ا لأستاذ جعفر مسعود الحسني وكتابه “أخي العزيز”
18 مايو, 2025رجل خليق فقدناه
18 مايو, 2025الخطيب المصلح جعفر مسعود الحسني الندوي
محمد نفيس خان الندوي
في تاريخ الخطابة الإسلامية، برزت شخصيات جمعت بين الفصاحة والتأثير العميق، ومن بين هؤلاء يبرز الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي، الذي لم يكن مجرد خطيب ينقل العظات، بل كان مصلحًا اجتماعيًا يضع يده على مكامن الداء في مجتمعه، ويقترح الحلول المستمدة من روح الإسلام وتعاليمه السامية.
ما أشد حسرتنا اليوم على فقد الاستاذ جعفر مسعود الحسني رحمه الله، ذلك الخطيب المصلح الذي كان صوته يوقظ الضمائر، وكلماته تنير العقول، ورسائله تهز القلوب، برحيله فقدت الأمة رجلًا لم يكن مجرد واعظ، بل كان مصلحًا اجتماعيًا، يدرك أزمات العصر، ويضع يده على مواطن الخلل، ويقدم الحلول من المصادر الإسلامية وتعاليمه السمحة العادلة.
لم يكن جعفر مسعود الحسني خطيبًا تقليديًا يكتفي بإثارة المشاعر أو سرد القصص، بل كان خطيبًا مفكرًا، يعالج قضايا عصره بمنهجية واعية، فيوازن بين الخطاب الوعظي والإصلاح الاجتماعي، فيجمع بين التأصيل الشرعي والواقع المعاش. كانت خطبه تحمل رسائل واضحة في التربية، والأخلاق، وإصلاح الأسرة، ومعالجة المشكلات الاجتماعية التي كانت تنهش كيان المجتمع الإسلامي.
تميز أسلوبه في الخطابة بالوضوح والقوة، فلم يكن يميل إلى الإغراق في الفلسفة أو التكلف في التعبير، بل كان يخاطب القلوب والعقول بعبارات مباشرة، مؤثرة، ذات أبعاد تربوية وإصلاحية. كان يعي أن الخطابة ليست مجرد فن بل مسؤولية، ولذلك حرص على أن تكون كلماته أدوات تغيير وبناء، لا مجرد ألفاظ منمقة تخلو من التأثير.
لم يكن جعفر مسعود الحسني منعزلًا عن مجتمعه، بل كان حاضرًا في ميادين الحياة، يعايش مشكلات الناس، فيتحدث عن الفقر، والتكافل الاجتماعي، والعلاقات الأسرية، وتحديات الشباب، والعلم، والعمل، وتزكية القلوب وإصلاح ذات البين، وسائر ما يهم المسلم في حياته اليومية. كان يرى أن الخطابة ليست مجرد وسيلة لنقل المعلومات، بل أداة للتغيير والتوجيه والإرشاد الى ما هو الأصلح والأنفع، ولذلك كان دائم التركيز على المعالجات الواقعية بدلًا من الاكتفاء بالمواعظ المجردة.
كان الحسني يؤمن بأن الإصلاح لا يكون إلا من الداخل، وأنه يبدأ من إصلاح النفس ثم الأسرة فالمجتمع، وكان يدعو إلى التمسك بالقيم الإسلامية في مواجهة الموجات الفكرية والسلوكية المنحرفة، ويرى أن العودة الصادقة إلى تعاليم الإسلام كفيلة بإصلاح كل خلل في حياة المسلمين.
لقد كان نموذجًا للخطيب الذي لا يكتفي بالكلام، بل يسعى لإصلاح المجتمع بالكلمة الصادقة، والفكرة العميقة، والتوجيه السديد. ومثل هذه الشخصيات نادرة في كل عصر، إذ يحتاجها المسلمون لتذكيرهم بدينهم، وتوجيههم نحو حياة فاضلة تقوم على أسس الحق والعدل.
