الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي ومآثره العلمية

صديق مخلص وإنسان مثالي
18 مايو, 2025
الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي أديبًا وصحافيًا
18 مايو, 2025

الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي ومآثره العلمية

محمد عثمان خان الندوي(*)

(*) مسئول إدارة مؤسسة الصحافة والنشر بندوة العلماء بلكناؤ

في السنوات الأخيرة، فقدت الأسرة الندوية والأسرة الحسنية العديد من الشخصيات العظيمة، التي رحلت عنا واحدة تلو أخرى، ففي 30/ يناير 2013م انتقل إلى رحمة الله الشيخ السيد عبد الله الحسني الندوي مدير تحرير الرائد وأستاذ الحديث الشريف في دار العلوم لندوة العلماء وفي 16/ يناير 2019م فقدنا أستاذي المربي الشفوق الشيخ محمد واضح رشيد الحسني الندوي، وفي 7/ مايو 2021م ودعنا الشيخ حمزة الحسني الندوي الأمين العام ونائب الرئيس العام لندوة العلماء، وفي 12/ أغسطس 2022م، رحل عنا أخي العزيز محمود حسن الحسني الندوي الذي كان يشغل منصب المدير المساعد لصحيفة “تعمير حيات” الأردية، وفي 13/ أبريل 2023م فقدنا مربينا ومرشدنا الرئيس العام لندوة العلماء الشيخ العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي، وأخيرًا في 14/ يناير2025م فقدنا أخانا الحبيب الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي (رحمهم الله الله تعالى جميعًا).

كان الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي رحمه الله أحد أبناء هذه العائلة الحسنية العريقة، وهو من أحفاد الشيخ العلامة السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، وُلِد في 13/ سبتمبر 1960م في تكية كلان بمدينة رائي بريلي، وكان والده الشيخ السيد محمد واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله ابن أخت الشيخ العلامة السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي، بدأ الأستاذ السيد جعفر مسعود الحسني الندوي حفظ القرآن الكريم تحت إشراف والده خلال فترة إقامته في دلهي حيث كان موظفاً في إذاعات عموم الهند”آل إنديا راديو”، وقضى هناك نحو عشرين عامًا، ثم أكمل حفظ القرآن الكريم تحت إشراف الأستاذ الحافظ حشمت الله رحمه الله في دار العلوم لندوة العلماء، ثم التحق بالدراسات العربية وحصل على شهادة العالمية عام 1981م، ثم شهادة الفضيلة عام 1983م، وبعد ذلك نال درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها من جامعة لكناؤ، وفي عام 1990م التحق بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، حيث أكمل دورة تدريب المعلمين.

لم يكن الأستاذ السيد جعفر مسعود الحسني الندوي رحمه الله رجلاً صالحًا فحسب، بل كان أيضًا معلمًا بارعًا، بدأ حياته العملية بالتعليم والتدريس، حيث عُيِّن كمدرس في عام 1985م بمدرسة “العالية العرفانية” وهي فرع شهير لدارالعلوم لندوة العلماء في لكناؤ، ثم انتقلت إلى مبنى آخر في شارع عبد العزيز تحت إشراف المقرئ محمد مشتاق نجل العالم الرباني محمد أحمد برتاب جرهي رحمه الله، وظلّ الأستاذ السيد جعفر مسعود الحسني الندوي مرتبطًا بهذه المدرسة لأكثر من ثلاثة عقود مقدّمًا خدماته التدريسية بكل تفانٍ وجدارة حتى تقاعد منها، وكما وصف أحد طلابه المقرّبين طريقة تدريسه قائلاً: كان بأسلوبه التدريسي الفريد والمبتكر يبعث الطمأنينة في نفوس طلابه إذ كان يبسّط أعقد العبارات إلى لغة سهلة ميسرة، مع مراعاة مستويات الطلبة العلمية، كان يخاطب جميع الطلاب أثناء التدريس بطريقة يشعر كل واحد منهم بأنه المخاطَب الأساسي، كما كان يجيب على أسئلة الطلاب بأدب جمّ وبشاشة ولطف، ولم يكن يتضايق أو ينزعج من تكرار الأسئلة حتى وإن كانت بدافع الفضول بل كان يكتفي بالابتسام، وكانت لابتسامته طابع خاص لا يدركه إلا من جالسه وعاشره عن قرب. إنّ من أهم صفات المعلم والمربي الحنونُ الإخلاصُ والرفق في التعامل، وقد أنعم الله عليه بتلك الصفات المحمودة، وقد جربنا هذه الصفة طول الصحبة الممتدة على أكثر من ثلاثة عقود.

