن يترحَّما
فما كان قيسٌ هُلكُه هُلكُ واحدٍ ولكنه بنيانُ قومٍ تهدَّما

اللهم نوِّر قبره، واجعله روضةً من رياض الجنة، وأسكِنه في عليين، واجعله ناعماً منعماً في جنات النعيم، واحشره في زمرة الصالحين ومع أصحاب اليمين. آمين يا رب العالمين!.

 

×