رجل خليق فقدناه
18 مايو, 2025من اختفى من بيننا؟
18 مايو, 2025الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي زهرة العلم والفكر والخلق والحب
عبد الودود الندوي(*)
(*) مدرس بكلية اللغة العربية وآدابها بدار العلوم التابعة لندوة العلماء بلكناؤ.
حينما يتحدث مؤرخ من مؤرخي هذا الكوكب الأرضي عن الهند وأهلها وحضارتها وثقافتها، وعلمائها وصلحائها ومجاهديها ليتحدثنَّ عن بقعة من بقاعها الطيبة التي أنجبت واحتضنت عدداً كبيرا من الأعلام الذين أدوا دورا رائعاً في مجالات العلم والإصلاح والجهاد في سبيل الله، ووصلت بركاتهم إلى العرب والعجم، وهي بقعة كريمة التربة، رفيعة الشأن فيما بين أمثالها من بقاع أرض الهند، شهيرة باسم “تكيه كلان” الواقعة في شمال الهند بمديرية “رائي بريلي”، بولاية “أترابراديش”.
وإذا ذكر المؤرخ البقعة الطبية فلا يتم ذكره إلا بذكر مجاهدها المغوار السيد أحمد بن عرفان الشهيد (1201– 1242هـ/ 1786– 1831م) وبطولاتِه الباسلة المظفّرة، وذكرِ مؤرخها الألمعي عبد الحي بن فخر الدين الحسني (1286 – 1341هـ/ 1869– 1923م) وكتابه الفريد “الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام”، وذكرِ مفكرها العبقري أبي الحسن بن عبد الحي الحسني الندوي (1333– 1420هـ/ 1913– 1999م) ومآثره الباسقات في الميادين العلمية ومنها كتابه الشهير “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”. وذكرِ أديبها الأريب محمد الرابع بن رشيد أحمد الندوي الحسني الندوي (1929– 2023م) وأعماله الحميدة منها كتابه الجليل “الأدب العربي بين عرض ونقد”، وذكر كاتبها الإسلامي وصحفيّها العظيم محمد واضح بن رشيد أحمد الحسني الندوي (1933– 2019م) ومزاياه وإنجازاته الباقيات في الأوساط العليمة.
وإذا ذكر المؤرخ هؤلاء العباقرة ليذكرن زهرة بستان البقعة التي فاح أريجها في أرجاء الهند وخارجها، وهي فقيدنا المحترم جعفر مسعود بن واضح رشيد الحسني الندوي (1960 – 2025م) الذي أطلعه الله تعالى علينا في أفق ندوة العلماء بدراً وأزال به ذلك اليأس الذي ساد نفوس أساتذه دار العلوم لندوة العلماء وطلابها ومحبيها إثر وفيات متتالية لأعيانها، وهي في سنوات قريبة قليلة، ومما لاشك فيه أن كل من يتعلق بندوة العلماء ويخفق لها قلبه أخذ يشعر أن الله قد سدّ به ما وقع في هيئة تنظيمها من ثلمة، وجبر به ما أصابها من نقص، بيد أن أمدَ رئاسته لم يزدد سنتين.
إن الشيخ جعفر مسعود الندوي كان يؤدي دوراً بارزاً في ميادين علمية ودعوية، وإدارية وعملية، فأحاول أن ألخص جوانب سيرته في أربع ركائز يستبين منها القارئ حياته المملوءة بالجهد المتواصل واليقين الكامل والعمل الشامل.
الركيزة الأولى: الانجازات الكتابية الجذابة الأسلوب!