وبعد تقاعده من “مدرسة العالية العرفانية” تم تعيينه أمينًا عامًا لندوة العلماء حيث أثبت جدارته وكفاءته لهذا المنصب، وقد اعترف بذلك القاصي والداني خلال فترة قصيرة، وقد كانت إدارته متميزة في الشؤون الإدارية ومثالاً يُحتذى به خاصة فيما يتعلق بالجوانب التنظيمية والإدارية لندوة العلماء، كان الجميع في ندوة العلماء سواء من الشخصيات الخاصة أو العامة على معرفة وثيقة به حتى عامة الموظفين كانوا يتمكنون من لقائه والتحدث إليه مباشرة، ولم يكن يؤخر أي عمل إلى الغد، وقد كنتُ شخصيًا شاهدًا على هذا النهج الدقيق في عمله، كرّس حياته بأكملها إلى جانب التدريس لخدمة الإسلام ونشر تعاليمه، وقد سار بثبات على خُطى أسلافه العظماء مما عزّز رسالة ندوة العلماء ووسّع نطاق أنشطتها، كان دائم الفكر والتفكير في تطوير لندوة العلماء وتقدّمها، وفي فترة قليلة استطاع أن يكسب محبة واحترام أهل المدارس الاسلامية وكل من كان مرتبطًا بالتعليم والتربية الدينية، فمنذ أن تولّى منصب الأمين العام بدأ العمل بجدٍ وإخلاصٍ من أجل تطوير المدارس الإسلامية والارتقاء بمستواها، وكان الجميع صغارًا وكبارًا يجدون فيه شخصية ودودة تتعامل معهم بأدب وحفاوة، كان يميل إلى البساطة، ولم يكن يعيش حياة بسيطة فحسب بل كان يوصي الآخرين بها أيضًا، فقد أمضى حياته كلها في تواضع وزهد، واتّسم بصفات متوارثة في أسرته، مثل الوقار، والجدية، والصمت عند الحاجة، والتقوى، والورع، والزهد في الدنيا، وظلّ بعيدًا عن التعصب والتحزّب والريا.

كان موضوعه الأساسي هو تفسير القرآن الكريم والحديث النبوي، وكان ملتزمًا منذ سنوات بإلقاء دروس التفسير في مسجد “قبر مامون بهانجه” في حيه كل يوم سبت وأحد بدون انقطاع بعد صلاة المغرب.

وكان صحفيًا بارعًا، وبرزت خدماته في مجال الصحافة، وكما كانت له مكانة مرموقة في الأدب واللغة العربية، وبفضل إتقانه العميق لهذه اللغة، تم تعيينه رئيسًا لتحرير “الرائد” التي تصدر عن ندوة العلماء بعد وفاة والده رحمه الله في 23/ يناير 2019م، لم يكن بارعًا في اللغة العربية فحسب بل كان أيضًا كاتبًا ومترجمًا متميزًا في اللغة الأردية حيث ألّف العديد من الكتب في كلتا اللغتين، كما أنجز ترجمات سلسة لبعض المؤلفات، مما زاد من تأثيره العلمي والأدبي في الساحة الإسلامية، والعلمية والدعوية والفكرية والأدبية.

