والدي

من اختفى من بيننا؟
18 مايو, 2025
أيقونة اللغة العربية في الهند المعاصرة الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي
18 مايو, 2025

والدي

الأب… وما أدراك ما الأب؟ الأب هو الظل في الهجير، والنور في الظلام، والأمان في وجه العواصف. هو النعمة التي لا ندرك قيمتها إلا بعد فقدانها، وهو القلعة الحصينة التي تحمينا من تقلبات الحياة. الأب بستان يزرع في نفوسنا الأمل والثقة، وحضن دافئ يطمئن قلوبنا عند القلق والاضطراب، وهو شمعة تضيء لنا الدروب في أحلك الليالي، وتحمينا من عثرات الزمن.

لكن الحقيقة المؤلمة أن الإنسان لا يقدّر ما لديه من نِعَم حتى يفقدها، كثيرًا ما نغفل عن قيمة الأشياء التي نملكها، حتى يأتي يوم نجد فيه أنفسنا في أشد الحاجة إليها، كما نجد أنفسنا اليوم في أشد حاجة إلى والدنا الذي فقدناه مساء يوم الأربعاء 15 يناير 2025م، حينما خرج من بيته بعد صلاة المغرب متجهًا إلى مدينة “راي بريلي” للقاء أحد أصدقائه، الذي اعتاد زيارته كلما جاء من لكنؤ، كانت علاقته بهذا الصديق وطيدة، فهو ابن الشيخ عبد الباري الندوي، مدير مدرسة فلاح المسلمين الأسبق.

لقد رحل والدنا عنّا، لكن ذكرياته لا تزال تتلاطم أمواجها في أذهاننا، ولا بد لي في هذا المقال القصير أن أعرب عن بعض انطباعاتي عن شخصيته الفريدة، التي تميزت بصفات نادرة جعلته مختلفًا عن الآخرين.

أعلم جيدًا أن والدي نشأ في كنف أم رؤوم، تقية شديدة التدين، لا تجامل أحدًا في أمر الدين، ولا تداهن في الحق، كانت لا ترى منكرًا إلا وحاولت استئصاله، وكانت أشد ما تكون إنكارًا للغيبة، فلو سمعت كلمة واحدة منها، غضبت غضبًا شديدًا، ونَهت عنها بأشد العبارات، كانت كثيرة التضرع والإنابة إلى الله عز وجل، لا تجد راحتها إلا في الصلاة، فكانت تؤوي إلى غرفة بعيدة عن ضجيج الأطفال عند المغرب والعشاء، كي لا يشغلها شيء عن ذكر الله، فتصلي النوافل، وتتضرع إلى الله، وتبكي بكاءً يهز القلوب، تدعو الله وعيناها مخضلتان بالدموع، حتى أن أهل البيت كانوا يشعرون بالقلق عليها فيضطرون إلى الاطمئنان عليها.

في كنف هذه الأم التقية الورعة الزاهدة نشأ والدي، فحمل عنها الصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة، وقد أخبرنا جدي، فضيلة الشيخ واضح الرشيد الندوي رحمه الله، أن والدي قد حفظ القرآن الكريم في دهلي وهو لا يزال في سن مبكرة، عندما كان جدي موظفًا في قسم الإذاعة بدلهي. وذات يوم، بينما كان والدي يلعب مع أصدقائه في بيت أحدهم، سقط من السقف، وحين وصل الخبر إلى جدتي، لم تفعل شيئًا سوى أن قامت إلى الصلاة، تدعو الله بحرقة وإخلاص. ولله الحمد، حين رجع جدي إلى دهلي للاطمئنان عليه، وجده سالمًا معافى.

هكذا مرت الأيام حتى استقال جدي من وظيفته في الإذاعة لعموم الهند، ملبّيًا أمر شيخه الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي، ليتفرغ للتدريس في دار العلوم لندوة العلماء، فالتحق والدي بدار العلوم لندوة العلماء طالبًا، وأكمل دراسته العالية والعليا فيها، ثم بعد تخرجه فيها أصبح معلمًا في المدرسة العالية العرفانية بمدينة لكناو.

