السيد جعفر مسعود الحسني الندوي (رحمه الله) مسيرة إبداع متأخر وعطاء مثمر

يا عين جودي بالدموع على جعفر ولا تجمدي
18 مايو, 2025
رجل قرآني فقدناه
18 مايو, 2025

السيد جعفر مسعود الحسني الندوي (رحمه الله) مسيرة إبداع متأخر وعطاء مثمر

محمد سلمان نسيم الندوي(*)

(*) نائب مدير معهد الدراسات العلمية، ندوة العلماء بلكناؤ.

الخلود ليس بطول الحياة، ولا بعدد الأيام، بل بعظمة ما ينجزه المرء، وبمدى التأثير الذي يتركه، والتاريخ سجل العجائب وديوان الغرائب، فيه أمثلة من كل نوع من أنواع الحياة، لا تتشابه بل تكاد تتناقض، ففيه من قصرعمره ولكن ثَمُنَ وغلا عمله فتخلّد اسمه، وثبت أن العبرة ليست بـ”كم سنعيش؟” بل بـ”ماذا سنصنع ونترك؟”. وفيه من تأخر في الظهور بسبب الظروف، ولكنه عاد في أواخر حياته ليحقق إنجازات بعد فترة من الصمت والخمول، إيذانا بأن الأمل لا يموت، وبأن الفرصة تأتى ولو بعد حين، وبأنها لوضاعت فلن تعود، وفيه من لمع نجمه في علياء السماء ثم اختطفه الموت فجأة وهو في قمة عطائه، واستنزله اقتسارا وهو في ذروة طموحه وأوج فضائه، تذكيرا بأن الله غني عن العالمين.

وممن تنطبق عليهم هذه الظاهرة في تاريخنا كثيرون، ومنهم أبو تمام الطائي والإمام النووي والشاه ولي الدهلوي والخوارزمي وأبو القاسم الزهراوي ومالك بن نبي وغيرهم، وهناك آخرون معاصرون تنطبق عليهم هذه الظاهرة التاريخية كذلك، فمنهم السيد قطب من مصر، وأحمد حسين ديدات من أفريقيا، ومحمد الحسني من الهند.

كان صاحبنا الفقيد السيد جعفر مسعود الحسني الندوي(رحمه الله) ممن تنطبق عليهم ظاهرة التاريخ هذه، من نواحيها الثلاث، وهذا الانطباق والتشبيه – بالطبع – ليس تشبيه العبقرية بالعبقرية، ولا حتى تشبيه النبوغ بالنبوغ، كلا، بل هو تشبيه ظاهرة تاريخية بظاهرة صاحبنا الفقيد(رحمه الله) في بداية حياته، ووسطها ونهايتها، ونقطة الالتقاء هي ظاهرة التاريخ فحسب، وإنه لمن المفارقات العجيبة في حياة صاحبنا، أما الذين تمثلت بهم من رجال التاريخ لبيان الظاهرة فهم أعلام، وعباقرة، وجهابذة، يزدان بهم التاريخ، ويبخل بهم الزمان، وإياك والظن بأنى أحسب أنّ صاحبنا الفقيد كان واحدا منهم، قريبا أو بعيدا، لأني أنا أعرف صاحبي (رحمه الله) جيدا، ولاينبِّئك مثل خبير.

1– توفي (رحمه الله)عن ستين عاما، نعم، الستون سنة ليست قصيرة، ولكنها قصيرة في أمر صاحبنا الفقيد، لأنه بدأ مسيرة الكتابة الفنية بعد الأربعين، وإن كانت سبقت له ترجمات وكتابات ونثر بسيط، وبدأ مسيرة الخطابة التوجيهية الرائدة بعد الخمسين،وإن كانت له من قبل كلمات مسموعة وآذان صاغية، وبدأ مسيرة الإدارة الفعالة الحكيمة بعد الخمس والخمسين، فهذه العشرون من حياته المتأخرة الدافقة المعطاءة تختلف تماما عن الأربعين من حياته المتقدمة الصامتة الهادفة، أليست العشرون قليلة بل أقل في ميزان الستين؟ بلى، أي وربي! ولكن العشرين هذه تركت بصمات لن تُمحى، وآثارا لن تُنسى.

