اللقاء الذي كان مكتوبًا أن يكون أخيرًا

خالي
18 مايو, 2025
الأستاذ جعفر مسعود الحنسي الندوي معلمًا وداعية وكاتبًا ومفكرًا
19 مايو, 2025

اللقاء الذي كان مكتوبًا أن يكون أخيرًا

محمد فضيل أحمد الندوي(*)

(*) باحث في قسم التدريب العلمي دار العلوم لندوة العلماء بلكناؤ

في يوم من أيام الشتاء الوادعة، حين تهادت الشمس في كبد السماء، تبسط خيوطها الذهبية على الطرقات. كنت أمر بجوار المكتبة العامة شبلي النعماني، عندما لاحت لي سيارة تقترب، تشقّ طريقها بين همسات الهواء. وما إن اقتربت، حتى ارتسمت في عيني ملامح مألوفة؛ في المقعد الأمامي الأستاذ الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي الأمين العام لندوة العلماء كأنما يوشّحه الوقار، وفي الخلف أستاذي الكريم د/ محمد وثيق الندوي، فما إن اقتربت السيارة حتى توقفت بمحاذاتي انفتح الباب عن ابتسامة دافئة ودية، وإذا بصوت أستاذي الشفوق محمد وثيق الندوي يفيض بالود والكرم، يدعوني للركوب معه.

لم أتردد، بل تسللت إلى الداخل، كمن يجد نفسه في مجلس مألوف. وما إن تحرّكت السيارة، حتى انطلقت معها أجنحة الحديث، وفجأة، التفت الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي إليّ بعينين تشعّان بالظرف، وقال مخاطبًا أستاذي الشيخ وثيق الندوي:

“انظروا إلى تلميذكم! لقد كان يحاول أن يتسلل كأنه يتجنب، وكأنه يخشى أن يُرى!” شعرت بشيء من الحرج، فابتسمت مردفًا وقلت:

“لا يا الشيخ، كنت فقط أبتعد قليلًا، فالسيارة كانت تقترب مني.” فضحك الشيخ، وهزّ رأسه ضاحكا وسأل بالود والحنان.

“هل ظننت أن السيارة ستصدمك” فضجّت السيارة بالضحك، كأنما تلك الكلمات قد حرّكت في القلب بهجةً خالصة، لا يشوبها شيء. وبعد ذلك طفق الشيخ جعفر مسعود الندوي والأستاذ محمد وثيق الندوي يتبادلان الأحاديث بمرح يعكس عمق مودتهم وصدق محبتهم، وخالص العلاقة بينهم، وكأن كل كلمة تُزيّن المجلس ببهائها بيننا والكلمات تنساب كما ينساب الماء العذب في مجرى الزمن.

ومضت رحلتنا القصيرة بنا نحو “خاتون منزل”، لكنّ الطريق كان حافلًا بمحطات من الأنس والذكريات. توقفنا عند مقهى “غلوب” في قيصر باغ لبعض الوجبات الخفيفة، وجلسنا نستمتع بحلاوة الحديث ورشفات الشاي معا، حتى أقبل أحد من الناس، وتكلم مع الشيخ قليلا في بعض الأمور ثم غادر بتسليم.

ثم واصلنا الطريق نحو “خاتون منزل”، وحين وصلنا، صعدنا إلى غرفة في الطابق العلوي، حيث اصطفّت حزم الكتب. أشار الشيخ إلى عدة حزمٍ من الكتب التي ظننت أنها ستكون جائزة في مسابقات لـ”جمعية الإصلاح” و”النادي العربي”، فانحنى الشيخ محمد وثيق الندوي، يلتقطها وبدأنا بتحميلها في السيارة، حتى امتلأ المقعد الخلفي نصفه.

قبل المغادرة، اتجه الشيخ محمد وثيق الندوي نحو باب غرفة الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي، يناديه، لكن النداء ظلّ معلقًا في الهواء، لم يصله صوتٌ ولا صدى. ظننا أنه غارقٌ في بعض أمرٍ ما، فعدنا أدراجنا نحو السيارة، غير أن الهاتف سرعان ما رنّ في يد الشيخ محمد وثيق الندوي فسأل الشيخ جعفر الحسني الندوي:

“أين ذهبتم بلا لقاء؟” فأجاب الشيخ “لقد ناديتكم، لكن يبدو أن صوتي لم يصل إليكم!” تبدّلت اللحظة إلى بسمة، وصارت البسمة ذكرى، كأن هذا الحوار العابر نقشٌ على جدار الزمن.

وهكذا، عدنا أدراجنا إلى “دار العلوم لندوة العلماء”، نحمل معنا أثر رحلةٍ لم تكن مجرد انتقالٍ من مكان إلى آخر، بل كانت عبورًا بين مشاهد الألفة، ووقفاتٍ على عتبات الذكرى، حيث لا تذبل اللحظات، ولا يغيب بريقها مهما امتدّ بنا العمر.

وفي اليوم التالي، كنا نستعد لصلاة العشاء. كنت قد توضأت، وما إن دخلت الغرفة حتى قال لي صديقي عبد الرحمن مسلم: “تشيع أخبار عبر الواتساب بأن الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي قد توفي في حادث في راي بريلي وقد صدمته سيارة”. في البداية، بدت لنا هذه الأنباء غير مؤكدة واتصلنا بمن كانت لهم علاقة بأسرته فما زادوا إلا تصديقًا……بالأمس فقط التقينا به، وها هو اليوم يُفجعنا هذا الحدث الأليم…. امتلأت قلوبنا بالحزن، وتبعثرت مشاعرنا في بحرٍ من الأسى……

الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي– رحمه الله– كان نجمًا ساطعًا في سماء الفكر والتربية، سَخَّر قلمه لنشر القيم النبيلة وغرس المبادئ السامية في عقول الناشئة عبر “ركن الأطفال” بعنوان “أخي العزيز” في صحيفة الرائد من سنة 2003م امتثالا لأمر والده الجليل الشيخ محمد واضح رشيد الحسني الندوي وتحول اسمه فيما بعد إلى “براعم الإيمان”. ثم نشرت هذه الكلمات الأدبية والتربوية في كتاب مستقل باسم “أخي العزيز” جمعها وراجعها وأعدّها للطباعة صديقه وزميله أستاذي الشفوق د. محمد وثيق الندوي كما ذكر المؤلف في الكتاب:

“ولا يفوتني أن أشكر بهذه المناسبة الأستاذ محمد وثيق الندوي على أنه أشار عليَّ بجمع ما كتبتُه في هذا الركن من كلمات، وجمعها هو نفسه ورتَّبها، ووضع لها العناوين، لأنها كانت نشرت كلها بعنوان واحد وهو “أخي العزيز” وأعدها للطباعة، فهو الذي وراء اختاري هذا الكتاب الذي بين يديك”.

لم يكن الشيخ جعفر مجرد كاتب، بل مربٍّ حكيم، وأرشد الشباب. كان فكره نابعًا من بصيرةٍ ثاقبة، يوقظ الوعي، ويضيء العقول بنور العلم والتوجيه السديد. رحل الجسد، لكن أثره باقٍ، وكلماته ستسافر عبر الأزمان حتى تخلد، تلهم الأجيال وتصوغ ملامح المستقبل بضياء المعرفة والهداية.

×