كانت جدتي تقيم في قرية تكية كلان بضواحي مدينة راي بريلي، حيث أصيبت بالفالج ولزمت الفراش، فلم تعد قادرة على الحركة والتنقل بنفسها، وكان والدي مدرسًا بلكنؤ، لكن وظيفته لم تشغله عن رعاية والدته المريضة، فكان يسافر كل يوم بعد صلاة الفجر إلى لكنؤ للتدريس، ثم يعود مساءً إلى قريته، ليقضي سائر وقته بجوار والدته، يخدمها بنفسه، ويقدم لها الدواء والطعام بيديه، محتسبًا الأجر عند الله.

لم تكن جدتي تشتهي الطعام، بل كانت تأباه وتسد فمها، إلا أن والدي لم ييأس، فكان يحاول برفق حتى ينجح في إطعامها، وكان يثبت على ذلك ولو استغرق الأمر وقتًا طويلًا. ورغم أن كثيرين عرضوا عليه مساعدته، إلا أنه كان يرفض، ملحًّا على أن يكون هو من يقوم بخدمتها بنفسه.

ظلت جدتي رهينة الفراش لأكثر من عامين، لكن والدي لم يقصّر في رعايتها يومًا واحدًا. كان يسافر يوميًا إلى لكناو، قاطعًا مسافة تقارب 140 كيلومترًا ذهابًا وإيابًا، دون أن تمنعه برودة الشتاء القارس أو حرارة الصيف الملتهبة من أداء واجبه تجاهها، وواصل خدمته لها حتى توفاها الله، وأثنى عليه كل من شهد تلك الخدمة النموذجية، قائلين: ما رأينا أحدًا خدم أمه كما خدم جعفر أمه.

لقد جسّد والدي أعظم صور البر بوالديه، في حياتهما وبعد وفاتهما. فقد ظل يدعو لهما بالخير، ويتصدق عنهما، بل اشترى أرضًا وبنى عليها مسجدًا، ونوى ثوابه لهما، امتثالًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من بنى لله بيتًا، بنى الله له بيتًا في الجنة.

كان والدي بعد وفاة أمه يقيم في لكنؤ طوال الأسبوع، ويعود إلى “تكية كلان” يوم الخميس، وكان يقضي أغلب وقته مع والده الشيخ واضح الرشيد الندوي، وعمه فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمهما الله، في ندوة العلماء، وقد أدخلت إقامته هناك الطمأنينة والسرور إلى قلب عمه، حتى بدت آثار الفرح واضحة على وجهه.

ثم دارت الأيام، وتوفي جدي، فواصل والدي مسيرة البر والإحسان، وخدم عمه خدمة مثالية، مؤديًا ما كان عليه من حقوق القرابة. ولم يكن ذلك آخر عهده بخدمة أهله، فعندما مرض أخوه الأكبر، الشيخ حمزة الحسني الندوي، مرضًا خطيرًا، ألزَمَ والدي نفسه برعايته، فكان يرافقه في المستشفى، ويوفر له كل ما يحتاجه من عناية.

وهكذا ظل والدي طوال حياته مثالًا في البر، ليس بوالديه فقط، بل بذويه وأحبائه، قريبهم وبعيدهم. حتى جاء ذلك اليوم الذي اختاره الله فيه إلى جواره إثر حادث مروري… وكان ما قدّره الله، ولا راد لقضائه.

لا شك أن والدي ظل طوال حياته نموذجًا في خدمة كبار أسرته وصغارهم، بل وخدمة عامة الناس، حتى أصبحت مواقفه في الإحسان مضرب المثل، يرددها الناس على ألسنتهم. لقد كانت وفاة أحبته، وبخاصة وفاة أخيه الأصغر، حدثًا جللًا ترك في قلبه أثرًا بالغًا. لكنه لم يكن ممن يستسلم للأحزان، بل اختار طريق الوفاء والعطاء، فكان يحرص بعد وفاة أقاربه على زيارة من كانت تربطهم صداقة بوالده أو عمه أو أخيه، يلاقيهم، يرعاهم، ويهدي إليهم الهدايا بنية الأجر والثواب، اقتداءً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: إن من أبرّ البر صلة الرجل أهل ودّ أبيه.”

وقد رأينا هذا السلوك يتجلى في شخصيته مرارًا وتكرارًا، حتى إن بعض من كانت تربطه علاقة بأخيه الأكبر شهد قائلًا: “كان والدك يأتي إلينا، يجلس معنا، ويتعهدنا برعايته، حتى لا نشعر بأن العلاقة التي كانت بيننا وبين أخينا الأكبر قد انقطعت بوفاته، وهكذا كان والدي يعامل كل من كان له علاقة بوالده أو عمه بمودة واحترام وتقدير، واصلًا للرحم، وهو ما شهد به أقاربه بعد وفاته، مقتديًا في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين وصفته السيدة خديجة رضي الله عنها بقولها: “إنك لتصل الرحم”، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الرحم متعلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله.