إنني كنت تعرفت عليه منذ بدأ يجود به يراعه الفياض في صحيفة الرائد في أوائل هذا القرن من درر ثمينة وتحف قيمة لإشعال عزائم الطلاب، وصقل مواهبهم، وإذكاء هممهم، وتقويم أخلاقهم بالتسامي إلى معالي الأمور، والترفعِ عن سفسافها، وزدت به معرفة وعلاقة وحبّاً بعد أن تولى منصب أمين عام ندوة العلماء عام 2023م، بيد أنه قد كتب مقالات، وألف كتباً، ونقل كتبا إلى العربية من قبل، إنه إذا أمسك القلم لكتابة البحوث والمقالات في اللغتين الأردية والعربية لايزال يفيض بها بدون تلبث وتمكث كما يفيض البحر باللآلي الغالية واليواقيت الثمينة، وكل ذلك بأسلوب سهل بديع مؤثر يستلب الألباب، ويشعل الهمم الفاترة.
يشمل ما كتبه الشيخ جعفر الندوي من البحوث والمقالات جميع جوانب الحياة الإنسانية، لأنه ركز على أن يُحلّي الناس بحلية العلم والأدب وأن يزودهم بالأخلاق الفاضلة والخصائل الحميدة، كما حثهم على نبذ العنصرية والعنف والشدة وعلى أخذ الإخاء والمرونة والألفة والمودة، ولما كان يريد أن يرشد قارئيه إلى المشاكل والمحن التي يمر بها المسلمون في هذا العصر المتحضر يسوق لها مثالا تاريخيا – مر به المسلمون من قبل– يحمل في طيه درساً رائعاً وحلاً كاملاً.
وقد طبع له كتاب بديع يشتمل على الكلمات والمقالات التي كان قد كتبها لصحيفة الرائد تحت عنوان “براعم الإيمان” بإسم “أخي العزيز”، يمتاز الكتاب بمادته الغزيرة وعباراته السلسة السهلة، ويطلع القاري أثناء مطالعته على اتساع قريحة صاحبه وسمو فكره وعلو همته ورحابة صدره وسعة باله.
وحقّ لنا أن نستبشر بظهور كتاب له فريد بإسم “خواطر”، نرجو من الله تعالى أننا سنجد فيه ضالتنا المنشودة.
الركيزة الثانية: الأخلاق الحسنة والخصائل الحميدة!
كان الشيخ محمد جعفر مسعود الحسني الندوي قد تزين بزنة الأخلاق النبيلة والخصائل الحميدة التي تندر في كثير ممن حازوا ما حازه من المناصب والمكانة المرموقة فيما بين الفئات المثقفة وغير المثقفة، مما يميزه من بين سائر ومعاصريه التحلي بحلية التواضع، كأنه جعله شعارا لنفسه، فمن زاره أو لقيه في مكتبه وخارجه وجده أكثر تواضعًا بعد أن تولى رئاسة ندوة العلماء وغيرها من المدارس والمعاهد الدينية كالشجرة التي تبقى مستقيمة على ساقها قبل ثمارها، ولكن أغصانها إذا أثمرت وآتت أكلها خضعت إلى الأرض، كان ذلك شأن شيخنا المبجل. فلم يكن يغضب أحداً ولا يؤنبه، لا يسخر من أحد ولايحقّره.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم | إذا جمعتنا يا جرير المجامع |
وقد أكرمه الله تعالى بصفات التقوى، والإخلاص، والتوكل. وكان من أولئك الرجال الأفذاذ الذين اتخذهم الله أولياء، وقال عنهم: ﴿إِنْ أَوْلِيَائُه إلّا ُالمتَّقُوْن﴾ ولاشك أن التقوى خير لباس وأعلى مقام عند الله تعالى. قال الشاعر:
إذا المرأ لم يلبس لباساً من التقى | تقلّب عريانا ولو كان كاسيًا |
فخير خصال العبد طاعةُ ربِّه | ولا خيرَ فيمن كان لله عاصيًا |
وكذا قد ابتعد في حياته من أعظم المهلكات – الكبر– كل الابتعاد، لأنه يضر بالأصل يقدح بالدين والاعتقاد، ويحرم به المتكبر الحق، ويعمى قلبه عن معرفة الله تعالى. وقد كان قلع عن كل ما يشين المؤمن من الصفات الذميمة كالحسد والضغينة، والغيبة والشحناء. فاتخذ كل ما يزينه من الصفات المحمودة والأعمال المقبولة.
