ذكرياتي مع المرحوم الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي صفحات من العلم والتربية
18 مايو, 2025يا عين جودي بالدموع على جعفر ولا تجمدي
18 مايو, 2025الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي عاش حياته كاتبًا عربيًا مبدعًا (في ضوء كتاباته في صحيفة الرائد العربية)
د. عظمت الله الندوي(*)
(*) استاد مساعد، مركز الدراسات العربية والإفريقية، جامعة جواهر لال نهرو. نيودلهي
رحل الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي إلى عالم البقاء، سعيا لنشر الخير والصلاح في ساحات العلم والأدب بنشاط واهتمام بالغين، في حين كان يتوقع منه كثيرا فيما يخص نشر الوعي الإسلامي والإنساني من خلال إبداعاته العلمية والفكرية، ولكن انتهت به الحياة في الأجل المحتوم.
شهد الراحل الكريم أكثر من ستة عقود من ربيع حياته، إذ أنه ولد في 1960م، في أسرة علمية ومتدينة، خدم أبناؤها الدين والوطن بإسهاماتهم العلمية والأدبية، وتميزت حياتهم بنشر الثقافة الإسلامية والرسالة الإنسانية في ربوع الهند، في وقت اشتدت فيه الحاجة إليها وافتقر إليها العالم. على كل، تربى المغفور له بعز أسلافه الصالحين الذين سجل التاريخ خدماتهم في مجالات الحياة الدينية والدنيوية.
اتباعا لمنهج سلفه الصالح وأبناء أسرته الكرماء، سلك الشيخ جعفر مسعود مسلكهم في تلقي التعليم الديني، ونهل من مناهل الدين الحنيف الصافية، ثم بدأ يخدم العلم والدين والوطن والإنسانية، فصدر من قلمه الرصين أول كتابة عربية في سن الثامنة عشرة من عمره، حسبما سجلتها صحيفة الرائد في زاويتها “قرأت لك” في عددها الصادرة في فبراير عام 1978م، ثم في يونيو عام 1980م، بعنوان: الصحيفة الليبية “الزحف الأخضر” تهذى بالكفر، حتى بدأت أفكاره تتجسد على الصفحات الورقية، وتزيّن صفحات صحيفة الرائد العربية خاصة.
وإذا طالعنا النسخ المتوفرة من صحيفة الرائد حاضرا وغابرا، فنجد أن عددا كبيرا من نسخها تتزين بكتابات صدرت عن قلمه، مما نوّر شتى مجالات الحياة علماً وفكراً وثقافةً. ويطيب لي أن أذكر بعض عناوين كتاباته العربية التي دبجها يراعه في التسعينات، من أهمها “فرنسا تساعد الهند على دعم القوة الحربية”، “سماحة الشيخ الندوي يدعو إلى تغيير الأذهان لمقاومة العنف والإرهاب”، “اتحاد الأطباء المسلمين يستنكر استخدام الأسلحة الكيماوية في أفغانستان”، “جسر بين أفغانستان والاتحاد السوفيتي” وما إلى ذلك، واستمرت هذه الإبداعات في مجالات متنوعة لفترات ممتدة.
وبعد أن تولى الشيخ جعفر مسعود رحمه الله، مهامه التي ربطته رسميا بهيئة التحرير لهذه الصحيفة. على مناصب نائب مدير التحرير، فمدير التحرير ثم رئيس التحرير للصحيفة، فإن هذه المسؤوليات التي تحملها الفقيد الغالي على عواتقه، جعلته متحمساً على أداء الواجبات، فإنه ظهر إدارياً مثالياً بما أحسن أداء مهامه بحسن التنظيم والترتيب والإدارة فيما يخص إصدار نسخها متحلية بكل معاييرها الإبداعية وأنشطتها العلمية ذات الطابع الإسلامي. ولم تظهر الصحيفة بحلة جديدة فقط بل شهدت قبولا وتقديرا من قبل الأوساط العلمية والعربية وإقبالا متزايدا عليها من قبل المهتمين باللغة العربية عامة والصحافة العربية خاصة.