ولم يكن والدي مقتصرًا على صلة الرحم، بل كان يتعهد أقاربه بالرعاية، لا سيما من كان يعاني من ضيق ذات اليد، فيحرص على مساعدتهم ماليًا، لكن دون أن يشعر أحد، فكان يقدم المعونات سرًا، حتى إن أهله لم يعلموا بهذه الحقيقة إلا بعد وفاته، حين شهد بذلك المستفيدون من كرمه.

أما أبرز صفاته فكان الإنفاق على المساكين والمعدومين، وقد تجلّت هذه الصفة بعد وفاته، حين جاءتنا عائلات تشهد بأنه كان يتحمل النصيب الأكبر من نفقاتهم، دون أن يمنّ عليهم يومًا، أو يتظاهر بذلك أمام الناس. كما كان كثير من المحتاجين في لكنؤ يتوافدون إليه باستمرار طلبًا للمعونة، فلم يكن يرد أحدًا خائبًا، بل كان يسارع في تقديم المساعدة، وأحيانًا كان يُقال له: تأكد أولًا، هل هذا السائل يستحق الدعم أم لا؟ فكان يجيب: أنا مكلف بتقديم الدعم، والله أعلم إن كان يحتاج إليه أم لا.

وهذا السلوك هو من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال: ابغوني في الضعفاء: كما وصفته السيدة خديجة رضي الله عنها بقولها: تكسب المعدوم.

لم يكن والدي يكتفي بالفعل، بل كان يوصينا دائمًا بالإحسان إلى الفقراء والمحتاجين. حتى في يوم وفاته، قال لأخي: هذا المبلغ أعطه لفلان، اتصل به وقل له: تعال وخذ ما تحتاج إليه، فقال له أخي أمين الحسني: قد أعطيته بأمرك من قبل، فابتسم وقال: اشكر الله، فهو الذي أعطاك ووفقك، فلا تتردد في المساعدة والإعانة.

وفي مساء ذلك اليوم، بعد صلاة المغرب، كنت جالسًا معه، فقال لي: إذا أنفقت على نفسك، فأنفق في الوقت نفسه على المساكين، واجعل هذا الأمر منهجًا لك في حياتك.

وهكذا كانت حياته كلها بذلًا وعطاءً، حتى لحظاته الأخيرة، ليمضي إلى ربه مخلفًا وراءه إرثًا من الخير لا ينقطع.

كانت الضيافة من أبرز صفات والدي، فقد جسّد قول النبي صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، لم يلقَ أحدًا إلا ودعاه إلى تناول الطعام معه بإصرار، وكان حريصًا على إكرام الضيف، حتى إنه إذا كان في لكنؤ وعلم أن أحدًا متجه إلى تكيه كلان، اتصل بنا وأكد علينا أن نستقبله وندعوه إلى الطعام، ونؤدي حق الضيافة. كان فرحه بقدوم الضيف يبدو واضحًا على ملامحه، وكان يقدم كل ما توفر لديه من الطعام، لكنه مع ذلك كان يشعر بالندم، معتقدًا أنه لم يقدم للضيف ما يليق به. وهذه الصفة من خصال النبي صلى الله عليه وسلم، حيث شهدت به زوجته المطهرة قائلة: وتَقري الضيف.

أما التواضع، فكان سمة غالبة في شخصيته، فقد كان يلتقي بالناس ببشاشة وترحاب، مما جعله محبوبًا ومكرمًا لدى الجميع، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من تواضع لله رفعه الله، وظهر جليًا في جنازته، إذ شهد بعض الناس قائلين: ما رأينا مثل هذا الجمع الغفير في جنازة أحد من الناس.

والدي هو ابن فضيلة الشيخ محمد واضح رشيد الندوي، وعمه هو فضيلة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، وبعد وفاة والده وعمه، تم تعيينه أمينًا عامًا لندوة العلماء، ومع ذلك، لم تغيره المناصب ولم تؤثر في تواضعه، فظل يعامل الجميع بلطف ومحبة، سواء أكانوا من العلماء أم من العمال والخدام في ندوة العلماء. لم يكن هناك حاجز بينه وبين البسطاء، فلم يكن منصبه ولا نسبه يمنعانه من الاستماع إلى حاجاتهم، ومواساتهم، وقضاء حاجياتهم.