الركيزة الثالثة: الكرم والسخاء!
ومما امتاز به الشيخ جعفر مسعود الندوي صفته في البر والإحسان إلى الفئات المستضعفة من اليتامى والمساكين والفقراء، ومن تحت أمره من أصحاب المراكز الإسلامية، إني سمعت أكثر من واحد أنه لم يزل يؤثر أصحاب الحاجات بالإحسان والكرم، ويختصّهم بإسداء الجميل والتنويل، ويلتزم لهم من التحف والعطاء، فأحيانا كان يبذل أكثر ما يجده من الراتب لذوي الحاجات والعاهات، ويواسي المرضى والمصابين بالأسقام حتى يظن من يحظى بسخائه وإكرامه أنه من عشيرته وأسرته، ويشعر ما قاله الشاعر من معاني الحب والإيثار
ومِن تكرِّمِهم في المَحل أنهم | لا يعلم الجار فيهم أنه الجار |
حتى يكون عزيزا من نفوسهم | أو أن يَبِيْن جميعاً وهو مختار |
وكيف لا يمتاز بهذا الوصف الجميل لأنه كان من أولئك الناس الذين ورثوه من سلفهم الكرام والسؤدد، فهم عرفوا به حيثما حلوا وساروا.
يقول الشاعر:
بنو الصالحين الصالحون ومن يكن | لآباء صدقٍ يلقهم حيث سيّرا |
حتى وافته المنية في سبيل الإحسان والمؤاساة والتعاضد، فخرج من بيته لإسعاف زميله الذي لم يزل مصابا بمرض، فرافقه إلى المطب ثم قدر له الله ما قدره، هل نجد نموذج الإخاء والمحبة أكبر منه في هذا العصر الذي لا يربط الإنسان علاقته بأخيه إلا لغرض دنيوي أو مقصد له خاص.
الركيزة الرابعة: الشعور بالمسؤلية عما يتولاه!
إنه عمل بجد كأمين عام لندوة العلماء حوالي سنتين، وقام خلال هذه المدة بمهمات إصلاحية في ندوة العلماء وفروعها، وقام بالصلات مع رؤساء المدارس الملحقة بها، وسافر إليها بيد أن بعضها في أقصى الهند، وشارك في حفلات طلابها الأردية والعربية، فقدم إليهم نصائح وإرشادات قيمة تمهد لهم السبل نحو الرقي والإزدهار في مستقبلهم، حتى إنه أسدى آراء سديدة إلى أساتذتها لتنمية إمكانيات طلابهم العلمية والأدبية.
وآثر خلال هذه المدة القصيرة – مدة أمين عام لندوة العلماء– مصالح ندوة العلماء ودارعلومها وفروعها على مصالحه الذاتية، وإننا شاهدنا أكثر من مرة أن الطلاب كانوا يستوقفونه في الطريق لمسألة علمية أو فكرية، فكان يتحدث معهم يستمع إلى كلامهم حول ما يتوخونه برحابة الصدر قائما في مكانه كأستاذ شفوق ومرب كريم لا كمسئول عظيم، وألقى قبل وفاته بعدة أشهر خطابا تاريخيا أمام طلاب ندوة العلماء في جامعها، ولفت فيه أنظارهم إلى مقاصد ندوة العلماء الأساسية، وإلى أركانها الأربعة الذين بمثابة من سلسة ذهبية في عنقها وعمود فقري في جسدها، وأثبت أمامهم لابد لكل من يلتحق بندوة العلماء أن يطالعوا كتب هؤلاء الأربعة وسيرهم.
فبالجملة أنه قد ضحى بنفسه في سبيل الإخاء والمودة بالقلم واللسان وبذل الأموال، وقدم إنجازات رائعة في ميدان العلم والتحقيق، وقام بإرشاد الطلاب نحو مستقبلهم الزاهر.
تقبل الله منه مساعيه الجميلة وأعماله الصالحة، ورفع درجاته وأسكنه فسيح جناته.