الأستاذ جعفر مسعود الندوي بين نموذج من سلوكيات فاضلة وعطاء صحافي فريد

العالم الأديب السيد جعفر مسعود الحسني الندوي
18 مايو, 2025
صديق مخلص وإنسان مثالي
18 مايو, 2025

الأستاذ جعفر مسعود الندوي بين نموذج من سلوكيات فاضلة وعطاء صحافي فريد

أ. د. عبد الماجد قاضي الندوي

(قسم اللغة العربية بالجامعة الملية الإسلامية نيو دلهي)

هذا الحديث سوف يتناول حياة الأستاذ المرحوم، شخصا وسلوكا، وآثاره صحافيا وكاتبا.

خصائصه شخصا وسلوكا:

كم كنا نتمنى أن يكون الحديث عن الأستاذ الكريم جعفر مسعود الندوي بصيغة المضارع حاضرا ومستقبلا. وأن يكون موضوع هذا الحديث الحياة والجمال المتلازمين في سلوكه؛ في بسماته السخية للأداني والأقاصي، وأريحيته الأخوية العفوية مع الأصدقاء والغرباء على السواء، وتفانيه في العمل الإداري وخفضه الجناح للوالدين ومن في مكانتهما في بنوته البارة الفريدة. والحياة بكافة إيجابياتها التي يشعها يراعه، ولكن للأسف لم تعد صيغة المضارع تجمعنا معه في عالم المادة والشهادة، لأنه لم يعد الزمان يجمعنا معه، ولم يعد المكان بدونه ذاك المكان المعهود. نرمز له في حديثنا بـ”كان” صيغة الماضي، دلالة على الفراق الحاصل بيننا وبينه حيث استأثرت به رحمة ربنا ونقلته إلى عالم الغيب.

علاقتي مع الأستاذ الفاضل:

تلوح على شاشة الذاكرة أطياف واضحة وأخرى شاحبة عن أيام الدراسة في دار العلوم لندوة العلماء، التي التحقت بها في 1978م وكان الأخ جعفر مسعود يتقدمني بفارق سنتين في الدراسة. ولذلك لم يحصل التعارف والتواصل إلا بلقاءات عرضية خاطفة، لا تتجاوز عادة على السلام عليكم، وعليكم السلام. ونظرات متبادلة تحمل دائما رسالة واحدة: الإيجابية المطلقة، والطمأنينة النفسية من النوايا الحسنة. ثم مرت سنوات وحصل تواصل موجز عدة مرات، كل أحاديثي معه لو سجلت وجمعت في دفتر لما زادت على ألف كلمة. لكنني في عمق وجداني اعتبرته إنسانا خليقا بالثقة والاحترام. وعندما تخرجت من الندوة كنت أعرفه وهو يعرفني. ثم باعدت بيننا الأيام واختلفت مساراتنا في الحياة والمهن. وحصلت لقاءات في فترات متباعدة، وكان كل لقاء يشعرني بأنه من أقرب الناس إلى قلبي، وكانت حفاوته واهتمامه بي تجعلني احتار في الكرم والصفاء اللذين يجسدهما سلوكه. كان سمحا كريما في سلوكه مع الناس، فكانت لحظات ودقائق من لقائي معه تفوق عشرات السنين قضيتها مع ناس كثيرين، ثقة وصفاء. وثقتي بصداقته وكرمه كانت أكبر من معظم من عاشرتهم زمنا طويلا. وصف الفرزدق سيدنا عليا زين العابدين فيما وصف، بأنه “لاتخشى بوادره” وهي من الأوصاف العريقة في المتحدرين من الدوحة النبوية الشريفة، وكان الفقيد في نظري وريث هذه السلوكيات الفاضلة.

كان مسار حياته الأولى، أيام الدراسة، مختلفا شيئا ما، عن غالبية شبان الأسرة الحسنية، المحافظة جدا، والبعيدة عن الاختلاط مع الناس. لكنه لم يكن متقوقعا ومنعزلا عن الأتراب والزملاء، فقد نشأ على عدم التحرج على مزاملة أترابه من الفصل إلى الملعب وممارسة التمارين الرياضية واللعب بالكريكيت. وبفضل هذا التفتح على الآخرين حصلت له خبرة في معرفة الحياة وأنماطها الكثيرة وزادت من رصيد تجاربه مع الناس. وكان من حظه السعيد أن يولد في تلك الأسرة العريقة والمعروفة بالثبات على القيم الروحية النقية في سلوكها، والقيم المعرفية والحب للعلم والعيش له ولو في شظف وعناء. فلم تقبل طبيعته النقية أن يتأثر بطابع آخر غير طابع أسرته من الثبات على الفطرة السليمة والنزاهة والصدق.

خصائصه صحافيا وكاتبا:

كان الأستاذ جعفر مسعود الندوي مدرسا ناجحا ومترجما بارعا وكاتبا بليغا وصحفيا مطلعا وفي نهاية المطاف إداريا واعيا وحكيما. ولا يسع المقام للخوض في كافة هذه النواحي الثرية من حياته، ولذلك سوف نقف معه وقفة تأمل في كتابة الزاوية المستقلة التي واظب عليها ردحا من الزمن.

تيسر لي أن أقرأ كتاباته، وأتأمل محتواها، وأطلع على ميزاته الجوهرية في التفكير والتعبير، وأتتبع مسار اهتماماته الأساسية، وإذا بي أكتشف كاتبا يتملك على المدارك، ويستحوذ على المشاعر، ويضرب على أوتار القلب. وبمجرد أن تبدأ القراءة في مقالاته وتمضي سطرين أو ثلاثة أسطر تجد نفسك مضطرا للمضي قدما إلى آخر المقال. تملكتني الحيرة على البراعة التي اكتسبها قلمه في جذب انتباه القارئ، واستمرار التواصل معه إلى أن يتم إيصال الرسالة التي أراد إيصالها. وقادتني دراستي لكتاباته وتأملاتي فيها إلى نقاط عديدة.

