الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي أديبًا وصحافيًا

الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي ومآثره العلمية
18 مايو, 2025
هذا الشبل من ذاك الأسد
18 مايو, 2025

الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي أديبًا وصحافيًا

أ. د. محمد أيوب الندوي(*)

(*) بروفيسور في قسم اللغة العربية، الجامعة الملية الإسلامية بنيو دلهي (الهند)

جعفر مسعود الحسني لم يكن طالبا يحتذى به عند كثير من معارفه أيام دراسته في دار العلوم التابعة لندوة العلماء وأنا منهم. كان يكبرني في العمر وفي الدراسة. وهي أيام قضيتها في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي. لم أره يحفظ دروسه ويذاكرها مع زملائه في مسجد ندوة العلماء كما كان حال الطلاب الآخرين، ولم أجده يلقي خطبًا في برامج النادي الطلابي ولا يشارك في المسابقات الثقافية في دار العلوم لندوة العلماء. وما رأيته حين رأيته إلا في المعلب الكبير الواقع بين مباني ندوة العلماء يلعب لعبة الكريكيت. وكنا نسمع أنه كان يقود فريق ندوة العلماء للكريكيت وهم يلعبون مباريات مع فرقاء جامعة لكناؤ أو معاهد تعليمية أخرى، وأنهم كانوا في معظم الأحيان يفوزون. كان الأخ الكبير طبعا يحضر الدروس في الفصول في وقت الدوام ويغادرها إلى بيته في مدينة لكناؤ. لم يكن يسكن في السكن الطلابي في دار العلوم لندوة العلماء.

وقابلت الأخ الكبير ورأيته عن كثب حين ذهبت مع بعض زملائي في عطلة عيد الأضحى إلى قرية “تكية” قرية الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي وقضينا أياما سعيدة خارج الدوام الدراسي فوجدته أخا كبيرا لطيفا والابتسامة ظاهرة دائما على وجهه يرحب بالكبار والصغار ويتحدث بهدوء وبصوت ليس بشديد، يتكلم وأنظاره خافضة.

تخرج الأستاذ جعفر مسعود الحسني في دار العلوم التابعة لندوة العلماء وحصل على شهادة “العالمية” ثم على درجة “الفضيلة” وهي شهادة التخصص في العلوم الشرعية، والتحق مدرسا بالمدرسة العالية العرفانية التي كان يرأسها العالم المعروف في مدينة لكناؤ المقرئ محمد مشتاق، واستمر في التدريس بهذه المدرسة مدة لا بأس بها. وأثناء هذه المهنة التدريسية أكمل درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها في جامعة لكناؤ الحكومية. ثم نال فرصة للذهاب إلى جامعة الملك سعود بالرياض وشارك في دورة تدريب المعلمين.

ولد الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي (1960م –2025م) بمدينة راى بريلي في ولاية أوترابراديش بالهند في أسرة حافلة بأعمال جليلة في الدعوة إلى الإسلام وفي العلم والأدب، أسرة أبي الحسن الندوي، وكانت لأسرته إسهامات في كل فن من فنون الحياة وفي كل جانب من جوانبها، فلقد خلقت هذه الأسرة رجال علم ودين، وخلقت المؤلفين والأدباء والأساتذة والشعراء، وحافظت على اللغة العربية وآدابها، فجعفر مسعود الحسني عضو ممتاز في هذه السلسلة الذهبية والذي زادها لمعانا وبريقاً وساهم في نشر الثـقافة العربية الإسلامية في الهند، وقد ساعده الحظ إذ وجد بيئة سهلت له تعلم اللغة العربية وهيأت له تسهيلات فتربى فيها تربية حسنة. كان والده الشيخ واضح رشيد الندوي أديبا بارعا وصحفيا ألمعيا وله إسهامات زائدة في الصحافة والأدب، وكان أعمامه أمثال الشيخ محمد الثاني الحسني ومحمد الرابع الحسني الندوي من العلماء الكبار والأدباء البارعين الذين لهم إسهامات وافية في اللغة العربية واللغة الأوردية وأما جده من أمه وهو العلامة أبو الحسن علي الحسني الندوي فحدث عن البحر ولا حرج؛ فإسهاماته في اللغة العربية والثقافة الإسلامية غزيرة ونفع به الله الناس في جميع أنحاء العالم. فهذه أسرة صاحبنا جعفر مسعود الحسني وكيف لا يتأثر بصفات هذه الأسرة وخصائصها والبيئة لها تأثير في تكوين شخصية الفرد.

