حادثه فاجعة سكبت دموعنا وصدّعت أكبادنا
18 مايو, 2025الأستاذ جعفر مسعود الندوي بين نموذج من سلوكيات فاضلة وعطاء صحافي فريد
18 مايو, 2025العالم الأديب السيد جعفر مسعود الحسني الندوي
بقلم: د. محمد أكرم الندوي (أوكسفورد)
توفي زميلنا في الدراسة وصديقنا الحبيب مولانا السيد جعفر مسعود الحسني الندوي، الأمين العام لندوة العلماء، يوم الأربعاء 15 رجب 1446هـ الموافق 15 يناير 2025م، كان رحمه الله أستاذًا للأدب العربي والفكر الإسلامي، ورئيس تحرير الصحيفة العربية النصف شهرية “الرائد”، ورئيس مكتب رابطة الأدب الإسلامي في شبه القارة الهندية، ومسؤولا عن مدارس وهيئات تعليمية.
التحقتُ بدار العلوم لندوة العلماء سنة 1978م، وكان عدد الطلاب في فصلي خمسين طالبًا، استرعى انتباهي طالب من بينهم يجلس في زاوية، باسم المحيا، رائق الشكل، شديد عذوبة الصوت، هادئ الطبع، يدخل الصف بسكينة ويغادره بسكينة، يشعّ وجهه وقارًا وهيبة، لا يؤذي أحدا، ولا يخاصم من حوله أو يجادلهم، ولا يخوض فيما يخوض فيه الخائضون، وكأنه يعيش في عالم آخر في زمن غير زمننا، يكون معنا وليس منا، لعله كان من رجال القرن الثالث أو الرابع، وأخَّره قدر الله عن ذلك الركب الميمون، وهل يوصل حبل المودة بمن هذه صفته؟ ومع ذلك فنفسي به شغوف وقلبي إليه وامق، هذا الطالب الذي تجلّت فيه تلك النعوت الملكوتية هو الأخ جعفر مسعود الحسني، ومع مرور الأيام والليالي أصبح صديقًا لي عزيزًا، وإني بصداقته لفخور.
عشنا معًا في ندوة العلماء ستّ سنوات طالبَين، وبعد التخرج أصبحتُ مدرسًا بها، بينما تم تعيين الأخ جعفر أستاذا في المدرسة العالية العرفانية، وكنا رغم هذا التباعد نلتقي في المساء في رحاب دار العلوم، وكانت لنا مجالس بعد العصر أمام الكافيتيريا، نتطارح فيها الحديث، ونستمتع بالشعر والأدب، وظهر فيها ذوقه الأدبي وظرافته ولباقته، يا لها من أيام! لاتزال ذكرياتها منقوشة في القلوب.
وجعفر حسيب نسيب، من السادة الحسنيين، جامع بين الفضائل والمناقب، وهو حفيد لشقيقة المفكر الإسلامي سماحة الشيخ السيد أبي الحسن علي الندوي، وصهر لعمه شيخنا السيد محمد الرابع الحسني الندوي، على أنه نجل فضيلة الأستاذ الجليل شيخنا محمد واضح رشيد الندوي رحمهم الله تعالى.
كان من أبرع الأدباء في اللغتين العربية والأردية، متميّزا بموهبة نادرة في الجمع بين الجزالة والطلاوة في التعبير. بيد أن ما جعله متفردًا بحق هو ثباته على نهج الاعتدال في زمنٍ تفشى فيه الإفراط والتفريط بين العلماء والمفكرين، وإن مجده هذا الآخر لأغناه عن مجده ذلك الأول، وكانت أعظم خصائصه أنه كان رجلًا صالحًا، الصفة التي قربته إلى نفسي تقريبا، وكان لها أثر بعيد عميق في حياتي بعد أن جاوزت طور الطلب، وأصبحت مدرسا وباحثا ومؤلفا.
كنا، نحن إخوان الصفا، متقاربين متوادين، لا نفترق في قاعات الدرس، ولا خلال أوقات الترفيه، ولا في المجالس العلمية والأدبية، وكانت صداقتنا مثالًا يُحتذى، وأيّامنا معًا تفيض بالنقاء والصفاء، وأنى لنا اليوم بمثل تلك الأرواح الطاهرة؟!
