السيد جعفر مسعود الحسني الندوي (رحمه الله) مسيرة إبداع متأخر وعطاء مثمر
18 مايو, 2025ا لأستاذ جعفر مسعود الحسني وكتابه “أخي العزيز”
18 مايو, 2025رجل قرآني فقدناه
د. محمد فرمان الندوي
رجل تربى على مائدة القرآن، فأخذ منه بنصيبه، وأدى حقوقه وواجباته، فكان القرآن الكريم مصدره السلسال، ومنبعه الرقراق، فكان يؤمن به، ويتعبد بتلاوته، ويتلذذ بقراء ته، ويتدبر في آياته وسوره، ويستخرج منه كنوزًا مخبوءةً، ودررًا مدفونةً، ويستنبط منه جواهر ومعاني وحكمًا مخفية، ويعرضها أمام الخاصة والعامة، بأسلوب جذاب أخاذ بمجامع القلوب، فكل من استمع اليه أو جلس لديه، أو قرأ كتبه، وأصغى إلى محاضراته شهد بأنه رجل قرآني، وقد صدق الأستاذ المفكر سيد قطب رحمه الله في تفسيره: “الحياة في ظلال القرآن نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، ونعمة ترفع العمر، وتباركه وتزكيه، والحمد لله”. (مقدمة الكتاب)
نال صاحبنا المفضال هذا الذوق القرآني من الجامعة القرآنية المعروفة بدار العلوم لندوة العلماء، التي تتوخى من خلال المهارة في العربية فهم كتاب الله وتدبر معانيه ومفاهيمه، فكان هناك نبغاء في البيان القرآني، وجهابذة في الكشف البلاغي أمثال العلامة السيد سليمان الندوي والشيخ محمد أويس النجرامي الندوي والشيخ عبد الباري الندوي، والشيخ الإمام أبوالحسن علي الحسني الندوي، والشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي والشيخ السيد محمد واضح رشيد الحسني الندوي، وأستاذنا الدكتور سعيد الأعظمي الندوي، فإنهم في الواقع رسل الكلام، وملائكة البيان كما قال بعض الأدباء، وخبراء بدقائق القرآن وما يوجد فيه من اللؤلؤ والمرجان ۔ نشأ وترعرع صاحبنا المفضال برعاية كريمة من هؤلاء الأعلام القرآنيين، فاقتدى بقدوتهم ونهج منهجهم حتى أتى بعجائب قرآنية ونكت ولطائف علمية.
عاش صاحبنا المفضال القرآن الكريم منذ نعومة أظفاره، إنه حفظ القرآن الكريم فأتقنه، وأحكم حفظه،وقد أشرف عليه الأستاذ الحافظ حشمة الله رئيس قسم الحفظ والتجويد بدار العلوم لندوة العلماء سابقا، وقد حالفه التوفيق الإلهي أنه بدأ يؤم الناس في صلاة التراويح في مسجد دار ة الشيخ علم الله الحسني بعد إكمال حفظ القرآن الكريم، وكان يصلي خلفه الإمام السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي، فنال من دعائه ولفتته الحانية، وكان الإمام أبوالحسن الندوي على قمة عالية من القرآن الكريم تلاوةً وفهمًا وتدبرًا وإمعانًا، وقد نال هذا الذوق من أمه الحنون، وأستاذه الشيخ خليل عرب، والعلامة السيد سليمان الندوي، وكان يقول: “فكل من يطالع كتاباتي ومؤلفاتي يعرف أن منبعها من القرآن”، صحب صاحبنا المفضال هذا الإمام الألمعي، فانتقل إليه هذا التذوق القرآني إلى حد كبير، فأصبح القرآن لحمته وسداه، وروحه وغذاءه، حتى كانت قراءته شجية، وكانت لهجته ندية وطرية، وتلاوته كا نت رائعة، وكان مولعًا منذ صباه بسماع قراءة القراء العظام أمثال المقرئ عبد الباسط عبدالصمد، والمقرئ محمد صديق المنشاوي، والمقرئ محمود الطبلاوي، والمقرئ خليل الحصري، فيسمع هؤلاء القراء كثيرا، وكان يوصي أبناءه بتصحيح المخارج، وكان يقول: كنت كثير الإعجاب بتلاوة المقرئ عبدالباسط عبد الصمد، فكنت أدعو الله تعالى أن يوفقني لزيارته قبل موتى، فتقبل الله دعائي، وزار المقرئ عبد الباسط ندوة العلماء عام 1980م، فتشرف صاحبنا المفضال بزيارته واستمع إلى تلاوته، وكان يقول: كان ذلك اليوم عيدًا مشرفًا لي، وقد وفقه