ذكرياتي مع المرحوم الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي صفحات من العلم والتربية

الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي والصحافة العربية
18 مايو, 2025
الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي عاش حياته كاتبًا عربيًا مبدعًا (في ضوء كتاباته في صحيفة الرائد العربية)
18 مايو, 2025

ذكرياتي مع المرحوم الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي صفحات من العلم والتربية

بقلم: الدكتور صاحب عالم الأعظمي الندوي، قطر

الحمدُ للهِ الذي لا يُحمَد على مكروهٍ سواه، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه ومَن والاه. أما بعد!

فقد قضى الله – جلَّت حكمتُه – أنْ يكون للزمان صروفُه، وللأقدار أحكامُها، وللموت أحكامٌ نافذةٌ لا مَرَدَّ لها، فإذا جاء أجَلُ المرء فلا يستأخر ساعةً ولا يستقدِم. فما أشدَّ الألم! وما أعظمَ الفاجعةَ! حين يفاجئنا القدَر بخبر وفاة عالِم جليل، وداعيةٍ مُصلِح، ورائد من رواد العلم والفكر؛ مولانا السيد جعفر مسعود حسني الندوي، الذي انتقل إلى جوار ربه في حادث سيرٍ أليم، تاركًا وراءه إرثًا علميًّا خالدًا، وسيرةً ناصعة مُشرِّفة.

وكان المرحوم اسمًا لامعًا في سماء الأدب والفكر الإسلامي، وتجلَّت آثاره في دروب العلم والمعرفة، فكان علَمًا من أعلام النهضة الأدبية الإسلامية في العصر الحديث، وقامةً سامقةً في ميادين الصحافة والتأليف والترجمة. نشأ في بيتٍ عامرٍ بالعلم، وترعرع في أحضان مدرسةٍ زاخرةٍ بالتراث والفكر، فجمع بين الأصالة والتجديد، وأفاض قلمُه دُررًا من المعرفة والتأمل. وكان اللقاء به نعمة، وكان الجلوس إليه زادًا للعقل والروح، فلم يكن مجرد عالِم بين العلماء، بل كان شعلةً مضيئةً في سماء العلم والمعرفة، وهمزة وصل بين مختلف المدارس الفكرية، داعيًا إلى الوحدة والائتلاف، نابذًا للفرقة والاختلاف، عاملًا على ترسيخ مبادئ الحوار والتسامح. وقد سعدتُ بصُحبته في عدة مجالس، كان آخرها خلال زيارته إلى قطَر، حيث تبادلنا أطرافَ الحديث حول شؤون الأمة وهمومها، وتدارسنا قضايا الفكر والتربية، وتباحثنا سُبل تطوير التعليم الشرعي بما يواكب حاجاتِ العصر في ندوة العلماء، وما كنا نعلم أنَّ ذلك اللقاء سيكون آخر العهد به، ولكن تلك سُنَّةُ الله في خَلقه.

التحقتُ بندوة العلماء في الصف الثالث من معهدها وأنا حديث السِّنِّ، وكنتُ مولَعًا بكرة القدم والكريكيت. كنا نشاهد بشغف مباريات الكريكيت التي كان يلعبها الطلبة الكبار، خاصةً يوم الجمعة، في الساحة الكبيرة أمام المعهد. وكان الشيخ جعفر، آنذاك، من طلاب الصفوف العليا، وبارزًا في الكريكيت كما في دراسته. ومع تقدُّمي في الدراسة، توطدَت علاقتي بعائلته، خاصةً ابنَ عمِّه المرحوم الشيخ عبد الله الحسني، الذي كنتُ أتردد إلى بيته في مجمع “خاتون منزل”، حيث كانت تقطن عائلة حسني بأكملها. وهناك تعرَّفتُ إلى الشيخ جعفر عن قُرب، إذ اعتاد حضور مجالس الشيخ عبد الله، كما كنتُ أزور والده، الشيخ واضح الحسني، رحمه الله، بين الحين والآخر لأغراض علمية وبحثية. فكان تعلُّقي بهم مبنيًا على العلم والمعرفة والتربية والإرشاد. وبعد تخرُّجي في ندوة العلماء وسفري إلى مصر لمتابعة الدراسات العليا، استمرَّت علاقتي بالشيخ عبد الله حسني، الذي واصل إفادتي بنصائحه القيِّمة في مجالات العلم والبحث، ولا أزال محتفظًا بمكتوباته العديدة التي كان المرحوم يرسلها إليَّ بين الفينة والفينة، وكلها زاخرة بالتوجيه والإرشادات؛ فجزاه الله عني وعن عائلتي أحسنَ الجزاء.