ولم يكن في قلبه ذرة من الأنانية أو التعالي، رغم كونه الأمين العام لندوة العلماء، فقد كان يسافر بين لكناو وتكيه كلان بالحافلة بدلًا من السيارة، وعندما يصل إلى قريته، كان يعين المحتاجين، ويرافقهم إلى السوق ليشتري لهم ما يحتاجون إليه.

لقد بلغ القمة في التواضع والأخلاق الإنسانية، مقتديًا في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم، الذي قال: “أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا”، وقال: “إن أحبكم إلى الله أحاسنكم أخلاقًا، الموطؤون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون”، بل أكد عليه الصلاة والسلام هذه المكانة بقوله: “إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا”.

كان والدي مستنيرًا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، مقتبسًا من أخلاقه، مدركًا أن رضا الله وحب رسوله لا يتحققان إلا بالاتصاف بمكارم الأخلاق، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، فصبغ والدي أخلاقه بصبغة الإسلام، واتسم بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قولًا وعملًا.

وقد شهد له طلابه بذلك، حيث كتب أحدهم في مقالة: “كنا نوجه إليه أسئلتنا دون أي تردد أو خوف، سواء في الصف أو في الطريق، حيثما أدركناه، لم يكن يوبخنا أو يزجرنا أبدًا، بل كان يجيبنا بغاية الهدوء والسكينة”، كما امتازت كتاباته ومقالاته بأسلوب سلس، ودروسه بفكر سليم ورأي سديد، ولقاءاته بحكمة وخبرة اكتسبها من كتبه ومن صحبته لوالده وعمه، وفضيلة الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله.

كان من أبرز سمات والدي البساطة في كل شيء، فلم يكن يهتم بالأطعمة الفاخرة، بل اعتاد أن يتناول ما وُجد على المائدة دون أي عيب له، اقتداءً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يكن يعيب الطعام أبدًا، ومنذ إصابته بمرض السكري، أصبح أكثر حذرا في طعامه وشرابه، فكان يكتفي بما يسد رمقه دون إسراف أو ترف.

وكذلك كان زاهدًا في الملابس، فلم يكن يحرص على شراء الجديد إلا في عيدي الفطر والأضحى، بل كان يرتدي ملابس والده وعمه بعد وفاتهما، وكان دائم النظر في شؤون الأيتام والمساكين والمنكوبين، حتى إن القلق فيهم كان يقضّ مضجعه، ويشغل تفكيره، لدرجة أنه فقد شهيته للطعام والشراب، فلم يكن يجد لذّة في أي مأكل أو مشرب إذا هناك من يعاني الجوع والحرمان.

ومن آثار زهده أنه كان يستعمل ساعة اليد الخاصة بوالده بعد وفاته، وعندما اشتريت له ساعة جديدة والتمست منه أن يرتديها، قبلها بمحبة، لكنه بعد يومين أعادها إليّ قائلًا بحب وشفقة: الآن أهديك هذه الساعة، لأن ساعة والدي موجودة عندي، وأنا أستعملها، ولا أجد ضرورة لاستبدالها بأخرى، وعلى الرغم من دخول الماء إلى ميناء الساعة القديمة وإصابتها بالأعطال، كان يصلحها ويستعملها دون أن يفكر في استبدالها.

كان والدي يتميز بالمبادرة بالسلام، حيث لم يكن ينتظر أن يسلم عليه أحد، بل كان يبدأ هو دائمًا، تطبيقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام، وكم من مرة كنا نرافقه على دراجته النارية، فإذا حياه أحد رد عليه بصوت واضح مرتفع، فإذا رددتُ بصوت منخفض، زجرني ووبخني بلطف، مؤكدًا ضرورة رد السلام بصوت مسموع، وكان يوصيني دائمًا بأن نبادر بالسلام في كل لقاء، فلم أتذكر يومًا أن أحدًا سلّم عليه ولم يرد عليه بترحاب، بل كان يضيف إلى رد السلام مصافحة حارة وسؤالًا عن الأحوال قبل أن يمضي في طريقه.