الله لإلقاء دروس القرآن في مسجد حيه بأمين آباد لكناؤ، فاختار أسلوبًا مبتكرًا لإلقاء الدرس، وكان يركز أولا على تجويد الحروف ومعرفة الوقوف، وأداء كل كلمة من محلها الصحيح، وتحسين الأصوات والتغني بالقرآن، ثم يفسر الآيات القرآنية تفسيرًا موافقًا لنفسية المستمعين، وقد بدأ سلسلة دروس القرآن في مسجد دارة الشيخ علم الله الحسني منذ سنة، واختار لها سورًا قصارًا من الجزء الثلاثين، فقال في درسه لسورة التكاثر: التكاثر يأتي لثلاثة معان: (1) الزيادة والكثرة (2) التسابق في حصول شيء، (3) التفاخر بالأشياء المادية، ويتضمن التكاثر هذا المعنى أيضا أن يعتبر الانسان فوزه وفلاحه نتيجة جهده وسعيه، فالواقع أن التكاثر جريمة شنعاء، وإثم عظيم عند الله تعالي، يجعل الإنسان غافلاً عن أمور الآخرة ۔ وكان صاحبنا المفضال يتكلم أثناء التكلم والتحدث عن النكت القرآنية، مرة شرح نكتة لطيفة في قوله تعالى: الرحمن، علم القرآن ۔ قدم الله تعالى هناك اسم الرحمن على تعليم القرآن، فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن يكون المعلم رحيما ودودًا، شفوقا ينبسط للطلاب، وينفتح للتحدث معهم والتكلم بهم، حتى لا يكونوا خائفين أمامه، ويكون المعلم مثالا للخلق العظيم، قال تعالى: فبما رحمة من الله لنت لهم (آل عمران: 159)، وكان صاحبنا المفضال خلال خطبه في الحفلات والنوادي يستشهد بالآيات القرآنية، ويستدل بها، ويشرحها شرحًا وافيًا كافيًا، ولا يدع مجالا للغموض والإبهام، وكثيرًا ما يجمع آيات كثيرة حول موضوع واحد، حتى كانت خطبته عبارة عن التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ۔ وقبل وفاته بعدة أيام خطب في حفلة، فاستشهد بهذه الآية من سورة يوسف: إنه من يتق ويصبر، فان الله لا يضيع أجر المحسنين (يوسف: 90)، فجعل التقوى والصبر سلاحين أحدين لمواجهة كل فتنة وبلية، كما خطب أمام عامة الناس حول المدارس الاسلامية، فاستشهد بقصة سيدنا يعقوب عليه السلام: ماتعبدون من بعدي. (البقرة: 133).
كلما كتب صاحبنا المفضال مقالا تشرب فكرته من روح القرآن الكريم، واستمتمع برحيقه” فنثر من كنانته كل ما احتفظ به ذهنه من مدلولات، وكتب ما يملي عليه قلمه من معلومات، اقرأ ۔ يا تُرى ۔ كيف يكتب صاحبنا المفضال عن حقيقة الإيمان وحلاوته: “إن الايمان بقدرة الله عزوجل، والإيمان بأن الأمر كله بيده، وأن المحن والبلايا التي نواجهها لا تأتي إلا من عنده، ولا تسقط ورقة،ولا تتفتح زهرة، ولا يتهلل وجه، ولا ترتسم بسمة، ولا تنحدر دمعة إلا بإذنه وفي موعدها: وعنده مفاتح الغيب، لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (الأنعام: 59)، هذا الإيمان الراسخ الكامل يزيل كل ما يصيبنا من الهم، ويعترينا من القلق” (خواطر: 62)، وقد شهد بذلك الدكتور حسن الأمراني رئيس رابطة الأدب الاسلامي العالمية: إن الكاتب لا يكتفي بالكتابة العاطفية التي تحرِّك الوجدان، بل يجمع من الحجج والبراهين ما ينصر به أطروحته، وهذه الحجج والبراهين متنوعة، وفي مقدمتها نصوص الكتاب والسنة”. (مقدمة كتاب: خواطر)
وقد كتب صاحبنا المفضال مقالاً حول قصص القرآن الكريم: ذكر فيه أهمية القرآن ومكانة قصصه وغاياتها للحياة الإنسانية، فالقصص عند كاتبنا المفضال تربينا على قيم أخلاقية مراقية، وتعلمنا أسلوب الدعوة المؤثرة القوى البليغ المدعم بالحجج والبراهين، لأن القصص القرآنية للعبرة لا للمتعة والتسلية. قال تعالى: “لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب” (يوسف: 111).