وقبل أشهُر قليلة، زار الفقيدُ المرحوم جعفر قطَر وفي معيته صديقُنا العزيز الفاضل محمد وثيق الندوي، وبتلك المناسبة نظَّم أبناء الندوة اجتماعًا علميًا بارزًا شهِدَ لأول مرة تدشينَ الترجمة العربية لكتاب “سيرة النبي” للعلامة شبلي النعماني وتلميذه الرشيد السيد سليمان الندوي رحمهما الله، وهو الكتاب الذي شاركتُ مع أربعةٍ من زملائي الندويّين في ترجمته إلى العربية، وسيصدر قريبًا عن دار القلم. وعقب ذلك الاجتماع ضمَّتنا جلسة خاصة تناولنا فيها شؤون ندوة العلماء المالية والإدارية والتعليمية. وقدَّمتُ له بعض المقترحات، فأبدى اهتمامًا بالغًا بها، ووعد بعرضِها على مجلس شورى ندوة العلماء. كان من بين هذه المقترحات تخصيص مادة مستقلة لدراسة السيرة النبوية والخلافة الراشدة ذات ساعاتٍ دراسية محددة، وألا يُكتفى بوضعها مادة مُطالَعة في نطاق الدروس العامة، مع تعيين أساتذة متخصصين في التاريخ الإسلامي. وقد لاقت هذه الفكرة ترحيبًا كبيرًا من الشيخ جعفر، وأعرب عن عزمه على طرحها للنقاش في الاجتماع المقبل لمجلس الشورى في ندوة العلماء.

وُلِد المرحوم جعفر مسعود حسني الندوي في كنف أسرة علمية عريقة، حيث كان جدُّه المرحوم أبو الحسن الندوي من كبار العلماء والأفذاذ في جميع أنحاء العالم، وكذلك كان والده الشيخ واضح رشيد حسني الندوي من كبار الأدباء والصحفيين في العالم العربي والإسلامي، وكان عمُّه وحموه الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي عَلمًا من أعلام الفكر والدعوة، ومن أبرز الشخصيات العلمية في ندوة العلماء، حيث تولى إدارتها وأرسى دعائمها على أُسسٍ راسخةٍ من العلم والمنهجية. لم يكن غريبًا إذَن أنْ ينشأ جعفر مسعود في بيئةٍ تفيض علمًا وأدبًا، فكان منذ صغره متوقِّد الذهن، سريع الإدراك، نبيهًا في تحصيله، متذوقًا للفكر والأدب، حيث نهل من مَعين العلم الصافي في دار العلوم لندوة العلماء، فحمل مشعل العلم ونذَرَ حياته لخدمة الدين، فكان مثالًا يُحتذى في الجدِّ والاجتهاد. ولم يقتصر علمُه على التلقي فحسب، بل امتدَّ إلى التأليف والتدريس، فترك بصماته على كثير من المشاريع العلمية، وكان له دور كبير في تطوير المناهج الدراسية في ندوة العلماء، حيث حرص على أنْ تكون الدراسة الشرعية متينة الأُسس، راسخة المباني، جامعة بين الأصالة والمعاصرة.

وكذلك عُرف المرحوم جعفر الندوي بجهوده الصحفية الرائدة، حيث تولى رئاسة تحرير المجلة العربية “الرائد”، تلك المجلة التي كانت – ولا تزال – منبرًا للفكر الإسلامي وأداةً لنشر الأدب العربي الراقي، وتشعُّ صفحاته علمًا وأدبًا، وتجيش بأفكارٍ عميقةٍ تفتح آفاق العقل والتأمل. كما كان له حضورٌ بارزٌ في مجلة “تعمير حيات” وغيرها من الصحف والمجلات العربية والأردية التي زخرَت بمقالاته وتحقيقاته ذات الطابع الفكري العميق. ولم يقتصر دوره على الكتابة الصحفية فحسب، بل كان مترجمًا بارعًا، نقل إلى العربية واللغة الأردية العديدَ من الكتب والمقالات المهمة، فكان جسرًا بين الثقافات، وأداةً لنقل الفكر الإسلامي إلى آفاقٍ أرحب. ومن أبرز مؤلفاته في ميدان الترجمة:

“في مسيرة الحياة”: وهو الترجمة العربية لكتاب “كاروانِ زندگي” للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي.

“الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي: سيرته ومنهجه في الدعوة”: ترجمة لكتاب الدكتور محمد ثاني حسني الندوي.

“الإمام المحدِّث محمد زكريا الكاندهلوي ومآثره العلمية”: ترجمة لكتابٍ مهمٍ للشيخ أبي الحسن الندوي.

“بصائر”: وهو الترجمة الأردية لكتاب الشيخ أبي الحسن الندوي “بصائر”.

هذا بالإضافة إلى كتاب “دعوة للتأمل والتفكر”: وهو كتاب أصيل ألَّفه بنفسه، حمل طابعًا فكريًا وتأمليًا رصينًا.

وكان المرحوم من الرجال البارزين في ميدان الأدب الإسلامي، حيث اضطلع بمسؤولية الأمانة العامة لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، ثم تولى رئاستها، فكان منارةً للإبداع الأدبي، وموجِّهًا للكتّاب والأدباء نحو الالتزام بقيم الأدب الهادف والفكر الإسلامي الأصيل. وقد أثرى المكتبة العربية والإسلامية بمقالاته ودراساته العميقة حول الفكر الإسلامي والأدب والتاريخ، فاتَّسمت كتاباته بجزالة الأسلوب وعمق الفكرة واتساع الأفق.

وقد تفرَّد – رحمه الله – أيضًا بعمق النظر، وسعة الاطلاع، ورجاحة العقل، وكان يجمع بين العلم والعمل، وبين الفقه والتربية، فلم يكن عالمًا نظريًّا فحسب، بل مربّيًا، وداعيةً، ومصلحًا، وناصحًا أمينًا، يهتم بتكوين الطلاب علميًّا وفكريًّا وروحيًّا، فغرس فيهم حُبَّ العلم، وربّاهم على الأخلاق الفاضلة. ومن أبرز جهوده العلمية مساهمته في خدمة السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، حيث كانت له رؤية شاملة في تناول أحداثها ودراستها، ولم يقتصر على النقل المجرد، بل كان يستنبط الدروس والعبر، ويُقدِّمها في صورة فكرية عميقة، تصلح لأنْ تكون نبراسًا لمَن أراد السير على هدي النبوة.

أما شخصُه الكريم، فقد كان مثالًا للخُلق الرفيع، والتواضع الجَمِّ، والبساطة الآسرة، فما عرفتُه إلا بشوش الوجه، كريم النفس، عفَّ اللسان، متواضعًا للصغير قبل الكبير، لا يتكلف في حديثه، ولا يتصنَّع في هيئته، يحاور بالحكمة، ويناقش بالحُجَّة، وينصح بالموعظة الحسنة. إنَّ فَقْدَه – رحمه الله – لخسارة فادحة، ليس فقط لندوة العلماء، بل للأمة الإسلامية جمعاء، فقد رحل رجلٌ من رجال العلم والفكر، ورائدٌ من رواد التربية والإصلاح، فقد كان فارسًا من فرسان القلم، ونموذجًا فريدًا للعالم الأديب، والصحفي المفكر، والمترجم البارع، فجزاه الله عن الإسلام وأُمَّته خيرَ الجزاء، وجعل ما قدَّم ذخراً له في ميزان حسناته. ولكنْ عزاؤنا أنَّ آثاره باقية، وكُتبه شاهدة، وإرثه العلمي والأدبي باقٍ، تتناقله الأجيال، وتنهل منه العقول الباحثة عن نور العلم والهداية، وسيحمل تلامذتُه المنتشرون في أرجاء العالَم رسالتَه، ويكملون مسيرته.

وإني إذ أُعزي نفسي أولًا، ثم أُعزي عائلته الكريمة، وأهلَ ندوة العلماء، وأبناءه من طلاب العلم، أسأل الله تعالى أنْ يتغمَّده بواسع رحمته، وأنْ يُسكنه الفردوس الأعلى، وأنْ يجمعنا به في مستقر رحمته مع النبيّين والصِّدّيقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

×