هذا الشبل من ذاك الأسد
18 مايو, 2025جعفر مسعود الحسني الندوي مربيًا كريمًا وداعيًا حكيمًا
18 مايو, 2025فقيد الأدب والفكر الإسلامي الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي رحمه الله
ذكي نور عظيم الندوي، لكناؤ
وصلني الخبر ليلة 15/ يناير2025م، حوالي الساعة السابعة والنصف بأن سيارة اصطدمت بالشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي (الأمين العام لندوة العلماء لكناؤ، الهند) الذي كان واقفا حين ذلك بجانب الشارع مع أحد رفقائه ويصلح وشاحه الشتوي، فتسببت في فقدان عالم جليل، ومفكر إسلامي بارز، وصحافي متميز، وأديب عربي مرموق، فكان هذا الخبر بمثابة صاعقة أصابت الأرواح وأخمدت الأنفاس. فتغير الهدوء إلى الظلمة والسكون إلى الحيرة، لا يستطيع أحد على استيعاب فداحة ما حدث. فقد ذهبت تلك الروح الطيبة التي كانت تنير كل زاوية بضحكتها، بدون أن يعلم أحد بأن اللحظة الأخيرة قد حانت. حادث أبكى القلوب وأحدث فراغاً عميقاً في النفوس، حادث كان صدمة للجميع، حادث أظهر لنا كيف أن الحياة قد تكون لحظات عابرة، وحينما نعتقد أن المستقبل أمامنا، قد يأخذنا القدر بعيداً عن كل ما نحب. ومع ذلك، سنظل نذكره في مجالسنا وأفكارنا، فوجوده في قلوبنا لن يغادر أبدا، وستبقى ذكراه خالدة رغم الرحيل.
لقد شاءت إرادة الله أن يطوى سجل هذه الشخصية العظيمة في لحظة خاطفة، حين امتدت إليه يد القدر فجأة، ليخطف من سماء العلم والأدب نجمًا ساطعا، وليهوي صرح شامخ من صروح الفكر الإسلامي. كأن هذه الصدمة ضربت ركنا من أركان المعرفة، فانهار ذلك البناء الشامخ الذي ظل قائمًا لسنوات، ينشر النور والهداية في دروب الفكر والأدب.إنه قدر لا مرد له، ولكن يا لها من فاجعة أن تُطوى صفحة عالم جليل وأديب فذ ليس بسبب مرض أنهكه، ولا بضعف أنهى قواه، بل بصدمة قاسية فاجأته في لحظة غير متوقعة، فكان هذا الرحيل زلزالًا زعزع أركان العلم، وترك في قلوب محبيه وتلاميذه لوعة لا تُطفأ. فبكى لفقده المحراب والمنبر، ورثاه القلم والكتاب، واهتزت لغيابه ساحات الأدب والفكركأنها تودع أحد أعمدتها الراسخة التي لم يعرف لها بديل. سلام عليك أيها الراحل العظيم، فقد ترجلت عن صهوة الحياة، ولكن روحك ستبقى تسري في حروف كلماتك، ونورعلمك لن يخبو في دروب المعرفة.
البيت العلمي الذي نشأ فيه:
لقد نشأ الفقيد رحمه الله في بيت من بيوت العلم والفضل، حيث ترعرع في كنف أسرة كريمة جمعت بين العلم والأدب، وبين الفكر والدعوة، فهو حفيد الإمام المجدد، والمفكر الإسلامي الكبير، والعالم الرباني، الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، الذي كان منارة للفكر الإسلامي والأدب العربي والتاريخ في عصره، ومؤلف العديد من الكتب القيمة التي أثرت المكتبة الإسلامية والعربية، وكان صوته من الأصوات القوية التي دافعت عن الإسلام بعمق علمي وأسلوب أدبي راقٍ. كما أنه نجل العالم الجليل، والصحافي البارع، والمفكر الإسلامي، الشيخ واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله، الذي كان من رموز الصحافة الإسلامية، وأحد الوجوه البارزة في ميدان الفكر والدعوة، حيث أسهم بقلمه وفكره في توجيه الرأي العام الإسلامي نحو النهضة والإصلاح. وقد تربى الفقيد على يد عمه الأكبر الشيخ العلامة محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله، الرئيس السابق لندوة العلماء، وأحد أعمدة الأدب العربي الإسلامي في الهند، فنهل من علومه، وتأثر بأفكاره، حتى أصبح من أقربه وأحب الناس إليه، فكان امتدادًا لفكره وأدبه، ومثالًا للباحث الجاد الذي يجمع بين التحقيق والتجديد.