لم يحقق الأستاذ السيد جعفر هذا المستوى الناضج من الكتابة التربوية الأخاذة بمتابعة مشوار عشوائي في المواضيع والأساليب. وإنما فكر طويلا في المجال الفكري الذي يستحق الاهتمام، والذي اعتبر أنه لايزال خارج بؤرة الكتاب المعاصرين له في الهند، أو أنه ينال اهتماما أقل مما هو حقيق به. وأظن أنه اختار الجيل الناشئ لمخاطبته الدائمة بعد تفكير عميق، وكرس جهده في إطار هذا المجال الحيوي لتكون له حلقات متتابعة من التواصل مع الشباب الناشئين الذين تؤول إليهم إدارة شؤون الحياة في المستقبل.

خطته ومنهجه في الكتابة:

وبعد تحديده مجال الكتابة، وتقدير مستوى القاعدة المستهدفة من القراء، كان دقيقا جدا في اختيار المواضيع المطروحة للنقاش والمعالجة، فكان دائما يختار مواضيع تنبثق من واقع الحياة التي يعيشها الشباب، وتتجلى فراسته وحكمته التربوية في طرح القضايا الاجتماعية والثقافية والفكرية والنفسية التي تكتنف الحياة المعاصرة، وربما يكون قد حفر في ذكريات طفولته الماضية ما يستلهم منها من الأسئلة الماثلة للشباب. ويبدو للقارئ أنه يلتقط من الطبيعة والواقع موضوع كل مقال لزاويته المستقلة في “الرائد”. وقد عرفنا من قيمة الكلمة الباهظة كلما جاءت في موقعها الصحيح من الظروف المؤاتية، فكانت كل أحاديثه مع القراء تأتي منسجمة مع السياقات الزمنية الملتحمة مع الظروف، فكان لها مفعول قوي في نفوس القراء، وكانت لها استجابة وجدانية تلقائية من المتلقين.

كانت زاويته المستقلة في الرائد تمثل مسيرة فكرية وتربويّة عميقة سارها صاحبها في حوار مباشر مع الشباب والجيل الناشئ. وهي تحمل شهادة صادقة على التطور الفكري في آرائه التربوية، وتطوره الشخصي كاتبا ومحللا لقضايا الجيل الناشئ.

أسلوبه:

وقد ابتكر لكتابته أسلوبا جديدا يتلاءم تماما مع متطلبات القراء من الوقت ويتناسب مع مداركهم العقلية، وحصيلتهم اللغوية، أهم ميزاته الإيجاز في الصياغة بدون الإخلال بالمعنى، وحصر المحتوى في حدود مئتين وخمسين كلمة إلى ثلاث مئة كلمة في أغلب الأحيان. وهذه الهندسة البارعة في تخطيط اللفظ والمعنى بصفة نظامية، تضمن بقاء علاقة الصداقة بين الكاتب والقارئ واستمراريتها، بدون ملل أو سآمة من الطرف المتلقي. وهي من سمات الالتزام البارزة في الصحافة المهنية والمتبعة لدى الكتّاب النابهين في الصحافة العالمية. وقد تسنى له هذا الالتزام من أجل تركيزه على نقطة معينة من الموضوع الذي يعالجه. فلم يكن يخوض تمهيدات طويلة في البداية ولا متاهات النقاش البعيدة التي هي ملحقات متلازمة مع كل موضوع. وإنما يكرس عنايته في معالجة صلب الفكرة الأساسية بصورة مباشرة وبطريقة لبقة ولطيفة.

وقد جعل من زاويته مائدة مفتوحة للأفكار البناءة التي تأتي مصحوبة بالشواهد المقنعة من التاريخ والتراث. ولا نفلت فيها نسائم منعشة من نصوص الشعر التي تزدان بها المقالات، والتي بدورها تنشط الأجواء وتقرب المعاني إلى الأفهام بلفتات فنية جميلة.

والأستاذ جعفر في زاويته هذه يتقمص شخصية حكيم حنكته التجارب وعلمته السنون، لكنه لا يتعالى على القارئ، وإنما يتخطى فارق العمر بينه وبين القارئ الناشئ لينادمه منادمة الأتراب، ويتساوى معه على أرضية الواقع المفترض. يبدأ زاويته بعبارة أخي العزيز! اللطيفة. ويبث همومه إلى القراء في نبرة منخفضة أشبه ما تكون بهمسة، فيها رسالة من رسائل التربية والتوعية، ولكنها غير مثقلة بالفلسفة الدقيقة أو العظة الغليظة.

ولاغرو، في تحليه بهذه المزايا الجميلة، ولاعجب، فقد كان خريج مدرسة في الكتابة العربية الهادفة ووريثها، مدرسة أبيه، شيخ الصحافة العربية في الهند، الأستاذ واضح رشيد الندوي وعمه الكبير شيخ الندوة وعلم من أعلام الهند سيد محمد الرابع الندوي رحمهم الله جميعا.

وقد طبعت مقالاته المنشورة في زاويته المستقلة في شكل كتاب يحمل عنوان الزاوية “أخي العزيز ” وكان من حسن حظي أنه خلال لقائي معه بدار العلوم ندوة العلماء في السنة الماضية، أهداني كتابه. رحمه الله وأجزل مثوبته.

×