الجدير بالذكر هنا أننا تعرفنا من خلال دراسة صفحات النسخ لهذه الصحيفة، المتوفرة على موقعها الإلكتروني، على أن الأستاذ جعفر مسعود رحمه الله، قدم إسهاماً مبدعاً في مختلف الزوايا المنشورة في الصحيفة، إذ أنه نشر إبداعاته في كل من زاوية “قرأت لك” وزاوية “ركن الأطفال” وزاوية “براعم الإيمان” ثم في زاوية “افتتاحية”، ولاسيما عندما تولى مهام مدير التحرير في فبراير عام 2013م ثم رئاسة هيئة التحرير. وظل يخدم بإسهاماته هذه الصحيفة إلى أن وافته المنية حتى نُشرت إحدى الافتتاحيات التي كتبها في حياته، في العدد الذي نعى بخبر وفاته. طبتَ حيا وطبت ميتا، يا صاحب الأمانة، أديت الأمانة ليس في حياتك فقط بل استمر عطاؤك العلمي بعد مماتك أيضا.
ولا يفوتني أن أشير إلى إبداعاته التي قام بها الفقيد الغالي في زاوية “ركن الأطفال” ثم في زاوية “براعم الإيمان” بشكل خاص، إذ أنه صبّ جل اهتمامه مع صاحبه الدكتور محمد وثيق الندوي، في جعل هاتين الزاويتين مفيدتين للغاية لصالح الأطفال الذين لديهم رغبة وشوق في تحسين قدراتهم اللغوية ولاسيما من خلال مطالعة هذه الصحيفة، فإنهم قدموا دروسا متنوعة تضمنت حكايات وقصص القرآن الكريم والحديث النبوي وأقوال حكيمة وذلك في أسلوب عربي سهل وفصيح ليسهل على الطلاب والأطفال فهمها وهضمها لغة وأسلوبا وفكرا وثقافة، مما نال اهتماما خاصا وإقبالا متزايدا من قبل المهتمين والراغبين في تعلم اللغة العربية.
وطبعا، أدى الشيخ المغفور له واجباً مميزاً في نشر صحيفة الرائد العربية، كتابةً وإدارةً، مما لم يؤد إلى مواصلة نشراتها بكل أنشطتها، بل زادها قيمة وأهمية وتحسناً من ناحية اللغة والنص العربي ولاسيما في تقديم نموذج مثالي من الصحيفة العربية في الهند، أمام القراء والمهتمين بها، والطلبة والدارسين باللغة العربية في الهند وخارجها.
ومن المعلوم أن غرض هذه الصحيفة ليست مجرد تحسين اللغة العربية قراءةً وفهماً وكتابةً بل إنها تهدف إلى تثقيف القراء علماً وفكراً وثقافةً ولاسيما الجيل الجديد بالوعي الإسلامي والتحلي بالثقافة الإسلامية، فنرى أن صاحبنا المرحوم تنوع في اختيار عناوين مقالاته حسب مقتضيات هذه الأهداف المرجوة، ومن أهمها على سبيل المثال لا الحصر: “السبب الحقيقي وراء كل فساد في العالم”، “إلى الاستعراض والمحاسبة”، “لا يتغير الوضع حتى يغيروا ما بأنفسهم”. “السلاح الأكبر”، “كيف تبقى هذه الأمة عزيزة ومنتصرة؟ “، “الكرة في ملعبنا”، “واجبنا نحو غزة”، “أمة الشهادة على البشرية”، هذه هي بعض عناوين الافتتاحيات التي كتبها المغفور له لصحيفة الرائد. فأود أن أقدم بعض النماذج من كتاباته ليمكننا التعرف على أسلوبه القيم والرشيق الذي يذكرنا أسلوب والده الغالي السيد محمد واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله، والذي كان أديبا بارعا وصحفيا محنكا، ترك خلفه تراثا ضخما من الأدب الإسلامي وبصمات ثرية من الصحافة العربية في الهند.
وفيما يلي بعض نماذج من كتابات الشيخ جعفر مسعود الحسني، الذي ثبت خير خلف لخير سلف في العلم والأدب والصحافة العربية والثقافة الإسلامية، ويا له من خير خلف لخير سلف.
عنوان الافتتاحية: الأخوة والوحدة:
“إن وضع المسلمين في عدد من أقطارهم اليوم لا يختلف في خطورة حياتهم عما سبق في تاريخهم في عهد الاستعمار العسكري، فلقد تكالب أعداء الإسلام عليهم اليوم لغزوهم عقديا وفكريا وثقافيا وسياسيا، وهم ملحون في جهودهم، على إذابة شخصيهم الإسلامية، وتشخيصهم الخاص، يريد الأعداء منهم، أن يصبحوا جزءا من غيرهم في كل شيء في الثقافة والأدب والفكر والاتجاه والعقيدة، أو يتركوا البلاد، ويتشردوا في الآفاق ويموتوا تحت لفحات التعسف والتطرف والإرهاب.” يناير 2023م.
