الأستاذ جعفر مسعود الندوي بين نموذج من سلوكيات فاضلة وعطاء صحافي فريد
18 مايو, 2025الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي ومآثره العلمية
18 مايو, 2025صديق مخلص وإنسان مثالي
آفتاب عالم الندوي (دولة قطر)
كن ما استطعت عن المنام بمعزل | إن الكثير من الورى لا يصحب |
واجعل جليسك سيدا تحظى به | حبــر لبيــب عــاقل متــأدب |
كان صديقي المخلص ورفيق دراستي وأعز زملائي في الصف، جئت إلى ندوة العلماء في عام 1979م، وقبلت في الصف السادس للعربية (العالية الثانية)، وبالمصادفة كان الفقيد الأخ جعفر أيضا في الصف ذاته، فكان رفيق دراستي من ذلك الوقت، ولكن علاقتي به كانت مقتصرة على الدراسة، لأني كنت أقيم في السكن المدرسي، بينما هو يأتي للدراسة من بيته الواقع في “طريق جوئن” ثم يعود، وأذكر أنه كان في صفنا خمسون طالبا، من بينهم طالب كان يجلس على الهامش صامتا، يأتي ويروح بأناة وهدوء، يتوقد جبينه فطنة وذكاء، وينضح وجهه نبلا ونجابة، كان على الإطلاق غير ضار وغير مجادل مع أحد، كان واحدا منا بطبيعة الحال ولكن لم يكن يبدو أنه من صفنا ومن زملائنا، كان هذا الطالب المثالي المتزين بالأوصاف والخصائص الملائكية منذ نعومة أظفاره هو أخونا الفقيد جعفر، الذي أصبح مع مرور الوقت صديقا جيدا نعتز بذكراه العطرة، لقد قضينا ست سنوات في الدراسة معا في ندوة العلماء، وبعده تسع سنوات في التدريس، حيث أصبحت بعد التخرج مدرسا في ندوة العلماء، بينما تعين أخونا العزيز في “المدرسة العالية العرفانية” التابعة لندوة العلماء في لوكنو ذاتها، وفي نهاية عام 1992م ذهبت إلى قطر للعمل، وحتى بعد انخراطنا في سلك التدريس كانت لنا لقاءات واجتماعات من وقت لآخر، حيث كان أخونا العزيز يأتي إلى ندوة العلماء بالعموم بعد العصر، فتكون لنا تجمعات خارج المقصف، نتجاذب فيها أطراف الحديث ونتبادل الفكاهة والمزاح، يا لها من أيام رائعة! ذكريات هذه الأيام الرائعة لا تزال محفورة في قلوبنا حتى اليوم، وإن وفاته هي أيضا مأساة شخصية بالنسبة لي، فقد كان واسطة العقد لزمرة أصدقائنا على منصة التواصل الاجتماعي، وبعد أن أتيت إلى قطر كان لنا بمثابة المتحدث باسم ندوة العلماء، وهمزة وصل وتنسيق بيننا وبين القائمين على ندوة العلماء، كلما خطر ببالنا أمر يتعلق بندوة العلماء اتصلنا به مباشرة وسألناه، وظفرنا بما نطمئن ونقتنع به.
لقد أكرم الله أخانا العزيز بانتماءات واعتبارات عالية عديدة، تقتضي كل واحدة منها أن يحبه ويبجله ويتودد إليه كل من يدنو منه ويقضي معه ساعة، وكان في زملائنا هو الوحيد الذي تنحدر سلالته من السادات الحسنية الكريمة، وهذه النسبة وحدها جامعة لنسب وانتماءات شتى، والثاني أنه كان حفيد أخت الداعية والمفكر الإسلامي سماحة الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، والثالث أنه كان ابن أخ وصهرا لأستاذنا ومربينا الموقر فضيلة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله، والرابع أنه كان النجل الوحيد لأستاذنا ومربينا فضيلة الشيخ محمد واضح رشيد الندوي رحمه الله، والخامس أنه كان أديبا أريبا وكاتبا قديرا باللغتين العربية والأردية، والسادس أنه تمسك بطريق الوسطية والاعتدال ومبدأ الجمع بين القديم الصالح والجديد النافع واستقام عليه في زمن كثر فيه الغلو والعصبية والخلاف بين الكتاب ورجال العلم والدين، والأهم من كل ذلك أنه كان رجل بر وصلاح، وصدق وإخلاص، وأمانة ووفاء، وربما هذا هو السبب الأخير الذي جعله محبوبا ومحترما يشار إليه بالبنان ليس بين زملائنا فحسب بل في كل الأوساط العلمية والفكرية والدعوية.