لقد نهل الفقيد من معين هؤلاء العظماء، فكان امتدادا لتراثهم العلمي والأدبي، وقد كان لهذه البيئة العلمية الراقية تأثيرعميق في تكوين شخصية الفقيد رحمه الله، إذ نشأ محبًا للعلم، مغرمًا بالأدب العربي، متشبعًا بروح الصحافة الإسلامية، فجمع بين هذه الفنون المختلفة، وبرز في كل منها، حتى أصبح واحدًا من كبار المفكرين والأدباء في الساحة الإسلامية. لقد تخرج الفقيد رحمه الله بدار العلوم لندوة العلماء، فنهل هناك من علوم الشريعة واللغة والأدب، وتأثر بكبار العلماء والمفكرين الذين كانوا يدرّسون فيها.
علاقته برابطة الأدب الإسلامي العالمية:
لقد كان الفقيد رحمه الله علَمًا من أعلام الأدب العربي الإسلامي، فقد شغل العديد من المناصب العلمية والأدبية، حيث كان الأمين العام لدار العلوم لندوة العلماء، وهو منصب علمي وإداري كبير يعكس مكانته العلمية والفكرية، وكان رئيس مكتب رابطة الأدب الإسلامي في شبه القارة الهندية، وكان النائب الأول للهيئة العالمية لرابطة الأدب الإسلامي، والرابطة مؤسسة أدبية تهدف إلى نشر الأدب الإسلامي وترسيخ الهوية الأدبية للأمة الإسلامية. وقام الفقيد بتأسيس فروع جديدة لها في مختلف الولايات والمدن في سبيل تعزيز دور الرابطة وتوسيع نطاق تأثيرها، فأنشأ عدداً من الفروع في مختلف أنحاء الهند، وربط الأدباء والمفكرين من شتى الخلفيات الثقافية والفكرية بها، مما ساهم في نشر فكر الأدب الإسلامي وتوسيع قاعدته.
لم يكن نشاطه في رابطة الأدب الإسلامي مقتصرًا على التأسيس والتنظيم فقط، بل كان نشيطًا في عقد الندوات العلمية والفكرية حيث نظم العديد من الندوات الأدبية التي تناولت موضوعات هامة في الأدب الإسلامي، كما كان حريصًا على أن تكون رابطة الأدب الإسلامي ساحة تجمع بين الأجيال المختلفة من الأدباء، فلم يقتصر نشاطها على الأدباء الكبار، بل كان يشجع المواهب الأدبية الناشئة، ويفتح أمامها الأبواب، ويوفر لها المنصات المناسبة للتعبيرعن أفكارها وأدبها. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، قام بتنظيم العديد من الندوات الأدبية والملتقيات الفكرية، ليكون هناك حوار بين الأجيال، وتواصل بين التجارب المختلفة، وإيجاد بيئة أدبية خصبة تجمع بين الأجيال المختلفة، وتسهم في تطوير الفكر الأدبي الإسلامي. كما شاهدت في مؤتمر الرابطة الأخيرة في مدينة جيافور، بولاية راجستهان بالهند قبل شهور، مما ساهم في تطوير قدرات الكثير من الأدباء الناشئين، وساعدهم على اكتساب الخبرة الأدبية وصقل مواهبهم.
الأمين العام لندوة العلماء وسفيرها:
كان الشيخ جعفر مسعود الندوي أمينا عاما لندوة العلماء لكناؤ الهند، وندوة العلماء ليست مجرد منهج تعليمي، بل رؤية إصلاحية شاملة تجمع بين الأصالة والتجديد، بين التمسك بالتراث والانفتاح على معطيات العصر، وبين العلم والدعوة، وبين العقل والروح فتعد منارة للفكرالإسلامي العدل وصرحا علميا كبيرا ومؤسسة علمية عريقة خرجت أجيالًا من العلماء والمفكرين، وكان الفقيد من أبرز المترجمين لفكر ندوة العلماء وسفيرها، ومن أشد الحريصين على نشره وتعريف الناس به. وفي سبيل نشر هذا الفكر وتعريف العالم الإسلامي به، قام الفقيد برحلات علمية ودعوية متعددة داخل الهند وإلى البلاد العربية، حيث زار المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات، ودولة قطر، والبحرين، وغيرها من البلاد العربية، والتقى هناك بالعلماء والمفكرين، وبالمسؤولين عن المؤسسات العلمية والأدبية والدعوية، كما التقى بعدد كبير من رجال الأعمال والموظفين وخريجي ندوة العلماء والمتأثرين بفكرها العاملين في هذه البلاد. وكان هدفه من هذه اللقاءات تعريفهم بفكر ندوة العلماء، وحثهم على التفاعل معه، وربطهم بهذه المدرسة الفكرية العريقة.