2–والمفارقة الثانية في حياته، أنه من أولئك القلائل في التاريخ من خرج من عرين خمولته بعد مرحلة شبابه، وأتى بما لم يأمل به منه أقرانه ونظراؤه، بل قلب صاحبنا الموازين فعاد الكهل غلاما يتتلمذ على أبيه، غير أنه تلميذ حنّكه طولُ الخبرة، وأذكى وعيه نضجُ الفكرة، وسهّل طريقه جمالُ الطبيعة وسلامةُ الفطرة، فقدح الأستاذ زناد فكره فانقدح، وبعثه فانبعث، يحكى صاحبنا حكاية إعادة صياغته التعليمية من التدريس إلى الدرس، فيكتب عن والده الذي راش قلمه وثقّف يراعه:

“فلولا هو، ولولا طبيعته الحنونة، ولولا أسلوبه الحكيم في التوجيه، ولولا عنايته الفائقة بتربية تلامذته، ولولا قدرته المتميزة على الكتابة، وطريقته المنفردة في تصحيح الأخطاء، وإبداعه في إعجاب بما كتب للتشويق والتشجيع وإنشاء الثقة، لما أمسكت بالقلم للكتابة، لابتعادي عنها أيام دراستي كلها، وعدم اهتمامي بها، وعدم جديتي لها.”

ومن المثير للعجب فيه أن كهلا بدأ بادئ ذي بدء مشوراه الكتابي الفني حول ما يطلق عليه بـ”أدب الأطفال”، وهو فن دونه خرط القتاد، وإنه والله صعب المنال، حتى لمن اكتهل في هذا الفن، فما ظنك بمن هو فيه مازال دارجا، وقد عانى منه صاحبنا ما عانى فيكتب:

“…أعطاني(أي أبوه) هذه المسؤولية الملقاة على عاتقي رغم عدم كفاءتي لحملها على الكتابة التي كنت أواجه صعوبة فيها في البداية، أواجه صعوبة في اختيار الموضوع، أواجه صعوبة في كيفية البدء، أواجه صعوبة في عرض الفكرة، أواجه صعوبة في استخدام الكلمات المناسبة للموضوع لقلة بضاعتي في الألفاظ والكلمات. لكن حُلَّت هذه المشكلة بالإقبال على القراءة لكل نوع من البحوث والمقالات،والاستماع لكل نوع من التقارير والحوارات والأخبار، والمحاولة المستمرة للكتابة رغم صعوبتها عليّ امتثالا لأمر والدي الجليل؟.”

خرج صاحبنا من هذه المشكلة ظافرا ومنتصرا، بل ربما فاق بعض من عالج هذا الفن باختياره منهجا توجيهيا ولكن رائعا ومشوقا، فلم يختر منهج القصص والحكايات، فأطفال اليوم أطفال عصر الذكاء الاصطناعي وليسوا أطفال عصر “كليلة ودمنة” ولا أطفال عصر”كامل كيلاني”، ولم يختر منهج “القراءة الرشيدة ولا الراشدة” ولا مناهج “قصص النبيين” او”قصص من التاريخ” أو”القصص الأدبية”،لأنه لم يكن مؤلفا بل هو كاتب في عمود في جريدة، لها حد زمني وحد مكاني، فاختار أسلوبا كان أنسب لعصره ولعموده ولمخاطَبيه الذين لم يكونوا كلهم أطفالا ولم يكونوا كلهم شبانا، بل كانوا من الطبقتين، فما ذاك المنهج؟ توجيه وترشيد في ثوب حديث أخوي نصوح إلى جانب أسلوب معاصر مع إحكام التركيب، وجزالة التعبير، ونقاء الديباجة، وقوة العاطفة، وإشراقة الروح، فكان عموده توجيها للعقول، وترويضا للسان، وتدريبا للقلم معا.

3–توفي (رحمه الله) وهو في قمة عطائه، وذروة سنامه نحو الأريحية، والتلقائية والعفوية، وانفتاق القريحة، ونضج الموهبة والقدرة الذهنية، ونحو الابتكار والاستقلال في الأدب والفكر.

والمفارقة في هذه النقطة استقلاله بشخصيته وبفكره وبأسلوبه عما يحيط به، فإنه ظل طول حياته تحنو عليه ظلال عمه السيد محمد الرابع، ويكتنفه كنف أبيه السيد محمد الواضح، وتحيط به دوحة أسرته، وفيها رأسها الرئيس السيد أبو الحسن الحسني الندوي، وفيها غصنها الغُصَين محمد الحسني (رحمهم الله جميعا)، ولكل من هؤلاء منهج يخص به من التفكير والكتابة، ولكن صاحبنا لم يكن مقلدا لأيهم – ولاحتى لأبيه – بل كان مبتكرا ومستقلا، رغم أنه كان بارا بهم، وطوع إشارتهم، نقدم فيما يلي بعض الأمثلة لابتكاره واستقلاله.