فما كان قيس هلكه هلك واحد | ولكنه بنيان قوم تهدما |
صحبناه ست سنوات خلال الدراسة، وقرابة تسع سنوات بعد التخرج خلال التدريس، فعرفناه عن كثب وليس عن كتب، وشتان ما بينهما، فوجدناه الرجل الطيب في معشره، والإنسان الكريم في إنسانيته، والجذاب الأخاذ بخلقه وفعاله، والمسلم الصادق في دينه وعقيدته، والمعلم العطوف لتلاميذه، والناصح الأمين في نصائحه، والأخ المخلص الموثوق به لإخوانه، سليم الصدر من كل ما ينغصه ويعكر صفوه من الحقد والضغينة والكبر والعصبية، شديد التمسك بالمبادئ والقيم فيدافع عن الحق ويذود عن حياضه بكل ما أوتي من سبل ولا يخاف لومة لائم، متواصل السعي والتفكير في عرض صورة المنهج الإسلامي الأصيل بشكل عملي، رقيق العواطف والمشاعر، كريم المحتد، عريق المنبت، صادق اللهجة، عذب اللسان، عطوف القلب، وحلو العشرة، يجذب المخاطب ويترك عليه أثرا يرتسم على قلبه ولا ينساه، ولا غرو فقد كان نجما متألقا من النجوم الساطعة للعائلة الحسينية التي تتنفس أجواؤها علما وحلما، وزهدا وورعا، وعرفت على مدى التاريخ بشدة حفاظها على روح الدعوة والعزيمة، وإيمانها القوي بصدق الرسالة المحمدية وأصالتها، كما عرفت بصلابتها في الفكر والعقيدة، وعلو كعبها في خدمة العلم والدين، والجمع بين أنوار العلم وثوابت العقيدة، والثبات على درب الدعوة والعزيمة، فقد كان أبوه هو معلمنا الجليل السيد واضح رشيد الندوي رحمه الله أحد أعلام ندوة العلماء وأبرز رموز الصحافة والعلم والفكر، وعمه وأبو حرمته هو فضيلة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله رئيس ندوة العلماء السابق والمعروف في الأوساط العلمية والفكرية، وجده هو سماحة الشيخ العلامة السيد أبو الحسن علي الندوي إمام الفكر والدعوة، ذلك العبقري الفذ الذي طار صيته في العالم، وسيظل خالدا في ذاكرة تاريخ الدعوة والعزيمة.
كان ذا عقل نضر وقلب رحيم وفكر نبيل ولسان حكيم، وكانت مجالسه مجالس علم وأدب وحكمة، وأحاديثه جادة وعلمية، وكان يتقاسم الحب والرأفة والمودة، ويساند الأصدقاء ويؤنس الغرباء، ورغم توليه منصبا أكاديميا مهما في ندوة العلماء إلا أنه ما زال قائما على أصالة طبعه وعراقة منبته، وشرف أرومته ودماثة خلقه ولين جانبه وصفاء طبيعته، فلم ير أحد يشكو من سلوكه وخلقه، إذ كان في الواقع لين العريكة طيب الخصال متواضع الجانب سهل الخلق هادئ الطبيعة، متناسق العواطف، متقد القريحة، جميل الحاضرة، لطيف المعاشرة، بعيدا عن كل تصنع وتكلف، هشوشا بشوشا، مشرق الهندام لا تفارقه ابتسامته الضافية، ودودا عطوفا ومستكينا للغاية، اعتدنا أن نناديه في مجالسنا “الأخ جعفر” توددا، وكان سعيدا جدا بذلك، قام في سبتمبر 2024م بزيارة قصيرة إلى قطر استمرت أربعة أيام، وخلال هذه الزيارة الحانية الضافية كان لنا سلسلة لقاءات أخوية طيبة، ولكن للأسف قدر الله لهذا اللقاء التذكاري أن يكون الأخير، ويفارقنا الأخ جعفر إلى حضرة الله ورحمته التي هي غاية كل مسلم، يتطلع إليها ويبذل للظفر بها كل غال ورخيص، والآن كلما نذهب إلى ندوة العلماء سنفتقد الأخ جعفر بلهفة واضطراب ونشعر بفقده بألم وحسرة.