الصحافة ومسئولية جريدة الرائد:
لقد كان الفقيد رحمه الله رئيس تحرير صحيفة “الرائد”، التي تصدرعن ندوة العلماء، فكان قلمه ينبض بالحكمة، ويدعو إلى التأمل، ويبث في القلوب روح الوعي والإصلاح، كان يغوص في أعماق القضايا الإسلامية، يحلل الأحداث، ويستنبط العبر، ويستلهم من دروس التاريخ ما ينير الحاضر ويبني المستقبل، وبهذا الأسلوب البديع، استطاع أن يربط بين الماضي والحاضر، ويجعل الفكر الإسلامي نابعًا من جذوره الأصيلة ومتفاعلًا مع قضايا العصر.
تميز أسلوبه بالجزالة والمتانة، وحلاوة التعبير، وجمال السبك، مع عمق في الطرح، واستدلال بالنصوص الشرعية والتاريخية، واستحضار لمفاهيم الزمن والبيئة، مما جعل كتاباته ذات طابع متميز يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين التحقيق والتجديد. كما كان رحمه الله صحافيًا بارعًا، يحمل هموم الأمة، ويدافع عن قضاياها، وكان قلمه من الأقلام الحرة التي لا تخشى في الله لومة لائم، فساهم بقلمه وفكره في توجيه الرأي العام نحو النهضة والإصلاح. وربط الماضي بالحاضر في استقراء واعٍ لأحداث الأمة، وسعى إلى تقديم الصحافة الإسلامية بأسلوب حديث يجمع بين الدقة في الخبر، والعمق في التحليل.
لم يكن مجرد محرر يسطر الكلمات، بل كان مفكرًا واعيًا، وأديبًا مبدعًا، يسبك العبارات ببلاغة ناصعة، ويعالج القضايا برؤية عميقة، وينقل فكر ندوة العلماء إلى الآفاق بأسلوب يجمع بين الجاذبية الفكرية والجمال الأدبي. كان يستعرض القضايا الإسلامية بعمق ورؤية واضحة، مدافعًا عن الحق، وناصرًا للعدل، ومبينًا تعاليم الإسلام في أبهى صورها. فرحمه الله رحمة واسعة، فقد كان صوتًا قويًا في ساحة الفكر، وقلمًا مبدعًا في ميدان الأدب، وعقلًا مستنيرًا في تحليل الأحداث، وسيظل صدى كلماته يتردد في جنبات الأدب الإسلامي، دليلًا للمفكرين، وإلهامًا للأجيال القادمة.
مكانته بين العلماء والمفكرين:
لقد كان الفقيد رحمه الله موضع احترام وتقدير من كبار العلماء والمفكرين، فقد عرف بذكائه الحاد، وسعة اطلاعه، وقوة حجته، وعمق تحليله، فكانت مجالسه العلمية والأدبية ملتقى لأهل الفكر والأدب، وكان طلاب العلم يحرصون على الاستفادة من علمه وخبرته. كما كان رحمه الله من الوجوه البارزة في المؤتمرات والندوات العلمية، حيث كان يمثل الفكر الإسلامي العدل، ويدعو إلى تجديد الخطاب الإسلامي بما يتوافق مع تعاليم الإسلام ومتطلبات العصر، وكان يؤكد على أهمية الحفاظ على الهوية الإسلامية مع الانفتاح الواعي على الثقافات الأخرى.
رحيله وفقدانه:
إن فقدان الشيخ جعفر مسعود الندوي رحمه الله يمثل خسارة كبيرة للأمة الإسلامية، ولكن عزاءنا في تراثه العلمي والفكري، وفي الأجيال التي تتلمذت على يديه، ونهلت من علمه، واستفادت من أدبه. لقد كان رحمه الله نموذجًا للكاتب الذي جمع بين الأصالة والتجديد، وبين الالتزام بالمنهج الإسلامي والانفتاح على القضايا الفكرية المعاصرة، فأسهم بقلمه وفكره في إثراء المكتبة الإسلامية والعربية بعدد من المؤلفات والمقالات التي ستظل نبراسًا ينير درب الباحثين والأدباء، لقد كان رحيله المفاجئ صدمة كبيرة لكل من عرفه أو تتلمذ على يديه. لقد ترك هذا الحادث المؤلم فراغًا هائلًا في الساحة العلمية والأدبية، حيث شعر العلماء والمفكرون، وطلاب العلم والأدب، وجميع المؤسسات الدينية والتعليمية بخسارة كبيرة لا يمكن تعويضها بسهولة. كما خلف هذا الرحيل المفاجئ حالة من الحزن العميق والقلق في الأوساط العلمية والدعوية، حيث أصبح التساؤل قائمًا: كيف يمكن سد هذا الفراغ الكبير؟ وكيف يمكن استمرار مشاريعه وأفكاره العلمية والفكرية؟.
نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خيرالجزاء، وأن يجمعه في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. كما نسأله أن يلهم أهله وذويه ومحبيه وتلاميذه الصبر والسلوان.