وكان من عادته كلما ركب خلفي على الدراجة النارية، أن يسألني: هل قرأت دعاء السفر؟ فإذا نبهني إليه تذكرت قراءته، ولم أذكر أنه نسي يومًا تذكيري بهذا الدعاء، فكان يقول لي: عندما تركب الدراجة النارية أو السيارة، فلا تنسَ دعاء السفر أبدًا.

كان شديد الحرص على عيادة المرضى، سواء كانوا من أقاربه أو من عامة الناس، حتى شهد أخي محمد ميان ابن فضيلة الشيخ عبد الله محمد الحسني الندوي رحمه الله، قائلًا: كان والدك يعود كل من يصاب بالمرض، ويشيّع الجنازة، دون تمييز بين معارفه وغير معارفه، وكان يؤكد أبنائه دائمًا على ضرورة عيادة المرضى والمشاركة في تشييع الجنائز.

وذات مرة، توفي رجل مغمور في حينا بـ”ميدان بور”، وكان ابنه يعمل سائقًا لدى أحد معارفنا. وبمجرد أن وصل خبر الوفاة إلى والدي، جاء من لكنؤ إلى تكيه كلان خصيصًا للمشاركة في تشييع جنازته، ثم عاد إلى لكنؤ في نفس اليوم، حرصًا على أداء هذا الواجب الإنساني.

كان للقرآن الكريم مكانة عظيمة في قلب والدي، فقد رزقه الله صوتًا جميلًا ولحنًا شجيًا، وكان يؤم الناس في صلاة التراويح في مسجد تكيه كلان، فيقصده المصلون من أماكن بعيدة للصلاة خلفه. وكان شديد التأثر بتلاوة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد رحمه الله، حتى إنه قال لي ذات مرة: كنت معجبًا بقراءة الشيخ عبد الباسط إلى حد أنني دعوت الله أن لا أموت قبل أن أراه، فتقبل الله دعوتي، وجاء الشيخ عبد الباسط إلى ندوة العلماء، فاستمعت إليه وهو يتلو القرآن، وكان ذلك اليوم يوم عيد بالنسبة لي.

لم يكن والدي يكتفي بحب القرآن، بل كان حريصًا على أن يعلّم أبناءه حسن التلاوة وإتقان التجويد، فكان يستمع إلى تلاوتهم، ويصحح أخطاءهم، ويوصيهم بالاستماع إلى كبار قرّاء مصر.

أما فهمه العميق للقرآن الكريم، فقد ظهر في استشهاده الدقيق بآياته في كل موقف، وكان كثيرًا ما يذكر لي قوله تعالى: “الرَّحْمَنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ”، ثم يقول: انظر كيف قدم الله صفة الرحمة على تعليم القرآن، مما يدل على أن معلمي القرآن يجب أن يتصفوا بالرحمة قبل كل شيء.

قال لي قبل وفاته بيوم كلمات بقيت محفورة في ذاكرتي: نرى فجوة واسعة بين علماء الدين والمثقفين العصريين، ويرجع ذلك إلى عدم التحمل والتفاهم من كلا الجانبين. فعلماء الدين لا يعترفون بأهمية العلوم العصرية التي يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في نشر التعاليم الإسلامية إلى الأمم الأجنبية، بينما ينكر أصحاب العلوم العصرية مكانة العلوم الدينية، فيزداد البعد بين الطبقتين يومًا بعد يوم، مما يتيح الفرصة لأعداء الإسلام لاستغلال هذا الخلاف لصالحهم. لذلك، يتحتم علينا أن نبذل كل ما في وسعنا لتقريب المسافة بينهما، حتى يعمل كل فريق على دعم الآخر بدلًا من التنازع.

كان والدي نموذجًا للمربي الصالح، فقد حرص على تربية أبنائه على أسس الدين، فكان يزوّدنا بالعلم النافع لحياتنا في الدنيا والآخرة. كان يعلّمنا خلال وجبات الطعام آداب التعايش والمعاشرة بالحسنى، وكان دائمًا يقول لنا: العلم والعمل هما عجلتا الحياة، فلا يمكن للإنسان أن يسير بدونهما.

لم يكن يسمح لأطفال الأسرة بالتكاسل عن الأعمال الموكلة إليهم، وكان يقول لهم بعبارات محفزة: المسابقة إلى الخيرات تصبح سهلة عندما نوقن بثوابها، ولكنها تصعب عندما لا نستشعر أجرها، فهل تريدون أن تذهب أجورها إلى غيركم؟ فكان لهذه الكلمات أثر عميق في نفوسنا، مما جعلنا نبادر إلى الأعمال الخيرية بحماس.