من الجدير بالذكر في هذا السياق أنه لم يكن خطيبًا كوالده الكريم، لكنه عندما كُلّف بمسؤولية الأمين العام لندوة العلماء في عام 2023م، واتصل مباشرة بعامة الناس وأهل المدارس والمكاتب الإسلامة، هيّأ نفسه لهذا المجال، فبدأ بإلقاء الخطب شيئًا فشيئًا، وازدادت رحلاته إلى مختلف أنحاء البلاد حتى كرّس نفسه لهذا العمل، واستطاع خلال فترة وجيزة أن يصنع لنفسه مكانة متميزة كخطيب مؤثر ومصقع، وترك بصمة واضحة في قلوب الناس، وأصبح خطيبًا بارعًا، وكما يظهر من دراسة السيرة النبوية، فإن خطب النبي صلى الله عليه وسلم كانت قصيرة ومؤثرة، وبالطريقة نفسها كانت خطبه قصيرةً لكنها كانت تخاطب القلوب وتترك أثرًا عميقًا في النفوس، وأبرز ما كان يميز خطبه ومحاضراته أنها دائمًا ما كانت تدور حول “حقوق العباد” فكان يقول دائمًا: الإسلام نظام حياة متكامل يوجه الإنسان في جميع جوانب حياته، وكما فرض الله تعالى على عباده أداء حقوقه (حقوق الله) فقد شدد كذلك على حقوق العباد، بل أكد على ضرورة الوفاء بها، وقد أوضح القرآن الكريم والحديث الشريف أهمية هذه الحقوق، وذكر العواقب الوخيمة لمن يتهاون فيها، وفي هذا السياق كان يستدل بالآية الكريمة من سورة النساء: “وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا”(النساء: 36)، وهكذا كانت خطبه بمثابة دعوة صريحة للناس للاهتمام بحقوق الآخرين، والإحسان إليهم، وعدم التهاون في أداء واجباتهم تجاه بعضهم البعض، كان يقول دائمًا: إن النبي الكريم جعل أداء حقوق العباد جزءًا أساسيًا من الدين، وكان يؤكد أن التهاون في هذه الحقوق قد يعرض الإنسان للخطر يوم القيامة، ويحرمه من النجاة في الآخرة، وكان يستشهد كثيرًا بهذا الحديث النبوي الشريف الذي يعكس بوضوح أفكاره ورؤيته العميقة وكما قال النبي صلي الله عليه وسلم:”أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار” (رواه مسلم)، كانت هذه المعاني العميقة والمؤثرة جزءًا أساسيًا من خطبه ومحاضراته حيث كان يخاطب القلوب قبل العقول.

(وأنا لا أذكر هذه الأمور لمجرد الإطالة، بل لأنني شخصيًا شهدت ذلك في إحدى رحلاتي القصيرة في شهر نوفمبر 2024م، عندما حضرت معه في جلسة من الجلسات في مدرسة “مفتاح العلوم” في منطقة ككراله بمديرية بدايون، وقد رافقني في تلك الرحلة الأستاذ فخر الحسن الندوي، والدكتور محمد وثيق الندوي وخلال هذه المناسبة، استمعت عن قرب إلى خطبتين للأستاذ السيد جعفر مسعود الحسني الندوي، كما كان لنا شرف الإقامة والطعام معًا).

حادثة الوفاة:

ذهب السيد جعفر مسعود الحسني الندوي من منزله بتكية كلان إلى مدينة رائي بريلي لقضاء بعض الأمور، وكان يرافقه المولوي عبد القادر الذي كان يشتغل في جمعية محمد الثاني الحسني التذكارية، وكان هو من يقود الدراجة النارية وعند تقاطع رتابور على طريق لكناو –برياغ راج توقفا على جانب الطريق بسبب البرد القارس، حيث كان الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي يلف وشاحه، إذ اصطدمت بهما سيارة من الخلف، مما أدى إلى إصابتهما بجروح خطيرة وسارع رجال الشرطة القريبون من موقع الحادث إلى نقلهما إلى المستشفى الإقليمي في رائي بريلي حيث أعلن الأطباء وفاة الأستاذ السيد جعفر مسعود الحسني الندوي بعد الفحص الطبي. (إنا لله وإنا إليه راجعون). أما رفيقه المولوي عبد القادر فقد تلقى العلاج الفوري في نفس المستشفى ثم تم تحويله إلى كلية إيرا الطبية في لكناو، حيث بقي تحت الرعاية الطبية لمدة أسبوع تقريباً، لكنه توفي صباح يوم الجمعة 24 يناير 2024م. (إنا لله وإنا إليه راجعون).

