الأستاذ جعفر مسعود الحنسي الندوي معلمًا وداعية وكاتبًا ومفكرًا

اللقاء الذي كان مكتوبًا أن يكون أخيرًا
18 مايو, 2025
عن جعفر بن “رشيدٍ” أطيب الخبر
19 مايو, 2025

الأستاذ جعفر مسعود الحنسي الندوي معلمًا وداعية وكاتبًا ومفكرًا

سعد مبين الحق الندوي

الدنيا دار فناء وزوال، لا بقاء لها ولا دوام، وقد جاء التأكيد على ذلك في القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالى: “كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ” (الرحمن: 26–27)، وفي السنة النبوية، بيّن النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الدنيا بقوله: “ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها” (رواه الترمذي).

فهذه الدنيا مهما طالت، فهي ظل زائل، وسراب خادع، والعاقل من عمل فيها لما هو أبقى وأدوم. على الرغم من إيماننا العميق بذلك أن فراق بعض الأشخاص يظل كالصاعقة التي تضرب القلب فتتركه مكلومًا لا يلتئم جرحه بسهولة، وتمضي الأيام وهو يتلمّس في الأفق طيفًا للراحل فلا يجده. وليس هذا الحزن ضربًا من الجزع، بل هو انعكاس لعمق الأثر الذي يتركه بعض الناس في حياتنا، فهناك من تزخر سيرته بالمآثر، وتتزين أيامه بالبذل والعطاء، فيغدو فقده خسارة للأمة بأسرها.

وهناك من نعلّق به آمالًا عراضًا، نراه مشرقًا في مستقبله، ممتدًا بعلمه وعمله إلى آفاق لم تطأها الأقدام بعد، فإذا بنا نفجع برحيله المفاجئ قبل أن تكتمل الصورة، فيخيم الحزن وتبقى الحسرة.

قد اجتمع هذان الوصفان في أستاذي الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي – رحمه الله – فقد كان علمًا في حياته، نبراسًا في فكره، وعطاؤه مثمر ومستمر، فأي قلب لا ينكسر لفقده؟ وأي عين لا تفيض شوقًا لمن كانت رؤيته تبعث الطمأنينة، وكلماته توقظ الوعي؟ فلِمَ لا نحزن؟ ولِمَ لا نبكي، وقد فقدنا رجلًا لا تجود به الأزمان إلا نادرا.

معرفتي به:

عرفت الشيخ السيد جعفر مسعود الحسني الندوي رحمه الله منذ أكثر من خمس سنوات، منذ أن التحقت بدار العلوم التابعة لندوة العلماء، المؤسسة العلمية التي كانت ولا تزال منارة للعلم والإيمان. فقد كنت أسمع عنه كثيرًا قبل أن ألقاه، لا سيما أنه كان الابن الوحيد للأستاذ العظيم محمد واضح رشيد الندوي رحمه الله، كما كانت مقالاته النيرة تسبق اسمه، تزين صفحات “صحيفة الرائد” في عموده الشهير “براعم الإيمان”، كانت كتاباته تتميز برشاقة الأسلوب وسهولة العبارة، مما جعلها قريبة إلى القلب، بعيدة عن التعقيد، قادرة على إيصال الفكرة بأسلوب جذاب ومؤثر.

ومن سعادة حظي أنني في السنة الماضية، عندما تم اختياره أمينًا عامًا لندوة العلماء، وصار يمضي معظم وقته في رحاب دار العلوم لندوة العلماء. قد أتيحت لي فرصة الاستفادة منه مباشرة عندما تقرّر أن يدرّس مادة الفكر الإسلامي لطلاب السنة الأولى في الدراسات العليا للشريعة. كانت دروسه كنزًا من الحكمة والبصيرة، وأسلوبه في الشرح كان جذابًا ممتعًا، يجمع بين العمق العلمي والبساطة في التعبير كما يجمع معنويا بين القديم الصالح والجديد النافع، بأسلوب فريد يجعل الفكرة المعقدة تبدو في غاية الوضوح. كان رحمه الله يجيد تقريب المعاني إلى الأذهان، ويضرب الأمثلة الحية، فكانت دروسه أشبه ما تكون بجلسات فكرية تضيء العقول، وتوقظ القلوب.

