الفقيد الغالي: الأخ العزيز جعفر مسعود الندوي
12 أبريل, 2025نجم ساطع في سماء ندوة العلماء
18 مايو, 2025أخي جعفر، كنت رجلاً أيّ رجل!
الأستاذ محمد علاء الدين الندوي(*)
(*) عميد كلية اللغة العربية وآدابها بدار العلوم لندوة العلماء بلكناؤ
سبقتنا–يا أخي المخلص الوفيّ– في الرحلة إلى الآخرة كما سبقتنامنذ أول يوم نُبلا ونجابة، وشرفا وكرامة، وعلما ونباهة ۔ أردتُ أن أعزّي عنك، وبما ولماذا أعزّي عنك، وأنت – ورب الكعبة – فزت، ونلت درجة شهادة الحق، فأنت الآن في سندس خضر، وفاكهة كثيرة، وفي رحيق ختامُه مِسك.
يا أخي الكريم – وأنزل الله عليك شآبيب رحمته – أريد أن أسجّل بعض خصالك الحميدة من أنسك ولطفك، وإنسانيتك الرفيعة، وخدماتك المحسودة۔ أريد أن أصف تواضعك ورحبة صدرك، وهشّ وجهك وبشاشة قلبك، وصنيعك الجميل، ومنطقك الرخيم، وشخصك الأليف، لكن القلم يمنعني قائلا متعلّلا:هذه بعض لمعات من صفاته وليست جوهر ذاته.
كنت أراك – يا أخي جعفر مسعود تغمّدك الله برحمته – الرأس المفكر في أترابك، والرائد المؤفق، ترقّق قلبك الحنون لأصحابك، وكنت الفتى المرتقب لهم، عشت بين آمال وتطلّعات أهلك وذويك، وتلقّيت العلم والدربة من أهلها، درجت وترعرعت في أسرة معروفة بنهجها الأصيل الحنيفي، متمسكة بالشريعة الإسلامية، من التوحيد الخالص والسنّة السنية ۔ وقد استدار الزمان وباتت هذه الأ سرة بدورها الإسلامي الباهر رسولَ الإسلام في بلاد الهند، أخرجك ربّك من معدن نفيس، وكنت أغلى جوهرا، وأتقى صنعة، صنعتك وثقّفتك صحبة الرجال الذين حملوا رسالة الإسلام إلى أقصى العالم ورفعوا رأية الجهاد، وأنت وريث هؤلاء العلماء الربّانين، والأبطال المجاهدين الذين استطاعوا تأسيس دولة إسلامية، وأنت فينا من بعدهم رجل أيّ رجل، وجوهر أيّ جوهر.
قيض الله لميلادك عصرا مليئا بركام من البشر الذين بلغوا إلى ما بلغوا من تدنّي النفوس، وتهتّك الأخلاق، وخور العزائم، وحبّ الشهوات من القناطير المقنطرة، واكتساب المنكرات، وقد كنت واحدا يكاد يساوي أفرادا بأسره، وليس هذا بعجب۔ هذا سيدنا خالد بن الوليد حاصر مدينة الحيرة، واحتاج إلى طلب المدد من سيدنا أبي بكر – رضي الله عنه –، فما أمدّه إلا برجل واحد، وهو القعقاع بن عمرو – رضي الله عنه –، وقال:لَصوتُ القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل، وكان معدي كرِب بمثابة ألف فارس۔ حتى قالوا: كلُ رجل مذكر، وليس كلُّ مذكر رجلا.
“إن سيدنا عمر رضي الله عنه جلس إلى جماعة من أصحابه في دار من دور المدينة، وقال لهم: تَمَنُّوا، فقال أحدهم:أتمنّي لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله، ثم قال آخر أتمنّى لو أنّ هذه الدار مملوءة لؤلؤا وزبرجدا وجوهرا أنفقه في سبيل الله وأتصدق به، ثمّ قال: تمنّوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: ولكنّني أتمنّي لو هذه الدار مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولي أبي حذيفة، فأستعين بهم علي إعلاء كلمة الله (المستدرك للحاكم).
ليست الرجولة والعظمة بسطة في الجسم، وليست هي طول القامة الفارعة وقوة البنية البدنية، إنما هي القوة النفسية، وإنما هي الجرأة الخلقية والغيرة الدينية، وإنما هي الشجاعة النادرة، والشهامة عند الحاجة، إنّما هي نصرة المظلوم وقهر الظالم، إنما هي المناضلة ضد الطغيان، وزحزحة الباطل عن أرض الله، إنما هي الصدع بالحق، والتضحية في سبيل الإيمان والعقيدة.
هذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان نحيفا نحيلا قصير القامة، هزيل الساقين، صعد مرة على شجرة لمسواك رسول الله صلي الله عليه وسلم، فانكشفت ساقاه الدقيقتان، فضحك بعض الصحابة، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ’’أتضحكون من دِقّة ساقه؟ والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد”. (رواه أحمد)
قال الله سبحانه وتعالي: من المؤمنين رجل صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا (الأحزاب: 23)
لك البشري – يا أخي المفضال – ولأسرتك المثالية التي ماتمنّت ذهبا ولا لؤلؤا ولا جوهرا ولا دينارا وإنّما تمنّت رجالا وأبطالا، لا ليفتحوا لأسرتهم زخارف الحياة، وكنوز الأرض، بل ليفتحوا على البشرية قلوبهم، ويهدوهم إلى الحق الخالد۔ وأذكر بهذه المناسبة قصة طريفة لأحد أجدادك القدامى وأمجادك الغيارى من أهل البيت، وهذه القصة تمثّل دأبك ودأب أسرتك، ولا شك أنّ خصائصها محاكاة لخصائلهم.
روي أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة أبيه وأخيه الوليد قبل أن يلي الخلافة، فطاف بالبيت، واجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه، وقد نصب لهم منبر، فقعد عليه وقام أهل الشام حوله ۔فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين فلما دنا من الحجر ليستلمه تنحى عنه الناس وتوسّعوا له المكان إجلالا له وهيبة واحتراما، وهو في بزّة حسنة وشكل مليح، فقال أهل الشام لهشام من هذا؟ فقال: لا أعرفه استنقاصا به واحتقارا لئلا يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق في المجلس، فقال: أنا أعرفه، وأنشد الأبيات التالية:
هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأتَهُ | وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ |
هَذا اِبنُ خَيرِ عِبادِ اللَهِ كُلِّهِمُ | هَذا التَقِيُّ النَقِيُّ الطاهِرُ العَلَمُ |
هَذا اِبنُ فاطِمَةٍ إِن كُنتَ جاهِلَهُ | بِجَدِّهِ أنبِياءُ اللَهِ قَد خُتِموا |
وَلَيسَ قَولُكَ مَن هَذا بِضائِرِهِ | العُربُ تَعرِفُ مَن أنكَرتَ وَالعَجَمُ |
كِلتا يَدَيهِ غِياثٌ عَمَّ نَفعُهُما | يُستَوكَفانِ وَلا يَعروهُما عَدَمُ |
سَهلُ الخَليقَةِ لا تُخشى بَوادِرُهُ | يَزينُهُ اِثنانِ حُسنُ الخَلقِ وَالشِيَمُ |
عَمَّ البَرِيَّةَ بِالإِحسانِ فَاِنقَشَعَت | عَنها الغَياهِبُ وَالإِملاقُ وَالعَدَمُ |
إِذا رَأتهُ قُرَيشٌ قالَ قائِلُها | إِلى مَكارِمِ هَذا يَنتَهي الكَرَمُ |
يُغضِي حَياءً وَيُغضَى مِن مَهابَتِهِ | فَما يُكَلَّمُ إِلّا حينَ يَبتَسِمُ |
يكادُ يُمسِكُهُ عِرفانُ راحَتِهِ | رُكنُ الحَطيمِ إِذا ما جاءَ يَستَلِمُ |
ما قال لا قطُّ إلّا في تَشَهدِه | لو لا التشهدُ كانت لاءَه نعمُ |
قال الراوي: فغضب هشام من ذلك وأمر بحبس الفرزدق بعُسفان بين مكة والمدينة، فلما بلغ ذلك علي بن الحسين بعث إلى الفرزدق باثنى عشر ألف درهم فلم يقبلها وقال: إنّما قلت ما قلت لله تعالى ونصرة للحق وقيامًا بحقّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ذرِّيته، ولست أعتاض عن ذلك بشيء، فأرسل إليه علي بن الحسين يقول: قد علم الله صدق نيتك في ذلك وأقسمت عليك بالله لَتُقَبِّلَنَّهَا فَتَقَبَّلَهَا منه ثم جعل يهجو هشاما” (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، إسلامي ويب).
يا أخي الراحل، نوّر الله مرقدك!إنّ هذه الخصائص التي تجلّت في عليّ بن الحسين بن عليّ – رضي الله عنهم – الملقّب بزين العابدين قد انعكست قليلا أو كثيرا في أسرتك الصالحة العريقة، وأنت كفرد متميز، وكجوهر غال منها، وصدق فيك قول الفرزدق:
إذا مِتُّ فَابْكينِي بما أنا أهلُه | فكلُّ جميلٍ قلتِ فِيَّ مُصَدَّقُ |
تقبّل الله من جهدك وجهادك، ومن كدّك وكفاحك، ومن خواطر قلبك ورشحات قلمك، ومن دروسك ومحاضراتك، ومن بذلك وعطائك، ومن حلِّك وترحالك، ومن مبادرتك ودفاعك عن الإسلام وأهله قد انتقلت الآن إلى جوار أرحم الراحمين، ونحن – معشر أبناء ندوة العلماء – محزونون بفراقك، أمّا أنا فلا مساغ لي إلّا أن أتضرّع إلى الله قائلا وراجيا: “اللهم اجعل قبره من رحمتك روضة من رياض الجنة، اللهم ارحم أهله وورثته صغير ا أوكبيرا، واحرسهم بعينك التي لا تنام أبدا، وبدّل همّهم وحزنهم بالصبر والسلوان.