وقد ذكر كاتبنا ثلاث قصص: قصة إبراهيم، وقصة يوسف وقصة موسى، واستنبط منها ثلاث ركائز: قصة إبراهيم نموذج عملي لتعلم أدب الحوار، وقصة يوسف مثال للعلم الذي أخرجه من السجن، مثال للعفو عند المقدرة ولكثير من أسباب السعادة الدنيوية، وقصة موسى مثال لعدم المداهنة، واتخاذ موقف للصمود في مواجهة الطغاة والجبابرة أمثال فرعون وقومه. (أخي العزيز: 42–43).
(1) قد تمت كتابة هذا البحث على الكمبيوتر في آخر أيام حياته، وحاليًا تجري مراجعته وسيطبع قريبًا بإذن الله. (رئيس التحرير)
ومما يدل علي شغفه الزائد بالقرآن الكريم أنه أعد بحثه العلمي لنيل شهادة الماجستير من دار العلوم لندوة العلماء حول: الإنسان في القرآن(1)، وقد قرأت هذا البحث من أوله إلى آخره، فوجدته من خيرة البحوث العلمية، والدراسات الموضوعية التي تقدم إلى الجامعات العالمية، قام صاحبنا المفضال بإعداد هذا البحث تحت إشراف الأستاذين الكريمين الجليلين الشيخ أبي العرفان خان الندوي، والأستاذ عبد النور الندوي من كبار أساتذة دار العلوم سابقا، واستفاد الباحث خلال إعداد البحث من المصادر الأصيلة، كما قسم بحثه الي أربعة فصول، وذكر فيه تفاصيل لازمة حول الموضوع: الأمم الجاحدة والطغاة المفسدون في الأرض، ونماذج الأنبياء والرسل كأفضل نموذج، والاختلاف في الصور البشرية وحكمته، وأضواء على طبيعة الإنسان وغيرها من العناوين البازرة.
يقول الباحث عن سبب اختيار الموضوع: “إني لما رأيت ما كتبه علماء النفس عن الإنسان وغرائزه وميوله وطبائعه وصلاحياته واستعداداته، وفكرت أن هؤلاء العلماء مهما بلغوا في العلم والتجربة لا يتمكنون من أن يصوروا أنفسهم أكثر مما صوره خالقهم، وأن يوضحوا طبائع الإنسان أكثر مما بينه القرآن” وقد تميز هذا البحث بالتدقيق والتحقيق، فمثلا يتحدث عن كلمة الإنسان: “الإنسان مشتق من النسيان، يقول أبو تمام:
لا تنسين تلك العهود فإنما | سميت إنسانا لأنك ناسي |
وقال بعضهم: “الإنسان مشتق من الأنس، لأن الأنس من طبيعة الانسان، وقال علماء النفس: الإنسان حيوان اجتماعي يحب الاختلاط والتآلف ويبحث عن رفيق له، يؤنسه ويستأنس به”. (الإنسان في القرآن)
على كل، فقد كا نت علاقة الأستاذ الحبيب بالقرآن الكريم مثالية ونموذجية، وهي جديرة بأن تقتدى، وتحاكى وتنسج علي منوالها، وتتخذ شعارًا ودليلاً إلى كنوز القرآن الكريم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ۔ قال تعالى: إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور (فاطر: 29) يقول شاعر عربي:
بلى! إنه القرآن عز ورفعة | ولكنه للآخرين ضلال |