وكان يرى أن السهر مضيعة للوقت، خصوصًا للأطفال، فكان يمنعهم أشد المنع من الخروج بعد صلاة العشاء لزيارة الجيران، ويؤكد عليهم ضرورة النوم المبكر. كما لم يكن يحب لعب الأطفال خارج البيت في وقت الظهيرة، بل كان ينصحهم بالبقاء داخل غرفهم للراحة أو اللعب بهدوء.

وكان يؤكد للأطفال على ضرورة إلقاء السلام على أقاربهم قبل الذهاب إلى المدرسة، مما غرس فيهم عادة السلام على كل من يعرفونه ومن لا يعرفونه، فأصبحوا محط احترام الجميع.

عندما كان جدي رئيسًا للشؤون التعليمية في ندوة العلماء، وكان والدي مدرسًا في المدرسة العالية العرفانية، نصحني ذات يوم قائلًا: لا تذهب إلى جدك في الحصة الفارغة، لأنه بصفته رئيسًا للشؤون التعليمية قد يسألك عن سبب فراغك، وربما يستفسر عن أستاذك، وهذا قد يكون له تأثير سلبي عليك وعلى معلمك.

كان والدي يحرص على غرس قيم التواضع وعدم الترف في أبنائه، فكان ينصحني قائلًا: لا تعش حياة الترف والرفاهية، ولا تشترِ كل ما تشتهيه نفسك، واحرص دائمًا على إخفاء ثمن ما تشتريه، حتى لا يشعر من لا يستطيع شراءه بالحزن أو الحرمان.

وقبل وفاته بيوم، سألني: كم لديك من الملابس الدافئة؟ فأجبته: اثنان، فقال: ما زاد عن حاجتك، فتصدق به لمن هم أحوج إليه منك، وأكد عليّ ذلك بشدة.

ومن صفاته المميزة حبه للأطفال وملاطفته لهم، فقد كان الأطفال يأنسون به، وكان هو يأنس بهم. عندما كان يخرج إلى المسجد، إذا وجد طفلًا في طريقه، تبسّم في وجهه، وسلّم عليه، ولاطفه، مما جعله محبوبًا بين الصغار والكبار على حد سواء.

كان والدي شاكرًا لله في النعم، وصابرًا في الشدائد. رأيت أعظم مشاهد صبره عندما رُزِقت ابنته بمولود لكنه توفي بعد يومين من ولادته، فلم أره متأثرًا بالحزن كما كنا جميعًا، بل صبر على ذلك صبرًا جميلًا، وكان يواسي أهل بيته، ويلقنهم الصبر، ويردد: إنا لله وإنا إليه راجعون، لم يكن جزعه يطغى على إيمانه، بل ظل شاكرًا لله على نعمه، صابرًا في كل مصيبة، فجزاه الله خير الجزاء على صبره وشكره.

الذكريات عن والدي كثيرة، ولا يتسع لها هذا المقال، إننا فقدنا رجلًا كان مثالًا في كل شيء؛ كما كتب أخونا وصديق والدي الحميم الأستاذ محمد وثيق الندوي كان إنسانًا مثاليًا، أبًا مثاليًا، زوجًا مثاليًا، معلمًا مثاليًا، ومربيًا مثاليًا. كان مثالًا في التعامل مع الأصدقاء والأجانب، مثالًا في ملاطفة الصغار، مثالًا في احترام الكبار، مثالًا في البساطة والتواضع، مثالًا في الابتعاد عن أهل المناصب والثروات، ومثالًا في الزهد في الدنيا وزخارفها”.

شهدت السيدة خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم بقولها: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتُقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا أشهد أن والدي كان يتصف بهذه الصفات قدر استطاعته، ولذلك كان محبوبًا لدى الناس جميعًا.

عندما توفي والدنا، شعرنا وكأن الدنيا أظلمت في أعيننا، وضاقت الأرض رغم سعتها، لكننا نقول ما أمرنا الله به: إنا لله وإنا إليه راجعون.

إن هذه الحادثة المفاجئة خسارة لا تعوّض، لكننا نرجو من الله أن يغمره برحمته ومغفرته، ويدخله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وندعو له دائمًا بالرحمة والمغفرة، كما ندعو لمن بقي منا بالصحة والعافية والصبر الجميل.

ونرجوكم جميعًا أن لا تنسوه في دعواتكم الصالحة.

×