1–نجد في كتاباته صرامة الموقف وصراحته، خاصة فيما كتبه عن فلسطين والقدس، وكفانا دلالة على هذا الموقف الصارم والصريح بعض العناوين لكتاباته، منها ” ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة ” و”أهداف حققتها عملية طوفان الأقصى”، ومن عرف أباه وعمه السيدين(رحمهما الله) وأسلوب تفكيرهما الحكيم في القضايا العالمية عرف أن موقف صاحبنا كان أكثر صراحة وصرامة، وإنه إلى جانب مساندته الصريحة للمقاومة الفلسطينية لاينسى نقد المحاولات التي تضر بالقضية فيسأل: “من المستفيد بهذا التطبيع؟” كما لايفوته تذكيرُ العالم العربي، ولا سيما تذكير قلب العالم العربي والإسلامي؛ جزيرة العرب بالمحافظة على مكانتها وقدسيتها ورسالتها، ولكنه لاينسى أن التذكير لابد من معالجته بركائزه، والدخول فيه من بابه فيكتب تحت عنوان “النصيحة لا الفضيحة”:

“أصبحنا اليوم لا نفرق بين النصيحة والتعيير، وجعلنا نسمي التوبيخ بل السب والشتم نصيحةً نثاب على إسدائها، ونمدح على بذلها، ويصفق لنا على التجرؤ عليها، ونعد من المتكلمين بكلمة حق عند سلطان جائر، فيظلنا الله يوم لا ظل إلا ظله، رغم أن ذلك السلطان الذي نتناوله بالسب والشتم ليس له أي قيمة في بلادنا، وليس له أي نفوذ فيمن حولنا، وفيما يتعلق بنا، ولا يستطيع ذلك أن يعاقبنا ويجور علينا أو يحكم علينا بما يشاء.”

2–من ميزة أسلوبه الإيجاز الشديد في وضع العناوين، فبعض عناوينه كلمة واحدة فحسب، مثل “الفراغ” و”العمل” و”الوصايا” و”الجيران” و”فكر” و”الأم”، وهناك عناوين تلمس فيها جانبا من الابتكار مثل”الكرة في ملعبنا” و”الاحترابيون” و”الفلتر الثلاثي”، وهناك عناوين شاملة، وافية، معبرة عن مضمون المقالة كلها، حتى لولم تكن المقالة لكانت العناوين وحدها كافية لبيان المراد وإصابة الغرض، مثل” المصالح هي التي تقرر المواقف” و”من تبادل التهم إلى الجد والصرامة والعمل” و”للغرب وجهان”، ومن إبداعاته في وضع العناوين التنويع، فقد كتب أكثر من مأتين وخمسين مقالة، ووضع لكل منها عنوانا مستقلا– سوى مرة أو مرتين– رغم أسباب التشابه والتوارد خلال فترة كتاباته من تكرار المواسم والمناسبات، ورغم مخاطبة طبقة واحدة من الناس أكثر من خمس عشرة سنة، وهي طبقة الشباب وطلبة العلم، فهذه الميزات في وضع العناوين لا تحصل لمن يكتب متواصلا إلا إذا استقل فكره، وتنوعت ثقافته، واستمرت دراسته.

3–من ميزات كتاباته الإكثار من الاقتباس، والتنويع فيه، فممن اقتبس منهم، مفسرون ومحدثون، ومفكرون؛ شرقيون وغربيون، وشعراء وأهل القلوب، وكثرة الاقتباس تدل على كثرة دراسته وتعدد ثقافته في جانب، وعلى دقته في الأمانة الكتابية في جانب آخر.

4–تمتاز كتاباته بتمثيل الطرق المختلفة للأسلوب، إنه خريج دار العلوم لندوة العلماء فهو يمثل عن جدارة مدرسة ندوة العلماء، وهو كذلك ربيب مدرسة الشيخ أبي الحسن كما قال الشاعر الأديب الدكتور حسن الأمراني، ومدرسة الشيخ أبي الحسن لها جهات يمثلها نوابغ من أسرته وتلامذته، فصاحبنا لم يقلد جهة واحدة بل صنع منهن طاقة زهر، فقد أخذ عن الشيخ أبي الحسن (رحمه الله) روحه الوثابة، وطبيعته السديدة، فهو في جميع كتاباته روح تتحرق وقلب يتفطروعقل يتفكر، يكتب عن الغرب:

“الغربُ غربٌ يغربُ فيه كلُّ ما نعده من الفضيلةِ والحياءِ والحشمةِ والكرامةِ والأخلاقِ والقيمِ الإنسانيةِ الرفيعةِ، الغربُ غربٌ، ومن غرائبِهِ أنَّ له وجهينِ؛ وجهٌ يبديه لنا، ووجهٌ يُخفيه عنّا، ولسانينِ؛ لسانٌ يتكلمُ به مع أهلِهِ، ولسانٌ يتكلمُ به مع غيرِهِ، وموقفينِ؛ موقفٌ يختارُهُ للأقلياتِ المسيحيةِ التي تعيشُ في ظلِّ الحكمِ الإسلاميِّ، وموقفٌ يقفُهُ من الأقلياتِ المسلمةِ التي تعيشُ في الدولِ التي يحكمُ فيها المسيحيونَ.”

وأخذ عن الكاتب والمفكر الإسلامي محمد الحسني(رحمه الله)قوة أسلوبه وقوة عاطفته، يكتب سائلا عن ثورة الربيع:

“شهد العالم الإسلامي خلال عدة سنوات ماضية، ثورات شعبية، وانقلابات عسكرية، وتحولات سياسية كبيرة، فهل تغير الوضع؟ واستقر الأمن؟ وقام العدل؟ وساد الهدوء؟ وتحررت البلاد من التبعية للقوى الكبرى التي بسطت نفوذها في الشرق والغرب، وخرجت من سيطرة الأنظمة المستبدة المتهمة بسرقة الأموال ونهب الثروات وسلب الحريات؟”.

يكتب عن دولة بكل صراحة وقوة بدون تصريح باسمها، ولكن أسلوبه القوي الحاكي المعبر يقرب ذهن القارئ إلى الدولة التي يعنيها:

“هناك دولة لا تزال تخدعنا وتخدعنا بغاية من الدهاء والتخطيط، ودراسة واستغلال للظروف، تخدعنا تارةً بمعاداتها للأنظمة العربية، ومحاربتها للولايات المتحدة الأمريكية، وتحديها للكيان الصهيوني الإسرائيلي، وتارةً تخدعنا باحتجاز ناقلة النفط البريطانية، وإسقاط الطائرة المسيرة الأمريكية، وإلقاء القبض على عدد من الأمريكيين بتهمة التنصت عليها، وتارة تخدعنا باستنكارها للزعماء العرب لتحالفهم مع الغرب والتطبيع مع إسرائيل، وتظاهرها بالعداء لكل من يقف في وجه الإسلام أو يمس به أو يتطاول عليه، تارة تخدعنا بتأييدها للحركات الإسلامية التي يتعرض أعضاؤها للاعتداء والظلم والاضطهاد في بعض البلدان الإسلامية ودعمها بالمال والسلاح، حتى يعتبر بعض الشباب أنها هي الدولة المسلمة الوحيدة التي تفكر فيهم وتعمل لهم فيهتفون بها دون النظر إلى ما تحمل لهم من الحقد والكراهية، وتارة تخدعنا بوصف ثورتها التي خدمت الولايات المتحدة الأمريكية وأوقعت العالم العربي كله في حضنها.”

أخذ صاحبنا عن عمه السيد محمد الرابع(رحمه الله)سهولة التعبير وسلاسته، يختم مقالته حول الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم:

“فلا بد لنا أن نسأل قبل أن نفعل شيئا من أحدثه؟ ومن اخترعه؟ هل فعله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ هل فعله الخلفاء الراشدون؟ هل فعله الصحابة الكرام؟ وهل نحن أحرص على الدين منهم؟ وعلينا أن لا ننخدع بمن يقولون: إن هذه الاحتفالات دليل على حب النبي صلى الله عليه وسلم. إذا كان الأمر كذلك، كان الصحابة أسرع الناس إليها، فالمحب الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ينظر إلى أقواله وإلى أفعاله وإلى أوامره وإلى تعاليمه وإلى آثاره، ويسير على نهجه ويستن بسنته، ويفعل ما يأمره به صلى الله عليه وسلم.”

