يا أستاذنا سيظل ذكرك في قلوبنا خالدًا

خسارة كبيرة في مجال الدعوة الإسلامية
19 مايو, 2025
فقدنا – معشر إخوتنا الندويين – أمينا ربانيا
19 مايو, 2025

يا أستاذنا سيظل ذكرك في قلوبنا خالدًا

عبد الرحمن الندوي (الدوحة بقطر)

إن القلم يجف، والمداد لا يطاوع التعبير عن مشاعر الحزن البالغ، فالكلمات تتلعثم أمام الألم الموجع العميق، ولا أتمالك على البكاء، ولا أستطيع دفع الكمد الذي يثقل قلبي. والعقل يحاول جاهدًا كبح جماح مشاعر ثقيلة متألمة، كأنَّ كل فكرة تنفجر في داخلي تحاول الهروب من التعبير والإبداء.

لاشك في أن الأمة الإسلامية جمعاء فقدت عالماً جليلاً وأستاذا مربيا وأديبا أريبا فضيلة الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي رحمه الله رحمة واسعة فاستفاقت على وقع الحزن والكآبة، وتفطرت قلوب أبناء ندوة العلماء لفقدان منارة كانت تضيء لهم دروب العلم والأدب. لقد أصيبت أسرته الحسنية الطيبة بجرحٍ عميق غائر، وكأن الأمة قد فقدت من يقاوم التحديات والأزمات‌ الحاضرة.

كان الشيخ داعيا كبيرًا، عالماً غيورًا، صابرًا في جميع الأحوال والظروف. كان بعيدًا عن حبّ الشهرة والسمعة، متواضعًا في حياته، خاليًا من الطمع في المال والثروة، منصرفًا عن الدنيا ومشاغلها، كان متحليًا بأخلاق العلماء والدعاة المخلصين، فقد عاش سعيدًا ومات حميدًا.

لقد ساهم الفقيد بإسهاماته البارزة في مجال خدمة الدين والدعوة والكلمة الطيبة، والتعاون مع المنظمات التي تعمل على حماية الشريعة الإسلامية. لقد أمضى عمره في خدمة الدعوة، والنهوض بالفكر والعلم، فكان منارة يهتدي بها كل من يسعى للعلم والصلاح.

كان أول لقاء لي مع الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي في “مدرسة سيد أحمد الشهيد” الواقعة في قرية تكيا كلاں في مديرية رائي بريلي، حيث كنت أحفظ القرآن الكريم، كنت أراه من وقت لآخر، وهو يحضر مسجد شاه علم الله للصلاة، كان وجهه يضيء، وتحيط به هالة من التواضع والوقار، مما كان يبعث في النفس السكون والاطمئنان، كنت أتابع رؤيته بشغف، متأثراً بشخصيته الفذة التي لم تقتصر على علمه الواسع وأدبه الجم، بل كانت تمتد لتشمل قلبه المفعم بالرحمة والرأفة، فتغمرنا في كل لقاء معه حكمة وموعظة تبقى في الذهن لا تزول ولا تنسى.

من جهة كان عالماً فذاً وأديباً بارعًا، مربياً مشفقاً، ومن جهة أخرى، كان ينحدر من أسرة عريقة ذات نسب شريف، أسرة تحمل في طياتها تاريخاً طويلاً من القيادة والتوجيه، حيث كان أفرادها دوماً يقودون الأمة من شرقها إلى غربها، ومن جنوبها إلى شمالها. ومع ذلك، وعلى الرغم من عظمته وعلو مقامه، كان يتحلى بتواضع جم، وسهولة في المعاملة، ولطف في الحديث.

وبعد ذلك عندما دخلتُ المدرسة العالية العرفانية في لكناؤ لتحصيل العلوم الدينية الشرعية، أُتيحت لي منذ اللحظة الأولى فرصة لقاء أستاذي الجليل. وكان ذلك اللقاء بمثابة نقطة انطلاق في مسيرتي العلمية، حيث كان أستاذي بحكمته وغزارة علمه يحظى بمقامٍ رفيع في قلوب جميع الأساتذة والطلاب، كان يشرف على تدريس الدراسات العليا، وكان الجميع يُكنُّ له من الإجلال والتقدير ما لا يُوصف.

في السنة الثانية، رغم أنني لم أتمكن من الاستفادة من علمه في البداية، إلا أنني كنت أدعو أن ييسر الله لي فرصة لقاء أستاذي والتعلم على يديه. ومن حسن الحظ، بعد عطلة عيد الأضحى حظيت بلقائه، فاغتنمت الفرصة وطلبت منه أن يعلمني فن الإنشاء. وكان جواب أستاذي إيجابيًا ثم بدأت الذهاب إليه لتعلم فن الإنشاء، فكان يتأمل العبارة بعناية فائقة، ويحدد الأخطاء بدائرةٍ حمراء، ويقول لي: “عند مجيئك غدًا، صححها وأوضح السبب أيضًا.” كان هذا الأسلوب الجميل يستهواني، فتعلمتُ الكثير في وقتٍ قصيرٍ بفضل توجيهه السديد.

في تلك الفترة لاحظت في أستاذي الفاضل تواضعًا لا يدارى، وعظمة في الخلق لا تناول، فقد كان بعيدًا عن ملذات الحياة الدنيا وزخارفها، متجنبًا كلَّ ما يثير الفتن ويشغل القلب عن الحق. وهو في ذلك كان مثالًا نادرًا للزهد والعفاف. ولقد تجلت هذه الفضائل بوضوح حينما فارقنا هذا العالم، في زمانٍ يسعى فيه الجميع وراء الراحة والترف، ويرهقون في طلب متع الحياة الزائلة.

في وقتٍ أصبح فيه المسؤولون لا يرحلون إلا بعد أن يضمنوا أعظم درجات الرفاهية، نرى هذا العالم الفاضل، رغم كونه مسؤولًا في مؤسسة عالمية وشخصية علمية مرموقة، قد قرر أن ينطلق في سفر طويلٍ في بردٍ قارس، رفقة رفيقٍ واحد فقط على دراجة نارية، دون أن يلتفت إلى راحة أو متاع.

إن الوصول إلى هذا المستوى الرفيع من التفاني في خدمة الأمة ورعاية مصالحها ليس بالأمر اليسير، فهو جهدٌ يتطلب صدق العزيمة وقوة الإرادة. ومن قلبٍ ملؤه الألم، يصعب عليَّ أن أعبّر عن مشاعر الحزن واللوعة، ولكنني أسأل الله العظيم أن يغفر لأستاذنا الكريم، وأن يرزق أهله ذويه الصبر والسلوان.

×