أما شخصيته المتواضعة الكريمة، فالكلمات تعجز عن وصفها. كان رحمه الله مثالًا للعالم العامل، المتجرد عن الأهواء، الزاهد في الألقاب، القريب من طلبته، بل كان يشعرهم أنهم أبناؤه وأحبته. لم يكن يضيق صدره بأسئلة الطلاب، بل كان يفرح بها، ويجيب عنها بسعة صدر وابتسامة أبوية تزيد من هيبته بدل أن تنقص منها. كان يحرص على غرس الفهم العميق بدل الحفظ المجرد، ويشجع طلابه على التفكير النقدي البناء المنضبط بالمنهجية العلمية الأمينة.

قبل أن ألتحق بحصته الدراسية، كنت أعرفه من خلال زياراتي المتكررة لمكتبه في صحيفة الرائد، حيث كان يشغل منصب رئيس التحرير. كنت أتردد عليه كثيرًا، خاصة عندما كنت أقوم بترجمة بعض المقالات إلى العربية بتوجيه من أستاذي الكريم الحنون الحبيب الدكتور محمد وثيق الندوي، مدير تحرير الصحيفة حينذاك. كانت تلك الزيارات فرصة للاستفادة من علمه وحكمته، وللتعرف على شخصيته الكريمة التي كانت تترك أثرًا حسنًا في كل من يقترب منها. كان رحمه الله يتعامل مع الجميع بتواضع جم، لا يفرق بين صغير وكبير، ولا بين طالب وأستاذ، بل كانت روحه الطيبة تُشع بالمودة والاحترام للجميع، وكان يلاطفني كثيرًا لصلتي بصاحبه الأستاذ محمد وثيق الندوي الذي أعتز به وأفتخر، وأعتبره أغلى وأعزّ شيء في حياتي كما أعدّ الساعات التي قضيتها في صحبته أسعد أيام حياتي، وكان الفقيد حينًا لآخر يشرّفنا بمجيئه مع صاحبه إلى رواق أبي الحسن الندوي، ويجتمع معنا في قاعة المطالعة في الطابق الثالث في هذا الرواق، ويتحفنا بكلماته ونصائحه وتجاربه بحنان الأب، ثم نستمتع بصحبتهما في المأدبة التي نقيمها لتقديم أدنى تكريم للأستاذين المتحابين الكريمين، والصديقين الحميمين، الزميلين الوفيين، وأحيانًأ يجيئ إلى غرفتنا أو إلى غرفة صاحبه فنتشرف بالجلوس معه والاستفادة من علمه، تلك ذكريات حلوة لن أنساها، جزاهما الله خير الجزاء.

وقبل أسبوع من وفاته، تشرفت بزيارته في بيته، كما حظيت بشرف مجالسته هناك مرات عديدة برفقة أستاذي الدكتور وثيق الندوي. استقبلنا كعادته بوجه طلق وبكل حفاوة، رغم وطأة المرض التي أثقلت جسده آنذاك، لكن روحه ظلت كما هي، مشرقة بالبشاشة والكرم. وحين فرغوا من حديثهم في الشأن الرسمي، بادر كعادته بكرم الضيافة، فقدّم لنا الشاي والحلوى. وحين ترددتُ في الأكل حياءً، ابتسم برفق وقال لي: “كل بلا قلق ولا تخجل، فأنت شاب.” تلك الكلمات البسيطة كانت تحمل بين طياتها عطف الأستاذ وحنان المربي. لكن من كان يدري أن ذلك اللقاء سيكون الأخير، وأن تلك الابتسامة ستبقى ذكرى خالدة في قلبي، تفيض بالشوق والأسى؟

كان الشيخ رحمه الله رجلًا عاش للإسلام علمًا وخلقًا وسلوكًا، لم يكن عالمًا منعزلًا في برجه العاجي، بل كان حاضرًا في ميادين الفكر والعمل، يسعى لنفع الناس، ويزرع الأمل في قلوب طلابه. لم يكن صاحب خطاب نظري مجرد، بل كان فكره مرتبطًا بواقع الأمة، مدركًا لمكائد الأعداء وأساليب الغزو الفكري، وكان يبصرنا دائمًا بحقائق الأمور حتى لا نغتر بالشعارات البراقة والهتافات الخادعة التي تخفي وراءها هدم القيم الإسلامية.