وأثناء دراساته العليا وبعدما التحق بسلك التدريس كان الأستاذ جعفر مسعود الحسني يترجم مقالات عربية إلى اللغة الأوردية وكان قد قرأ كثيرا للأدباء باللغة الأوردية وتأثر بأساليبهم وخاصة بأسلوب الأديب عبد الماجد الدريا بادي وكان يكتب أيضا مقالات باللغة العربية وينشرها في جريدة الرائد ورباه والده في الصحافة العربية الهادفة. وبعدما تم تعيينه مدير تحرير جريدة الرائد عام 2013م بدأ يكتب في مختلف الموضوعات، وهذه الموضوعات تنوعت من أدب واجتماع إلى سياسة وتاريخ، فقد كتب في كل موضوع وقدم فيه وجهة نظر إسلامية، فالإسلام في رأيه هو الحل الوحيد لجميع المشاكل التي يعانيها العالم اليوم، وإنه كان يحث المسلمين على أن يعودوا إلى الإسلام من جديد، وذلك كان هدفا من أهداف ندوة العلماء وشعارا من شعارات “البعث الإسلامي” و”الرائد”.

ورأس الشيخ جعفر مسعود مدرسة فلاح المسلمين برأي بريلي وهي فرع من فروع ندوة العلماء وخدمها أمينا عاما لمدة طويلة. ولما توفي والده الشيخ واضح رشيد الندوي عام 2019م عين الأستاذ جعفر مسعود الحسني رئيس تحرير جريدة الرائد بعدما كان مديرا لتحريرها منذ 2013م. وعين أيضا أمينا عاما للمجمع العلمي الإسلامي بندوة العلماء وفي عام 2022م تم تعيينه الأمين العام لرابطة الأدب الإسلامي العالمية لشبه القارة الهندية، ولما توفي الشيخ محمد حمزة الحسني تم تعيين الشيخ جعفر مسعود “ناظر عام” (أمين عام) لندوة العلماء، وفي المنتصف من عام 2023م عين الأستاذ جعفر النائب الأول لرئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية ورئيسا لمكتب رابطة الأدب الإسلامي العالمية لشبه القارة الهندية فسافر إلى مختلف مناطق الهند لحضور الندوات التي عقدت تحت إشراف الرابطة وكان يحث المثقفين على الحضور والمشاركة في برامج الرابطة.

وكما يقال في مثل من الأمثال العربية “الولد سر لأبيه” كان الشيخ جعفر مسعود الحسني شابه أباه وما ظلم، فقد كان مشابها لأبيه في صفاته وطباعه. كان والده الشيخ واضح رشيد الندوي مدرسا لمادة الأدب العربي ماهرا وكان صحافيا بارعا، وما رأيناه يلقي خطبة في أي برنامج من البرامج الثقافية في ندوة العلماء أو يرأس حفلة من الحفلات الأدبية ولكن بعد وفاة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي لما ألقيت على كواهله مسؤوليات مختلفة في إدارة ندوة العلماء رأيناه يلقي خطبا مؤثرة أمام الطلاب ووجدناه يرأس الحفلات الأدبية كأنه صاحبها وولد لها. هكذا كان ابنه الوفي البار إذ وجدناه بعدما تولى مسؤوليات في ندوة العلماء كان الشيخ جعفر مسعود يتحدث في المحافل كأنه أُعِدَّ لها، وكان يكتب مقالات علمية وأدبية كأنه تربى لها.

وقد ألف الأستاذ جعفر مسعود الندوي كتبا عديدة في اللغتين العربية والأردية أما الكتب العربية فمعظمها تشتمل على مقالاته التي نشرت في جريدة “الرائد” وقد عالج فيها قضايا اجتماعية معاصرة أصيب المجتمع الإسلامي بها في البلدان العربية والإسلامية، فهو في هذه المقالات يخاطب الشباب ويحثهم على التحلي بالأخلاق الإسلامية العليا، وجميع هذه المقالات في أسلوب معاصر مؤثر وعلى نهج عال ممتاز، وطبعت هذه المقالات باسم “أخي العزيز” و”خواطر” وأما الكتاب باللغة الأوردية فهو أيضا مجموعة مقالات كتبها في مختلف الأوقات في موضوعات متنوعة، اجتماعية وأدبية، دينية وعلمية وامتازت بفكرتها السامية وأسلوبها البليغ.

وقد نقل الكاتب جعفر مسعود كتباً ومقالات عديدة إلى اللغة العربية ومنها إلى اللغة الأردية، ولا يجد القارئ أي تكلف أو غموض أو ركاكة في النقل، فإنه ينقل الروح السائدة في الأصل وكأنه يمزج فكره مع فكر الكاتب ونفسه مع نفسه، فهو آية في الترجمة وله منزلة رفيعة في النقل وقد تدفقت الكلمات العربية الرائعة في الترجمة كما تدفقت في تدبيج المقالات حيث تترابط جمله بعضها ببعض. فمن الكتب التي نقلها إلى اللغة العربية “في مسيرة الحياة” (المجلد الثالث) للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله وكذلك نقل إلى العربية كتاب الشيخ أبي الحسن الندوي باسم “الإمام المحدث محمد زكريا الكاندهلوي ومآثره العلمية”. وترجم إلى العربية أيضا كتابا للشيخ محمد الثاني الحسني الندوي باسم “الشيخ يوسف الكاندهلوي: حياته ومنهجه في الدعوة”. وأما الكتاب الذي نقله إلى اللغة الأوردية فهو “بصائر للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي”.

وفي حياته الشخصية والاجتماعية كان الكاتب صورة صادقة لما يقوله ويكتبه في مقالاته، وكان مسلماً صادقاً آمن بالإسلام واستقام به وأحبه حباً شديداً وكان يعيش له، يدعو الناس إليه ويطالب المسلمين بالعودة إليه من جديد، وكان شديد البغض شديد البراءة عن كل ما يخالف الدين الحنيف من عقائد وأعمال وفلسفات واتجاهات، وكان الشيخ جعفر مثلاً في النزاهة، وهادئا يحب العزلة، ومشتغلا بخاصة النفس، وكان لسانه عفيفا، وكلامه قليلا، وصمته كثيرا، وكان يرى إيذاء الناس وتجريح شعورهم وعواطفهم من الكبائر، وكان قانعاً باليسير، زاهداً في الكثير، صاحب تواضع ظاهر وأدب جم. وكان باطنه موافقا لظاهره، وكانت أعماله لا تخالف ما يدين به من الإسلام، لا في البيت، ولا في السوق، ولا في الشارع، ولا في أماكن أخرى. وكان يقوم بوظيفته التي أسند إليه ربه من إقامة الصلاة، وبر الوالدين، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وإلقاء التحية، ورد السلام، وعيادة المرضى، وتشييع الجنازة، وإعطاء حق الجار، والصدق في القول والإحسان إلى الأقارب. وكان يحترز عن كل ما نهى عنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من إساءة الظن، وكشف العورة، وإلصاق التهمة، والوقوع في العرض، والانتهاك بالحرمة، والنيل من الكرامة، وشهادة الزور، ونكران الجميل، واقتطاع الحق، وبذاءة الكلام، والإتيان بالفاحشة، وأكل المال بالباطل، والكذب والنميمة، واللمز والهمز، والغيبة والخديعة، والازدراء والسخرية، والعربدة والمجون.

لم يكن الشيخ جعفر مسعود من أولئك الذين يراؤون الناس ولا من الذين يقولون ما لا يفعلون، إنه كان من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. كان صادقا فيما يقول ويكتب، ولم يكن متكلفا يتصنع في قوله وعمله. ولم يكن أبدا من الذين تخشى بوادره. وكان رجلا سهلا إذا تناقشت معه في شيء، وسهلا إذا طلبت منه حاجة، وسهلا إذا كلمته في أمر، وسهلا إذا حاولت إرضاءه في شأن، وسهلا إذا طلبت منه عذرا، وكان هيّنا ليّنا، سهلا، قريبا من الناس، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “حرم على النار كل هيّن ليّن، سهل، قريب من الناس” (الترمذي).

كان الشيخ جعفر مسعود الحسني محببا لدى زملائه وأحبابه، وكذلك عند من عمل معه، ولذلك وجدنا كل من قابله وعهده وعاش معه حزينا عند سماع خبر وفاته. وكنا نتوقع أن دار العلوم التابعة لندوة العلماء سوف تتقدم كبيرا في قيادته وتتطور ملحوظا في إدارته، ولكن الله تعالى لم يمهله بل اختار له الحياة الآخرة، وكأنه تعالى قال له “وللآخرة خير لك من الأولى”.

كنت أقرأ افتتاحيته التي كتبها لعدد أول ديسمبر 2024م لجريدة “الرائد” وربما هي آخر افتتاحية كتبها لهذه الجريدة وهي بعنوان “إلى الاستعراض والمحاسبة” وقد طرح فيها سؤالا لكل مسلم ليحاسب نفسه عند نومه ويستعرض الأعمال التي يقوم بها في ضوء النهار. وبما أنه كان ممن يفعلون بما يقولون، ولا يفعلونه نفاقا ورياء، وجدت كأنه يتحدث في الافتتاحية عن نفسه، وعن شيمه وصفاته ولذلك ذكرت أنه كان يتصف بالعمل بالمعروفات التي تحدث عنها ويجتنب من المنكرات التي أشار إليها. وأذكر في التالي نص العبارة التي كتبها في الافتتاحية وأختتم بها. فيقول:

“هل كانت تلك الأعمال التي أنفق فيها جهده، وأتعب فيها نفسه، هل كانت توافق ما يدين به من الإسلام، وهل قام بوظيفته التي أسندت إليه من قبل ربه بصفته مؤمنا به، من إقامة الصلاة، وبر الوالدين، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وإلقاء التحية، ورد السلام، وعيادة المرضى، وتشييع الجنازة، وإعطاء حق الجار، والصدق في القول والإحسان إلى الأقارب.

هل احترز عن كل ما نهى عنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من إساءة الظن، وكشف العورة، وإلصاق التهمة، والوقوع في العرض، والانتهاك بالحرمة، والنيل من الكرامة، وشهادة الزور، ونكران الجميل، واقتطاع الحق، وبذاءة الكلام، والإتيان بالفاحشة، وأكل المال بالباطل، والكذب والنميمة، واللمز والهمز، والغيبة والخديعة، والازدراء والسخرية، والعربدة والمجون”.

×