ألا يستهويك هذا الأسلوب، أسلوب سهل سائغ، وفكرة واضحة مثيرة، ودعوة صادقة إلى الموقف الصحيح الصريح.

كما أخذ عن أبيه منهج النقد للميول والأفكار، وطريقته في إصابة الغرض بتعبير موجز مشرق، يكتب عن الحضارة الغربية:

“إن الحضارة الغربية ضلّت بين المادة والروح والعقل والقلب والدين والدولة، وأعلت من قيمة الأشياء وخفّضت من قيمة الإنسان، فحوّلت الإنسان من مستفيدٍ منها إلى خادمٍ ظَلومٍ يدور حولها ويجري وراءها، رغم أنّ الحضارة في الواقع ليست تقدّمًا ماديًّا مقطوع الصلة بالأخلاق والضوابط والحدود التي تحفظ الكيان الإنساني والكيان الاجتماعي، يُقال: إنّ الحضارة الغربية تعطي الإنسان كلّ شيء، والحقيقة أنّها تسلب منه كلّ شيء….”

يبدأ مقالته: “بين إنسان وإنسان” بقوله:

“نرى للبشر نوعًا واحدًا، ونرى أنه لا يوجد أي تفاوت بين بني آدم، ونرى أن الإنسان كحبات البيض أو التفاح أو الرمان، التي يكون بين حباتها تفاوت بسيط، لا يزيد عن بضعة غرامات، رغم أن هناك نوعين من البشر، وبينهما تفاوت كبير، وبون شاسع، نجد للبشر نوعًا مكرمًا ونوعًا مهينًا، ونوعًا شريفًا ونوعًا لئيمًا، ونوعًا ذا همة عالية ونوعًا ذا همة قصيرة، ونوعًا يؤمن بالله ويطيعه، ونوعًا يكفر بالله ويعصيه، ونوعًا متواضعًا ونوعًا متكبرًا، ونوعًا يخشى ونوعًا يطغى، ونوعًا يجري وراء نفسه ونوعًا يتسابق إلى مرضاة ربه، ونوعًا مقبلًا على الخير ونوعًا يحب الشر، ونوعًا متسارعًا للخيرات، ونوعًا متبادرًا إلى المنكرات. فمن أيهما نحن؟ وإلى أيهما ننتسب؟ وفي أيهما ندخل؟”

استطاع الكاتب في العبارة المذكورة آنفا بفكرته الواضحة وتقسيمه الدقيق لطبقات البشرأن يصيب الغرض والهدف الذي يهدف إليه، واستطاع أن يدفع القارئ وهو يختم العبارة إلى أن يحكم على نفسه من أيهما هو؟ وذاك هو نجاح أي كاتب قدير ساحر.

هذا…ومما يمكن أن يؤخذ به على صاحبنا هو البساطة في المعنى والأسلوب، وعدم التحليل الأعمق للموضوعات التي كتب فيها، وقلة المقارنة بين الأفكار التي أثارها وناقشها، والاكتفاء بذكر السلبيات للحضارة الغربية إغماضا عن إيحابياتها، وطرح المشكلات بدون تقديم مخططات أو خرائط واضحة للحلول والبدائل…..وغير ذلك مما يمكن أن يؤخذ به صاحبنا…وصحيحة تلك المآخذ بل وغيرها كذلك…ولكن متى؟ إذا كتبنا عن صاحبنا كمؤلف مبدع ومفكرمحلل مرهف، أو كزعيم سياسي ومصلح قيادي، وإذا ادعينا فيه نبوغا أو عبقرية، أوأنه فارس حلبة لايشق له غبار….ولكنى كتبت عنه ككاتب في جريدة نصف شهرية، لها حدودها، ولها قراءها، ولها لغتها، ولها مستواها من العلم والفكرواللغة والأسلوب، نجح في أداء رسالته وإبلاغ كلمته عن طريقها إلى الذين خاطبهم، كاتب تأخرظهوره، ولكن كثر عطاؤه، وكان ينتقل كل يوم من”الطل” إلى” الوابل”، ولولم يستعجله أجله فما كان غريبا عنه”نبوغ” و”إبداع” و”عبقرية” والشئ من معدنه لايُستغرب، إلا أن انطباق ظواهر التاريخ على حياة صاحبنا لايقل خطراعما نفيته عنه.

×