الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (2)

الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (1)
20 مايو, 2025

الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (2)

أبو يحيى السيواني

هذا عدا ما عُرف عنه وعن أسرته من زهد في الدنيا وزخارفها، واستخفاف بما يستعظمه الناس منها، وإخلاصهم في العمل والتفاني فيه دون ملل أو كلل، واتخاذ هذه الخدمة شعارًا وعبادة يتقربون بها إلى الله، وانقطاعهم التام وتجردهم الكامل لهذه المؤسسة…

فكان مسيطرًا عليه همٌّ واحد: إلى من يُسند هذا الأمر؟

وكان في هذا متّبعًا لسنة سيدنا يعقوب عليه السلام: ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ [البقرة: 133]

لقد أخذ التفكير سيدنا يعقوب عليه السلام: على أي مبدأ سيبقى بيته؟ وأي منهج سيتبعه أبناؤه؟ فكان من سنن المرسلين أن يفكر الإنسان فيمن يخلفه في صحة عقيدته ومنهج حياته…

وهذه سنة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا، يوم فكّر في الأمة: من يقلد منهم هذه الأمانة؟ فاختار سيدنا عمر رضي الله عنه، لما رأى فيه من أهلية لذلك وأيقن بها.

فما ظنك بشخص يرعى مؤسسة علمية، ويرى الأخطار محدقة بها، أفلا يأخذه التفكير فيها وفي مستقبلها؟

كان يجيل النظر في تلاميذه والمنتسبين إليه، وهم كُثُر، يربو عددهم على المئات والآلاف، وفيهم عدد وفير من أصحاب المواهب والكفاءات والمؤهلات: فيهم الكاتب المبدع، والمترسِّل القدير، والأديب الفنان، والباحث الناقد، والعالم الضليع، والمؤرخ الأمين، والفيلسوف الحكيم، والمحدث اللبق، والروائي المصوّر، والمتهكم اللاذع، والمضحك المطرب، والمصلح المنتقد، والشاعر المطبوع، والسياسي المناقش، والصحافي البارع، والمفسّر المدقق…

بحيث لو جُمعوا كلهم في مكان واحد لحسدته الدنيا على أن يكون هؤلاء العباقرة الأفاضل من تلاميذه.

وليس غريبًا أن يركّز الشيخ على واحد منهم، يضع فيه آماله كلها، ويبذل له كل ما في وسعه، ويختصه بما عنده من خصائص. وليس غريبًا كذلك أن يظهر الشخص ظهور القمر، أو يتألق نجمًا لامعًا في سماء العلم والشهرة، فيكتب، ويخطب، ويؤلف، ويدرس، وينثال له على الشيخ ثناءات وتنبؤات له عن مستقبل نيِّر باهر… وليس غريبًا كذلك أن تنقلب هذه القياسات كلها، وتتغير الموازين، فتبهت العقول، وتتحير النفوس، ويختلط الحابل بالنابل، ويمتزج الخير بالشر امتزاجًا، ويصبح الناس حيارى مشدوهين، إذا رأوا هذا البدر المنير قد محق محاقه، وهذا النجم المتألق قد هوى وتردّى… وليس غريبًا أن يكون هذا الأمر دليلًا للشيخ ولكل من يفوض أمره إلى الله، في السرّ والعلن، على أن العبد يريد، والله يريد، ولا يكون إلا ما يريده الفعّال لما يريد، وليس للعبد إلا التسليم والرضا، والاعتقاد بأن الخير فيما يختاره الله لعبده:

﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ﴾ [الأنعام: 124].

فلا عجب إذًا أن يقع الشيخ في شبه ورطة، يداري فكره، ويديره على مختلف وجوهه وصوره…

قل للتاريخ يسكت ولا يتكلم! ولا يبح بأسراره، لا يُخزِ أحدًا ولا يُحرج شخصًا. قل له! إنه لن يطيعك، إنه لن يسكت، لأن عمله ضبط الحوادث بدقة وتسجيل الوقائع بدون هوادة، وشيمته الصدق والأمانة، فلا إجحاف ولا مبالغة، لا يُبالي برضا شخص ولا بسخط قوم. إنه بريء من هذا وذاك، وجريء في نقل الروايات والأحداث.

فما دام عمل الإنسان لا يموت، خيرًا كان أو شرًا، وما دامت الحركة لا تنعدم، كما تقول الفلسفة: “المادة لا تنعدم”، فلا يمكن أن يُمحى من التاريخ هذه الحقائق. فالمؤرخ، عندما يُؤرخ السنوات العشر الأخيرة من حياة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ومن تاريخ هذه المؤسسة، لن يفوته تسجيل هذه الأحداث، ولن يُغفل شيئًا منها.

فأخذه التفكير، وظل يستخير الله ويسأله التوفيق أن يُسدّد خطاه ويرشده إلى الصواب، خاصة بعد أن رأى إخفاق أمله في أشخاص كثيرين كان يعتقد فيهم أنهم قادرون على ملاحة هذه السفينة. وهم ممن قرأوا الكتب وكتبوا وألّفوا، وعرفوا حقائق العلم وأسراره، واطلعوا على تاريخ الأمم وما يتصل بها من حضارة وثقافة، فازداد يأسه من الرجال. وأدرك أن الحفاظ على هذه المؤسسة العلمية وأهدافها وعقيدتها ومناهجها، وصونَها من كل سوء ومكروه، وإبعادَها عن كل شر وفساد، هو من أولى الأولويات وأوجب الواجبات، ومن أهم ما يتطلَّبه منا هذا الوقت الراهن. وكان يرى نفسه فيها مسؤولًا أمام الله، لأنه لم يكن قد قضى وقته في هذا المعهد مستغلًا فرصه لمنافعه الذاتية، ولا منتهزًا مناصبه لخدمة أقربائه، ولا متمتعًا بوسائلها، متفاخرًا بمكانته وعزته وشرفه في الناس، بل عاش متفانيًا في خدمته، مؤثرًا له على كل غاليه ونفيسه، متفتِّح العينين، متوقِّد الذهن، نافذ الذكاء، متحرّق القلب لرقيه وازدهاره. يسره ما ينفعه ويرفع من شأنه، وينغص عليه الحياة والراحة إن رأى فيه ما لا يليق بشأنه. فلم يكن مُتصوَّرًا من رجل مثله أن لا يفكر فيه، وأن يدع الأمر للناس يلعبون به كيف شاءوا، وأن يعبثوا بمنهجه وأُسسه ومبادئه حسب ما تملي عليهم نفوسهم وأهواؤهم. لأن الندوة قد قامت على عقيدة السلف؛ أئمتها الصحابة والتابعون والفقهاء المجتهدون وأئمة المحدثين العظام، فكان لا بد أن يُختار لها رجال أكفاء يتصفون بهذه الصفات، ويشهد لهم بذلك الأعمى والبصير، لا يخفى على الناس ليلهم ونهارهم (يتبع).

×