حول الفكر الإسلامي: رحلة في نور العلم والحكمة:

كان من توفيق الله لي أن أنهل من معين فكر الشيخ السيد جعفر مسعود الحسني الندوي – رحمه الله – وأستنير بمنهجه في التحليل والدعوة، ذلك المنهج الذي استقى أستاذي المرحوم نوره من فكر جده العظيم، المفكر الإسلامي الإمام أبي الحسن علي الحسني الندوي، واقتبس رصانته من أسلوب والده، الأديب الأريب والكاتب القدير محمد واضح رشيد الحسني الندوي. ولن أبالغ في قولي قيد أنملة إن قلت أنه كان امتدادًا لتلك المدرسة الفكرية العريقة، يسير على خطاهم بثبات، وينسج على منوالهم في الفكر والتوجيه، حتى تجلت ملامح تلك الروح العلمية والدعوية في دروسه لمادة الفكر الإسلامي. فلم تكن تلك الدروس مجرد محاضرات أكاديمية ننتظرها بشغف، بل كانت أبوابًا تُفتح على كنوز الحكمة، ومجالس علمية تُشعل الفكر، وتوقظ العقول، وتُغذي الأرواح.

تحليل الأفكار الوافدة: رؤية نقدية بميزان الشرع:

في دروسه، كان الشيخ رحمه الله يتناول الأفكار الغربية الحديثة، كالوطنية، والليبرالية، والعلمانية، واللادينية، محللًا جذورها، ومبطلًا دعاويها في ضوء القرآن والسنة، مستندًا إلى العقل والفطرة السليمة، أحاول تلخيص بعضها هناك:

* الوطنية: كان الشيخ يوضح أن حب الوطن شعورٌ طبيعيٌّ مغروسٌ في الإنسان، لكن الإسلام لا يقبل أن تتحول الوطنية إلى عقيدة تحل محل الدين أو أن تصبح معيار الحق والباطل. كان يقول: “وطن المسلم ليس قطعة جغرافية فحسب، بل هو كل أرض يعبد فيها الله بلا خوف.” فالهوية الحقيقية للمسلم في إيمانه، وليس في حدود رسمتها السياسات الحديثة.

* الليبرالية: كان يحذر من الليبرالية التي ترفع شعار الحرية المطلقة، لكنها في حقيقتها تقود إلى الفوضى الأخلاقية والاجتماعية. أوضح أن الإسلام يوازن بين الحرية والمسؤولية، فلا يجعل الفرد متحررًا من كل قيد، بل يضبط الحرية بضوابط تحفظ للإنسان كرامته وللمجتمع تماسكه.

* العلمانية: كان ينقد خلال دروسه ومقالته فكرة العلمانية التي تفصل الدين عن الحياة العامة، موضحًا أنها ليست مجرد “حياد ديني” كما يروج لها البعض، بل هي في جوهرها محاولة لإقصاء الإسلام عن توجيه المجتمعات. كان يبين أن الإسلام لا يُقصر على الشعائر الفردية، بل هو نظام متكامل ينظم الحياة كلها.

* اللادينية: كان رحمه الله يتناول بالنقد الفكر اللاديني الذي ينكر وجود الخالق، مبينًا أنه يتناقض مع الفطرة البشرية والأدلة العقلية، مؤكدًا أن الإيمان بالله ليس مجرد مسألة دينية، بل هو ضرورة عقلية تحفظ التوازن الروحي والأخلاقي للإنسان.

* النسبية الأخلاقية: كان يناقش الفكر الغربي الذي يرى أن الأخلاق نسبية، تتغير بحسب الأهواء والمجتمعات، محذرًا من أن هذا يؤدي إلى انهيار القيم وضياع المبادئ. بيّن أن الإسلام يقرّ أخلاقًا مطلقة مستمدة من الوحي الإلهي، تحفظ للإنسان كرامته وللمجتمع استقراره.

أساليب الغزو الفكري: مخططات تُحاك في الخفاء:

كان الشيخ – رحمه الله – يشير بوضوح إلى الطرق التي تتبعها الحضارة الغربية في بثّ أفكارها داخل العالم الإسلامي، محذرًا من أساليب الغزو الفكري التي تتسلل إلى العقول في هدوء، حتى تتغلغل في الوجدان دون أن يدري أصحابها، منها:

* الإعلام: لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل أصبح أداة لإعادة صياغة المفاهيم، وتشكيل القيم وفقًا للنموذج الغربي. تُروّج فيه الحرية المطلقة، حتى تنفصل عن ضوابط الدين والأخلاق، ويُشوَّه فيه الإسلام ليبدو متخلفًا عن ركب الحضارة، بينما تُقدَّم النماذج الغربية على أنها السبيل الوحيد للتقدم.

* التعليم: يُعاد تشكيل العقول الناشئة من خلال المناهج التي تُبهر الأبصار بشعارات التحديث والتطوير، لكنها في حقيقتها تعمل على إبعاد الأجيال عن دينها وهويتها. تُزرع مفاهيم غريبة تدريجيًا، حتى يعتادها الطلاب، فتتحول إلى مسلّمات لا تُناقش.

* الثقافة والفن: تحت غطاء التسلية، تتسلل القيم الغربية إلى البيوت، وتُعرض أنماط حياة لا تمتّ لمجتمعاتنا بصلة، لكنها تُقدَّم في صورة جذابة تُغري الشباب بتقليدها، حتى يألفوها ويعتبروها جزءًا من حياتهم الطبيعية. يتغير مفهوم الأسرة، ويتحول الفرد إلى محور كل شيء، فيُروَّج للفردية والانفصال عن المجتمع تحت مسمى الحرية الشخصية.

* الاقتصاد والاستعمار الجديد: لم تعد الجيوش وحدها سلاح السيطرة، بل حلت محلها القروض والمساعدات التي تُفرض بشروط تجعل الدول الإسلامية تدور في فلك القوى الكبرى. باسم “التنمية الاقتصادية”، تُرسم سياسات تُضعف استقلال الأمة، وتجعل قرارها رهينًا لغيرها.

* المنظمات الدولية: تحمل المنظمات الدولية عناوين براقة مثل “حقوق الإنسان” و”التنمية المستدامة”، لكنها في الواقع تسعى لإعادة تشكيل المجتمعات الإسلامية وفق معاييرها الخاصة، فتفرض قوانين وتوصيات لا تتوافق مع الشريعة، وتُضعف ارتباط المسلمين بدينهم.

* الاستشراق: لم يكن الاستشراق مجرد جهد أكاديمي لدراسة الإسلام، بل كان جزءًا من مشروع فكري يسعى إلى تشويه صورة الدين، وزرع الشك في تراث الأمة، حتى يُصبح المسلم غريبًا عن تاريخه، ضعيف الانتماء لحضارته، مفتونًا بالفكر الوافد دون إدراك لحقيقته.

كان الشيخ – رحمه الله – يرى أن هذه الأساليب مجتمعة تشكّل معركة فكرية صامتة، لا تُستخدم فيها الأسلحة التقليدية، بل تُغزى العقول وتُنتزع القيم بأساليب ناعمة، حتى يستيقظ المسلم ليجد نفسه قد خسر هويته دون أن يخوض حربًا واحدة. وكان يوجهنا إلى قراءة كتاب “من قضايا الفكر الإسلامي: الغزو الفكري” للأستاذ محمد واضح رشيد الندوي، وقد كان لهذا الكتاب أثر بالغ في توسيع مداركي آنذاك، ولا يزال معينًا لي حتى في كتابة هذه المقالة.

الإسلام في مواجهة التيارات الفكرية:

في مواجهة الأفكار، لم يكن الشيخ – رحمه الله – يكتفي بالنقد، بل كان يضع أسسًا للمواجهة، تعتمد على:

١. التأصيل العلمي: بإرجاع الأمور إلى أصولها، وربطها بالنصوص الشرعية، والاستناد إلى الأدلة العقلية والمنطقية.

٢. التوعية المجتمعية: بنشر الفكر الصحيح بين الشباب، وحثّهم على النظر العميق بدل الانبهار الأعمى بالحضارات الوافدة.

٣. الاعتزاز بالهوية الإسلامية: كان يردد دومًا أن الهوية ليست مجرد انتماء، بل عقيدة وحضارة، وأن المسلم يجب أن يكون فخورًا بإسلامه، لا تابعًا لغيره.

٤. توحيد الأمة الإسلامية: في أحد إفتتاحاته، كتب الشيخ رحمه الله:

“الحاجة إلى عرض السيرة النبوية بأسلوب علمي معاصر… إن من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن الإساءة إليه والتطاول عليه ووصفه بما لا يليق بشأنه، تجمع كل من يدين بالإسلام، مهما كان شغله، ومهما كان منصبه، على رصيف واحد… وتجعلهم صوتًا واحدًا وكلمة واحدة ويدًا واحدة…”. (خواطر: 146)

هذه العبارات تعكس منهج الشيخ الفكري الذي كان يركز على توحيد الأمة الإسلامية من خلال الاهتمام بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس كتاريخ مجرد، بل كمنهج حياة معاصر. كان يؤمن بأن عرض السيرة النبوية بأسلوب علمي مدعّم بالأدلة والبراهين هو السبيل لتجديد الإيمان في قلوب المسلمين، ولتوحيد صفوفهم في مواجهة التحديات.

وفي نفس المقال، أشار إلى أن الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم توقظ الأمة من سباتها، وتجدد فيها الحماسة للإسلام. فكان يرى أن الرد على هذه الإساءات لا يكون فقط بإبداء السخط، بل بإطلاق حملات شعبية للتعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتوزيع الكتب التي تبرز سيرته العطرة، وتقديم شهادة عملية على أرض الواقع تعكس أخلاقه ومنهجه.

ويقول وهو يوازن بين إنسان خاسر وإنسانناجح ويصف صفات الإنسان الناجح:

إن الإنسان سخر الله له كل ما يحتاح إليه في حياته، وأعطاه كل ما يفتقر إليه، من القوة والطاقة، والآلات والأدوات، فإذا استخدمها في معالي الأمور والوصول إلى الغايات النبيلة وتحقيق الأهداف السامية، وإرضاء خالق هذا الكون الأحد الصمد، وامتثال أوامره، وهداية البشرية إلى سواء السبيل، وربط صلة البشر بخالق الأرض والسماء، وقضاء الحياة وفقا للشريعة، يعدُّ من العظماء الذين سجِّلت أسماؤهم في التاريخ، ومن لم يستخدم هذه الطاقات ولم يعن بها؛ بل أهملها وضيعها في الأمور التافهة غير المجدية والمثمرة، فيتحمل من أجلها الحسرات إلى أن مات، ومن استخدم هذه الطاقة والقوة والعقل والذكاء والملكة والمهارة في الشر ونشره، والفساد وبثِّه، ومنع الناس عن الوصول إلى الخير والصلاح، يعد من المجرمين والطغاة والعصاة والبغاة، ويستحق العقاب والنكال من الله.

يخطئ من يرى الإنسان يعيش بأنفاسه، وعلى طعامه وشرابه، إنما يعيش الإنسان بهمته، ويسمو بهمته، ويأتي بالعجائب بهمته، وينال كل ما ينال، ويحقق كل ما يحقق بهمته، فالهمة هي التي تحيي الإنسان، وترفع شأنه، وتعلي منزلته، فإذا ضعفت همته فقد كل شيء، وتنازل عن كل شيء، ودعا الحتف إلى نفسه

خاتمة:

وفي الختام أقول أن أستاذي الشيخ السيد جعفر مسعود الحسني الندوي رحمه الله كان عالمًا وداعيةً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. كان يجمع بين العلم العميق والأسلوب الجذاب، وبين التواضع والحكمة. ترك في قلوب طلابه ومحبيه أثرًا لا يمحى، وكانت حياته كلها عطاءً للعلم والدعوة. لقد كان فقده خسارة كبيرة، لكنه ترك وراءه علمًا ينتفع به، وطلابًا يواصلون حمل رسالته، وذكرى طيبة تبقى في القلوب. رحمه الله وجعل إرثه العلمي نبراسًا يهدي الأجيال القادمة وأسكنه فسيح جناته، وجمعه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

 

×