عنوان الافتتاحية الأخرى: الفرجة بعد الكربة:
“قال الشاعر وهو يبين حقيقة هذه الحياة:
ثمانية تجري على الناس كلهم | ولابد للإنسان يلقي الثمانية |
سرور وحزن واجتماع وفرقة | ويسر وعسر ثم سقم وعافية |
هذه هي طبيعة هذه الحياة، وسنة هذا الكون، ولذا أمرنا الله تعالى عز وجل بالصبر والمثابرة والمرابطة، فقال: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا رابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (آل عمران: 200)
فلا يمكن لرجل مهما أوتي من القوة، ومهما أوتي من المال، ومهما أوتي من النفوذ، ومهما أوتي من السيطرة، ومهما أوتي من الرفعة، أن ينال السعادة كلها، وأن يحيى حياة كلها طمأنينة وفرحة، وبهجة وسرور، وراحة وهناء، فلا مناص له في هذه الدنيا مادام على قيد الحياة، من أن يجوع ويشبع، يعطش ويروي، يتألم ويرتاح، يمرض ويشفع، ويضع ويقوى، ويعدم ويثري، ويصعد ويهبط، ويسهر وينام، ويرى ظلام الليل وبياض النهار.” فبراير 2022م.
عنوان الافتتاحية: واجبنا نحو غزة:
“علينا أن نرجع إلى الوراء حتى نصل إلى سنة 1900 حين دخل قره صو اليهودي على السلطان عبد الحميد الثاني، وأبلغه أنه جاء إليه ليطلب منه أن يعطي الجمعية الصهيونية الأراضي الواقعة بين يافا وغزة مقابل خمسة ملايين ليرة ذهبية عثمانية، تدفعها الجمعية الصهيونية هدية إلى الخزينة السلطانية الخاصة، وعشرين مليون تقرضها الجمعية إلى الحكومة دون فائدة لمدة تعينها الحكومة، فاستشاط السلطان غضبا، وطرده من ساعته رغم أن حكومته كانت في أمس حاجة إلى المال، لأنها تواجه أزمة مالية شديدة حينذاك.
هل يمكن بذلك أن نغير الوضع أو نضغط على العدو أو نكرهه على الانسحاب، كلا! إن الجماهير المسلمة ليس لهم إلا الإدانة والاحتجاج وإطلاق المظاهرة والإدلاء بالتصريحات ومقاطعة البضائع، أما الحكومات فهي مطالبة باستخدام القوة، وتبنى الموقف الصارم، ورفع النداء إلى الهيئات الدولية وفرض الضغوط عليها بكل قوة.
هذا أقل ما يجب على المسلم بشأن القبلة الأولى وثالث الحرمين الشريفين وأهل غزة العزة.” مايو، 2024م.
وعقب دراسة هذه الفقرات من الافتتاحيات التي صدرت من قلم الشيخ جعفر الرصين، يتضح علينا أن شخصيته تحمل في طيها الثقافة الإسلامية والكلمة الإنسانية، إذ أنه لم يستخدم كتاباته العربية إلا في سبيل نشر الوعي الإسلامي ورفع الكلمة الإنسانية في الأوساط العلمية والثقافية، وتبنى أسلوبا رشيقا وجذابا ليس فيه أي غموض، بل يتسم بسلاسة وفصاحة ووضوح كل الوضوح. ويترشح منه مشاعر الإنسانية والمحبة والأخوة والوحدة الإسلامية وأداء الواجب الإسلامي.
على كل، إن هذه الزوايا والكتابات العلمية والإبداعية برمتها تتحدث عن إسهامات إبداعية قام بها المغفور له منذ العقود.
من الأهمية بمكان أن الشيخ جعفر رحمه الله منذ أن تولى مهام رئاسة التحرير لصحيفة الرائد، كتب افتتاحياتها كل شهر لسنوات رغم ارتباطاته الإدارية الهائلة، ولم يدخر وسعا في أداء واجبات الكتابة العربية، حتى أنه اغتم، كما يبدو من كتاباته، كل لحظة من لحظات حياته في أداء الواجب العلمي والإسلامي معاً، واستثمر كل نفس من أنفاسه في إثراء الأدب والعلم ونشر الثقافة الإسلامية وبعث الكلمة الإنسانية. تقبل الله جهوده المشكورة وخدماته العلمية والإسلامية وجعل الجنة مثواه، يا رب.