كان الأستاذ السيد محمد جعفر الحسني الندوي أصغر مني سنًا، لكنه كان أعظم مني علمًا وفضلاً وعملاً، تعرفت عليه بفضل أستاذي المربي المشفق السيد محمد واضح رشيد الحسني الندوي، نور الله مرقده، كنت أراه أثناء قدومه وذهابه إلى ندوة العلماء، وأحيانًا كان يأتي إلى مكتب الرائد، فتحدث بيننا لقاءات قصيرة بين الحين والآخر، كان شغوفًا بلعبة الكريكيت، وكنت أراه أحيانًا يلعب في ملعب ندوة العلماء، كذلك عندما كان مكتب الرائد في المبنى القديم المجمع العلمي الإسلامي وكنت أقيم في الجزء الخلفي من نفس المبنى، كنت أراه يلعب الريشة الطائرة مع بعض زملائه القدامى من الندويين مثل السيد معيد أشرف الندوي رحمه الله وغيرهم، ولكن مع ازدياد مسؤولياته العلمية وأعماله الأخرى، ترك هذه الألعاب تمامًا، كنتُ أنا ألعب كرة القدم، بينما كان هو لاعب الكريكيت، فلم نجتمع في هذا المجال، لكن في شهر رمضان المبارك في أيام الصيف، كنا نذهب بعد صلاة الظهر إلى نهر سئي حينما كنت في رائي بريلي، حيث كنتُ أنا وصديقنا السيد عرفان الحسني الندوي والأستاذ السيد جعفر الحسني الندوي نسبح في الماء لساعات طويلة.

وفي عام 2013م، بعد وفاة الأستاذ السيد عبد الله الحسني الندوي تم تعيينه في 14/ فبراير 2013م خلفًا له كمدير للتحرير لصحيفة الرائد، كما تمَّ تعيين الأخ العزيز الأستاذ محمد وثيق الندوي كمدير مساعد له، مما أتاح لي فرصةً للتقرب منه أكثر، وبعد ذلك في 23/ يناير 2019م حين تولّى منصب رئيس التحرير بعد وفاة والده المحترم، وأصبح الأخ الأستاذ محمد وثيق الندوي مديراً لها، فازدادت العلاقة بيننا قربًا، حيث كان من الضروري أن نحصل على توقيعه على كل أوراق صرف خاصة بمجلة الرائد ورغم أن العلاقة بيننا كانت رسميًا علاقة رئيس ومرؤوس، إلا أنه كان يفضل بعلاقتنا القديمة. وكنا الثلاث نجتمع حينًا لآخر في مكتب الرائد أو مكتب الأمين العام ونتحدث حول الشئون الإدارية، ونناقش بعض الموضوعات، ونتبادل الآراء حول الأحداث والأوضاع العالمية، ونستمتع بحديثه وآرائه ومواقفه تجاه القضايا، وخاصة رأيته يتشاور ويبحث مع زميله الأستاذ محمد وثيق الندوي حول المستجدات والتطورات في العالم، ويكون الحديث غزيراً وملفتاً للنظر إلى ما لا يعرفه أغلب الناس في المنظور العالمي.

لقد كان نجل أستاذي المربي المشفق نور الله مرقده، ولكنه كان أيضًا صديقًا حميمًا لنا، كان يعاملني كأخٍ أكبر، ووفاته المفاجئة كانت خسارة شخصية كبيرة لي ولأسرتي.

أُدّيت صلاة الجنازة عليه بعد صلاة الظهر قرابة الساعة الثانية ظهرًا بإمامة الشيخ السيد بلال عبد الحي الحسني الندوي الرئيس العام لندوة العلماء، ودفن في مقبرة أسرته في تكية كلان بمدينة رائي بريلي وسط حشدٍ هائل من المشيعين.

نسأل الله تعالى أن يغفر له زلاته وخطاياه، وأن يملأ قبره بالنور، ويجعله روضة من رياض الجنة. آمين.

×