كان صديقي المخلص ورفيق دراستي وأعز زملائي في الصف وخير جليس لي، وكل من شاهده أو عايشه ولو قليلا سيشهد بأنه كان مثالا للصديق الذي وصفه محمود سامي البارودي في الأبيات التالية:
ليس الصديق الذي تعلو مناسبه | بل الصديق الذي تزكو شمائله |
إن رابك الدهر لم تفشل عزائمه | أو نابك الهم لم تفتر وسائله |
يرعاك في حالتَي بعدٍ ومقربةٍ | ولا تغبك من خيرٍ فواضله |
لا كالذي يدعي ودّا وباطنه | من جمر أحقاده تغلي مراجله |
يذم فعل أخيه مظهرا أسفا | ليوهم الناس أن الحزن شامله |
وذاك منه عداء في مجاملة | فاحذره، واعلم بأن الله خاذله |
لقد اتسم فكره بالوسطية والاعتدال، وعمله باليسر والسهولة، والجد والواقعية، والسعة والتفتح، وهي صفة جاءت في الواقع نتيجة تأثير المدرسة وتربية الأفاضل والشيوخ وإشراف رجال العلم والدين في الأسرة، ولا سيما والده العالم المربي الجليل صانع الأساتذة المخلصين من رواد العلم والأدب والتربية والتعليم فضيلة شيخنا وأستاذنا محمد واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله تعالى، فكان يعبر عن آرائه بطريقة إيجابية ولا يناقش إلا القضايا المتفق عليها في كل المذاهب والجماعات، ولذلك كان محبوبا في أعين الجميع، ولم تكن بساطته وتواضعه، وصدقه وصراحته، وإخلاصه وتقواه في الله وحرصه على كسب القلوب وجبر الخاطر جديرة بالثناء والإشادة فحسب، بل كانت أيضا محل الغبطة والإعجاب والابتهاج.
لا شك أن ارتحاله حادث أليم ومصاب عظيم، فبرحيله فقدت الأسرة الحسينية ركنا ركينا من أركانها، والعائلة الندوية علما من أعلامها الراسخة، وندوة العلماء رمزا من رموزها الفكرية والدعوية، والأمة الإسلامية نجما ساطعا من نجومها اللامعة التي طالما أضاءت دروبها وأنارت ربوعها، فلقد خلف رحيله فراغا كبيرا وأثرا راسخا لا ينسى في التاريخ، ومع أنه رحل وغاب عن المشهد بصمت فجأة إلا أنه حي في قلوبنا بفضل آثاره الفكرية والعلمية التي ستظل خالدة، وبذكرياته الجميلة التي رسخت في سويداء قلوبنا، فالعظماء لا يرحلون كما قال الشاعر:
كسوف الشمس يتبعه الضياء | ويجزله من الفضل العطاء |
وللعظماء في الآفاق شأن | يخلده على الزمن البقاء |
فإن رحلوا بسارجة الليالي | فشمسهم يجددها الصفاء |
نسأل الله العلي القدير أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، ويغفر له زلاته، ويغدق عليه شآبيب رحمته، ويرفع درجته في الفردوس الأعلى، ويوسع مدخله ويجعل قبره روضة من رياض الجنة، ويحشره مع عباده الصالحين، ويلهمنا نحن وأهله وذويه الصبر والسلوان، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.