لقد وصف الندوي الواقع بفكرة عميقة تحمل في طياتها معانٍ كثيرة، فقال:
“إن الأمة الإسلامية اليوم لا ينقصها العلم، ولا ينقصها العقل، ولا وسائل التعليم والتربية، ولايزريها اليوم التسبيحات والتكبيرات، ولا تعاني من قلة الحركات والمؤسسات، والمدارس والزوايا، ولا تفلس في الكليات والجامعات ولا الشهادات التعليمية والعقول الناضجة القوية على التدبير والحكمة، إنما ينقصها الوسطية والاعتدال، ينقصها التوازن في الفكر والسلوك، ينقصها الاعتماد على الله والثقة بالذات، ينقصها الشعور والوعي الإسلامي الصحيح، ينقصها فهم الواقع وقوة معالجته، إنما ينقصها اليوم الثقة المتبادلة واحترام الآخرين، إن الأمة الإسلامية لفي أشد حاجة اليوم إلى وجوه تضيئ بالإيمان، وعيون تستنير بالفرقان، وفوق ذلك كله إلى قلوب طاهرة من الأمراض الخلقية، مبرأة من الحقد والشحناء، عرفت قيمتها وسط الأمم وأبصرت بنورالله”. (دعوة فكر ونظر:49)
هذا الوصف الدقيق يعكس عمق أزمة القيم التي نعيشها اليوم، حيث أصبح العلم دون روح، والفكر دون هدف، والقوة دون مسؤولية. لم تعد المؤسسات التعليمية تسهم في بناء العقول الناقدة بقدر ما تُنتج أجيالًا مبرمجة، فاقدة للبصيرة والإبداع. فالخلل الذي أشار إليه الحسني الندوي ليس خللًا سطحيًا، بل هو أزمة شاملة تمتد إلى جميع جوانب الحياة، فتجعل المجتمع يفتقد إلى التوازن في الفكر والسلوك، ويفقد بوصلة القيم الأصيلة التي كانت أساس نهضته يومًا ما.
لم يكن جعفر مسعود الحسني خطيبًا تقليديًا، بل كان مفكرًا واعيًا يدرك أن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، من بناء الإنسان على أسس الإيمان العميق، والعقل المستنير، والعمل الصالح. لقد كان يرى أن الحل لا يكمن في الانبهار بالمظاهر أو السعي وراء التطورات المادية فقط، بل في العودة إلى القيم الإسلامية الأصيلة التي تبني الإنسان من الداخل، وتجعل منه شخصية متوازنة بين الروح والجسد، بين الإيمان والعمل. كان يكرر في خطبه أن الأمة لن تستعيد مجدها إلا إذا استعادت يقينها بالله، وأخلصت نواياها، وأعادت بناء مجتمعاتها على أسس العدل والإخلاص والتعاون.
لم يكن الحسني الندوي يكتفي بالنقد، بل كان يقدم الحلول، وكان يدعو إلى مؤسسات تعليمية واعية، وتنظيمات متماسكة، وعقل ناضج، وقلب يفيض بالإيمان، وهي كلها عناصر ضرورية لإنهاض أمة تاهت في خضم الصراعات المادية والفكرية.
وإن دعوة الاستاذ الحسني الندوي ليست مجرد كلمات، بل هي نداء لكل فرد ومسؤول ليعيد النظر في دوره ومسؤولياته تجاه نفسه ومجتمعه، وليساهم في بناء مستقبل أفضل قائم على الإيمان الراسخ والقيم النبيلة. فالأمم لا تنهض بالماديات وحدها، بل تحتاج إلى روح جماعية متماسكة، وإلى وجوه تضيء باليقين، وقلوب تفيض بالإيمان، حتى تستعيد مسارها الصحيح في هذا العصر المضطرب.
لقد رحل الأستاذ الحسني لكن صوته لا يزال يتردد في الآذان، وكلماته لا تزال تنبض بالحياة، تلهم العقول، وتوقظ القلوب. فقدناه جسدًا، لكن أثره باقٍ، وفكره سيظل نبراسًا لمن يسيرون على درب الإصلاح والتجديد. كم نشعر بالحسرة على رجل عاش حياته داعيا إلى الحق، صادقا في النصيحة، مخلصا في الدعوة، ولم يهادن في سبيل الله.
كم كنتِ – يا أمتنا – بحاجة إلى أمثاله في زمنٍ كثرت فيه الأصوات وقلَّت فيه الكلمات الصادقة، في زمنٍ أصبح فيه الخطاب وسيلة للتسلية لا للتغيير، وأضحى كثير من الخطباء أسرى للبلاغة دون تأثير، بينما كان هو يرفع لواء الحق ويصدح بالصدق، ويرشد الناس إلى سواء السبيل.
ما أشد فقده على كل من عرفه، وما أعظم خسارتنا برحيله! لكنه ترك ثروة خالدة للمقالات العلمية والخطب القوية والمواعظ الصادقة التي ستظل منارة نور لمن أراد السبيل إلى الاصلاح.
رحمك الله يا جعفر الحسني، وطيَّب الله ثراك، وجزاك عن أمتك خير الجزاء. لئن غابت شمسك عن دنيانا، فإن نورك لا يزال يشع في القلوب، وسيرتك ستبقى حيَّة في ذاكرة الأمة، تهدي الحائرين، وتوقظ الغافلين، وتلهم السائرين على طريق الدعوة والحق.