وبعد سنوات، فرّقتنا الأقدار، وتبعثرت أجسادنا في أرجاء الأرض، يا له من زمن كنا فيه جميعًا في مكانٍ واحد، ثم تلته أيام شتتت شملنا وفرقت جمعنا، وتناءت بنا الديار تنائيا، ورغم هذا التباعد، لم تستطع السنون أن تفصل بين أرواحنا، فبقينا متآلفين، وقلوبنا نابضة بذكرياتنا، إن البعد لا يضرّ إذا تقاربت القلوب، وكلما رجعت إلى لكنؤ، بعثنا تلك الذكريات، وعادت الأجواء كما كانت، وصدح في القلوب ذلك اللحن العذب:
وسألتهم عن فرقة الأحباب | قالوا ستنسى بعد طول غياب |
طال الغياب ولم تغب ذكراهم | إني وهم في العين كالأهداب |
رأيت في حياتي كثيرًا من أهل العلم والفضل ممن يعجزون عن ضبط أنفسهم عند الغضب، نراهم يتشاجرون، ويمتلئون حسدا وبغضاء، حتى يبلغ بهم الأمر حدّ القطيعة والعداوة، وهم يريدون من الناس أن يحترموهم! ومن الغريب أن بعضهم يُبرر سوء خُلقه بتسميته “جلالًا”! فيا لها من تسمية خادعة، أُخفيت وراءها عيوبٌ أخلاقية جمّة.
رحم الله الأخ جعفرا، أبعد الناس عن الغضب وأن تستثيره الحفيظة، وكان بحق مثالًا نادرًا للأدب والفضل، ورجلًا جمع بين العلم والعمل، وبين الصلاح والتواضع، قليل الاحتفال بالمظاهر والملابس، فاستحق الحبَّ والاحترام في حياته وبعد وفاته، لم يُرَ غاضبًا قط، ولا حاسدًا أو مبغضًا لأحد، ولم يكن فظًّا أو متبرّمًا، بل ظلّ على الدوام مثالًا للهدوء والاتزان، كانت روحه أصفى من أن تتأثر بالمشاعر السلبية، ولم يسمع أحد منه يومًا كلمة قاسية أو نابية، كلما بلوناه حمدناه، وهل يبين غناء السيف إلا عند استلاله؟ قد استولى على قلبي جماله، وملك نفسي نبوغه، ما أصدق أبا العتاهية في وصف اختلاف النفوس وتباينها:
وفرز النفوس كفرز الصخور | ففيها النفيس وفيها الحجر |
وبعض الأنام كبعض الشجر | جميل القوام شحيح الثمر |
إذا زرت لكنؤ رأيته أحيانًا جالسًا على كرسي وحده، صامتًا، غارقًا في التأمل، بنفس تلك الروح المتفردة، وذات الهيئة المتفكرة، وكأنه يعيش في عالمٍ خاص به، وتلك العزلة التي يسميها الصوفية “الخلوة في الجلوة” أبلغ دليلٍ على نضج عقله وسمو فكره، إنها الهجرة الحقيقية؛ فالهجرة الذهنية أسمى وأرفع من الهجرة الجسدية، لأنها انتقالٌ من ضوضاء الحياة إلى سكينة الفكر، ومن ضيق الدنيا إلى سعة التأمل، وكلما تقدّم جعفر في السن، ارتقى مشابهة لأبيه شيخنا محمد واضح رشيد الندوي، وازدادت محبتي وتقديري له.
عاجلت المنية جعفرا، ولم تستوف منه ندوة العلماء كفاءته الإدارية النادرة، ولم يشبع الأحبة من مودته ونصحه، فارقني وإني على فراقه لجد زارٍ، وهل أنا مستنطقه وأنا في دار وهو في دار؟ كم خليت عنده من أيام قصار وطوال، آه! لقد أسلمني إلى ربعٍ من الأكفاء خال، تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنانه.