الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي أديبًا وصحافيًا
18 مايو, 2025فقيد الأدب والفكر الإسلامي الشيخ جعفر مسعود الحسني الندوي رحمه الله
18 مايو, 2025هذا الشبل من ذاك الأسد
محمد رحمة الله حافظ محمد ناظم الندوي (الدوحة بقطر)
بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره مصدقة بقول الله تبارك وتعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} وببالغ الحزن والأسى تلقينا نبأ وفاة العالم الجليل والمعلم القدير والكاتب الأصيل والإداري الخبير الأستاذ الأديب المغفور له بإذن الله السيد جعفر مسعود الحسني الندوي رحمه الله. لقد كان مصاباً جللاً، وثلماً كبيراً، لكن قدر الله آت لا محالة.
بهذا المصاب الجلل نشاطر أسرة ندوة العلماء وأسرة الفقيد من الأبناء والإخوة الكرام مشاعر الحزن والألم بوفاة الفقيد داعين الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته ومغفرته وأن يكتب له الجنة، ويجمعه في دار كرامته مع النبيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
ما عاش مثلك مكسورا بدمعته | فأنت والله مأوى الجود والشيم |
مضى إلى الله ذاك الشبل نحسبه | في جنة الخلد بين الحور والنعم |
هذه حقيقة لا تنكر أن الموت حق لا محال لكن الفقد موجع وكما قال أبوالعتاهية
الموت حقٌّ لا محالة دونه | ولكلِّ موت علّةٌ لا تدفع |
والموت كأس دائر، و«كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ». هذا حق، بل ربما يكون الحقيقة الوحيدة اليقينية بشكل مطلق. ولكن من الذي يعي هذه الحقيقة بحيث يعرف أنها ليست حقيقة تخص غيره، لأنه هو شخصيّاً ليس له مهرب منها، فهي ليست حقيقة يمكن أن نعيها لحظيّاً في المناسبات التي تذكرنا بالموت، بل هي حقيقة أزلية أبدية.
إننا ودعنا في شخصية الفقيد المرحوم عالما وقورا نذر نفسه للعلم والدعوة وسعادة الإنسان. لم يعش لنفسه يوما منذ نعومة أظفاره، ووهب روحه وعقله لبني جلدته، ينشد لهم السعادة والحياة في كنف الحرية والعدل والعزة والدين والشريعة. ضحى من أجل الدين وصلاح الأمة ومصالحها، عاش زاهدا قنوعا لا تستهويه زينة الدنيا، وحمل جسمه النحيف أكثر مما يتحمل ووجه طاقاته كلها إلى ما ينفع الناس.
لقد لمس كل من صاحبه أو أتيحت له فرصة الجلوس معه أنه كان قمة في التواضع متحليا بمحامد الأخلاق ومحاسن الآداب، متعودا على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى وكظم الغيظ والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب” كان أبعد ما يكون عن المهانة والبخل، والخسة واللؤم، والذل والحرص، والشح وسفساف الأمور والأخلاق السيئة،
لم يتسن لي أن أتعرف عليه كثيرا أو أصحبه لكن ما لاحظته في لقاءاتي معه في ندوة العلماء وخلال رحلته إلى الدوحة مع رفيق دربه الأستاذ الدكتور محمد وثيق الندوي كان كافيا لكي يترك لنا بصمات أخلاقه الطيبة وسلوكه النبيل وتواضعه الجم، كانت حياته مثالا حقيقيا ونموذجا حيا لتعاليم نبينا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حينما حث على التحلي بالأخلاق الحسنة فقال: “إنَّ من خيارِكم أحاسنُكم أخلاقًا ” وفي رواية للبخاري ” إن خيارَكم أحاسنُكم أخلاقًا ” وفي حديث ثالث ” إنَّ أفضلَ شيءٍ في الميزانِ يومَ القيامةِ الخُلُقُ الحَسَنُ ” وفي رابع: “إن مِن أحبِّكم إليَّ أحسنَكم أخلاقًا ” أخرجه البخاري. وسأل النبي عليه الصلاة والسلام ربه حسن الخلق فعند مسلم ” واهدِني لأحسنِ الأخلاقِ. لا يهدي لأحسنِها إلا أنت. واصرِفْ عني سيِّئَها. لا يصرفُ عني سيِّئَها إلا أنت”.
وكما يقال الولد سر أبيه فالقدوة خير من الكلام مهما حسن وطال ونمق وزخرف، ومصداقا لهذا المثل كان رحمه الله خير خلف لوالده الأديب القدير والصحفي العظيم الشيخ محمد واضح رشيد الندوي رحمه الله، الذي رباه فأحسن تربيته، في زمَنٍ انتشرتْ فيه وسائِلُ الفساد، وعمَّتْ وطمَّتْ، وتكالَبَ فيه أعداءُ الإسلامِ على أهله، وكَشَّرَ الشَّرُّ عن أنيابه، لقد غرس والده رحمه الله في قلبه العقيدة الصحيحة والأخلاق الكريمة وحسن الخلق وطيب المعشر ومحبة العلم وأهله والصبر والحلم تلك الصفات الحميدة التي تعتبر جوهرة لامعة وقد حافظ عليها الابن البار لكي لا تفقد هذه الجوهرة قيمتها ولمعانها. لأن صلاح المجتمع وصلاح الأمة الإسلامية من صلاح الفرد، وكل المعاملات والسلوكات البشرية تبدأ من حسن أو سوء الخلق. ومن هنا تكمن أهمية الاهتمام بالنشء في تربيته، تربية حسنة، وبمساره في المجتمع، ينتهي به لأن يكون رجل الغد الصالح منه، والمثقف، والطبيب، والصانع والعالم…، النافعين لبلدهم وللأمة الإسلامية جمعاء.
لقد برزت آثار هذه التربية العظيمة في شخصية الفقيد رحمه الله بأحسن صورها وأبهى حلتها.
كان رحمه الله منقطعـًا للعلم متبتلاً في محراب التدريس والتعليم والتأليف والتصنيف، شديد الولع والشغف بكتابة المقالات، وإلقاء المحاضرات الدينية والدعوية والتربوية.
ظهرت مواهب الشيخ جعفر رحمه الله مبكرًا، وهو في الدراسة، وكان لنشأته في بيت علم وفقه وأدب أثر في ذلك، فقد شب وهو يرى كبار رجال العلم والأدب يجتمعون مع أبيه في البيت ويتطارحون مسائل الفقه والحديث واللغة والدعوة ويناقشون قضايا الأمة وهواجسها في التعليم والتربية، فتاقت نفس الصغير إلى أن يكون مثل هؤلاء؛ فأكبَّ على القراءة والمطالعة تسعفه نفس طموحة وذاكرة واعية وهمة عالية،
كان همه الأول والأخير نشر الخير مهما كان، وقد استخدم في ذلك كل الإمكانيات المتاحة والوسائل المتوفرة عبر الاهتمام بدراسة القرآن الكريم وتدريس الحديث الشريف واللغة والأدب. إنه سعى بكل ما أوتي من قوة في توظيف الأدب ليكون أدب نفس فيحقق الانتماء الإسلامي الأصيل، ويساهم في التربية النفـسية والاجتماعية، وتهذيب الأخلاق، وتزكية النوازع الخيرة من خلال النصوص الأدبية الجيدة.
لقد رحل الفقيد عنا راضيا مطمئنا، مؤمنا بأن المشعل الذي حمله لن يسقط أبدا ويظل يضيء العالم بأضوائه وأشعته النيّرة، وإن أجيالا من الطيبين أمثاله سيحملونه، جيلا بعد جيل، ويحافظون على قدسيته مع أداء واجباته وتحمل مسئولياته.
يا أيها الفقيد الغالي: نم واهنأ في جنة الخلد إن شاء الله، ولسوف تبقى بيننا، ما بقينا، قامة شامخة للحب والفداء والصدق والوفاء والإخلاص والاستقامة تلهمنا الصبر والثبات على المبدأ والانتصار للحق ولسعادة الانسان وخير البشرية جمعاء، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، وإنا لله وإنا اليه راجعون.
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي.