الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (4/ الأخيرة)

الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (3)
22 يونيو, 2025

الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (4/ الأخيرة)

أبو يحيى السيواني

من هنا بدأت مرحلة جديدة في حياته. لم تكن هذه المرحلة مرحلةً يسيرة، فليس سهلاً أن يخرج الإنسان من هذه المرحلة سالمًا غانمًا، لم تُسجل عليه أي خطوة مخالفة للنظام والإدارة أو الأخلاق. فما أكثر ما ذهب الناس أساتذةً ومدرسين في المدارس، ثم خرجوا منها متهمين بمخالفتهم للتعليمات الواجب الالتزام بها.

فلم يُؤثر عنه شيء من ذلك. لم يثبت أنه زاحم أحدًا على تدريس كتاب، أو نافس شخصًا في كونه مقبولاً لدى الطلاب فذكره بتنقيص، ولم يُؤثر عنه كذلك أنه استغل درسه لأغراض لا تتفق مع أهداف المدرسة وتناقض المسؤولية الموكولة إليه، الأمر الذي يدل على حب الجاه والإعجاب بالنفس وتنقيص الآخرين.

إن هذه المرحلة مرآة للإنسان يرى فيها صورته وسيرته، ومن خرج منها سالمًا مشهودًا له بحسن الخلق، والتواضع، والالتزام بالتعليمات، واحترام المسؤولين فيها، فقد اجتاز المرحلة الأولى، وهي المرحلة الصعبة للتأهل للمناصب العظيمة.

فالشيخ جعفر لَقِيَ قبولاً عامًا، ونال حُبًّا وإعجابًا من كل شخص، بحيث اتفقوا على حسن خُلُقِهِ وتواضعه واحترامه للجميع..

هذا، وقد ظلَّ صاحبُنا مستمرًّا في تقدُّمه، لِيتدارك ما فاته – أيَّام دراسته – من كفاءةٍ علمية، فازدادت قراءتُه للكتب، ومطالعته للجَرَائِدِ والرَّسَائِلِ، لأنَّ أباه وعَمَّه كانا من فُرسان هذا الميدان، حتى صار كاتبًا مُوَفَّقًا باللغة العربية، ومُتَرجمًا فائقًا من الأُردية إلى العربية.

هكذا بدأت تتجمع فيه المؤهلاتُ من كلتا الناحيتين: الخُلُقِيَّةِ، والعِلمِيَّةِ. وهذا شأنُ الخِصَالِ والصِّفات، إنها تترسَّخ في الإنسان شيئًا فشيئًا، وتأخذ من النفس مكانها بالتدريج، ولا بُدَّ لها أن تُؤخذ من واقع الحياة، من حقائق الناس، من صميم المجتمع، من أسباب الحياة ووسائلها، وإلا فما قيمة العِفَّةِ، والنزاهة، والطُّهْرِ، والعفاف، والزُّهْدِ، والاستغناء، وعُلُوِّ الهِمَّةِ في رجلٍ اعتزل المجتمع، وانقطع عن الناس، وأَوَى إلى عُرعُرة في الجبل يذكر ربَّه، وينمِّي تَقْوَاه، وليس يعيش حوله إلا الأحجارُ، والأشجارُ، أو حيواناتُ الغابة…؟

إنما قيمتها كلُّ القيمة في شخصٍ يعيش بين الناس، يَبْلُو شرارَهم وخيارَهم، يصبر على أذاهم، ويريد الخير لهم، والناسُ يعرفون منه ما يَرَوْنَ أنفسهم عاجزين عنه؛ من حبٍّ، وإيثارٍ، وتواضعٍ، وإكرامٍ.

فالشيخ جعفر قد أُوذِيَ كثيرًا في الآونة الأخيرة من أيَّام حياته، جَرَّاءَ وقوفه سدًّا منيعًا دُونَ عَمِّهِ الشيخِ محمد الرابع الحسني الندوي وموقفِهِ، وواجه تحدِّياتٍ ومشاكلَ كانت أنواعًا غريبةً من المصائب عليه… فكانت هذه المصائبُ مُعَلِّمَةً له، مُرَسِّخَةً لِقَدَمِهِ، مُقَوِّيَةً لِعَزِيمَتِهِ، قَاهِرَةً لنفسه، مُخْزِيَةً لِعَدُوِّهِ، سَامِيَةً بهِمَّتِهِ…

فكلُّ ما يعتري الإنسانَ من آلامٍ ومصائبَ، إنما يعتريه لِيَمْحُوَ من نفسه الخِسَّةَ، والدَّناءةَ، ويكسر الشرَّ، والكِبْرِيَاءَ، ويفتأ الحِدَّةَ، والطَّيْشَ. فهو بذلك كلِّه يظهر على الناس خلقا آخر يُنَافِسُ الملائكةَ القُدُّوسِيِّينَ، إذ إنه تمكن من قَهْرِ النفس وأهوائها، وأَسْلَمَ وجهه إلى الله مُحْسِنًا، مُسْتَمْسِكًا بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا، ومُخْلِصًا له دينَه وعبادتَه… فكان موضعَ غِبْطَةِ الملائكة.

هذه هي مُعْجِزَةُ التَّرْبِيَةِ – التي قلَّما يُؤْمِنُ بها الناس –، تَتَنَاوَلُ الإنسانَ: ظَاهِرَهُ، وباطِنَهُ، ثم تَغْسِلُهُ، وتُطَهِّرُهُ، وتُنَظِّفُهُ، كما تفعل الأمُّ الحَنُونُ بِطِفْلِهَا، فإذا هو إنسانٌ قد تَلاَلاَ بِنُورِ الله باطنُهُ، وتَجَمَّلَ بشِيمِ الكرامِ والأبرارِ ظاهرُهُ.

فقد تفاعلت في تكوين شخصيته وتربيته عواملُ عديدةٌ، مِنَ العوامل التي تُكَوِّنُ شخصيةَ الإنسانِ وتَصْنَعُهَا، وتترك في حياته آثارًا حسنةً أو سيئةً – وهي كثيرةٌ لا يمكن حصرُهَا –؛ فقد تَسْمَعُ كلمةً مِنْ خَطِيبٍ، أو مُحَاضِرٍ، أو مُتَكَلِّمٍ حكيمٍ مُحَنَّكٍ مُجَرِّبٍ، فتُغَيِّرُ حياتَكَ، أو تقرأ جملةً في كتابٍ لا تُلْقِي لها بَالاً، فهي تَسْتَقِرُّ في نفسِكَ، ويكون لها النَّصِيبُ الأَوْفَرُ في تغيير مساركَ، أو تُصَاحِبُ شخصًا عدةَ أيامٍ، فيَظْهَرُ أنك جزءٌ منه في غَدَوَاتِكَ، ورَوْحَاتِكَ، وقد لا تقرأ شيئًا، ولا تَسْمَعُ كلمةً، بل تَرَى بعينيكَ شخصًا فيُعْجِبُكَ بِمَا وَهَبَهُ الله مِنْ عِنْدِهِ، فَيُبْهِرُكَ، وتَمْلاَ منه عينَكَ، فيَصِيرُ هو قُدْوَتَكَ…

خُلاصةُ القول أن هناك عواملَ كثيرةً لتكوين الشخصية يمكن حصرُها في ثلاثة:

العامل الأول: خصائصه الوراثية

إنَّ الدَّمَ الذي يجري في عروق شخص لا يمكن أن يتخلص من آثاره بأي حالٍ من الأحوال، هو دائمًا يحمل آثاره، فالشيخ جعفر من سُلالةِ سيدِنا الحسنِ – رضي الله عنه –، وكذلك الدين انتقل إليه عن طريق الوراثة، وبطريقة التَّوَاتُرِ مِنْ لَدُنْ رسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – إليه، وإلى مَنْ بَعْدَهُ، فلا يوجد انقطاعٌ لا عن طريق وراثته، ولا عن طريق إسناده… فقد ورث الدين والخصال الحميدة بلا كدٍّ ولا تعب، وصقلتها وزادت من لآلائها التربية الدقيقة الحكيمة… كما قال الفيلسوف عباس محمود العقاد، محللاً سيرة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه: إنه الصديق قبل الإسلام وبعد الإسلام، هو هو… أي أن الصفات التي ظهرت لنا فيه من صدق وعفة وأمانة ونزاهة ووفاء وفداء إنما كانت طبعًا فيه ومن نبع ذاته. وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: “الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام.”

فالدين بخصائصه العامة كان فيه من أصل الطبع، والعمل به في أسرته عن طريق التواتر…

العامل الثاني: البيئة

يقول المحللون للشخصيات: للبيئة أثر كبير في تكوين شخصية الإنسان، وهي تظل تؤثر فيه من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر… فالبيئة التي نشأ فيها يسودها الدين: تعظيم شعائر الله، صحة العقيدة، اهتمام عظيم بالسنة، حب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وعدم اكتراث للدنيا وأهلها، كثرة ذكر الله في السر والعلن، والبعد عن قبائح الآثام والصغائر…

العامل الثالث: التعليم والتربية

إنه يصهر الإنسان في بوتقة خاصة صُنعت له…

هذا هو العامل الأقوى والأكثر تأثيرًا في الكائنات كلها؛ ترى الحيوان يصير نافعًا ومفيدًا بفضل التعليم والتربية، وكل ما نراه ونشاهده في العالم من مظاهر الرقي والازدهار إنما هو بفضل التعليم والتربية.

فقد تلقى الشيخ جعفر علومه من الأساتذة الكبار في هذه المؤسسة، وأخذ التربية من أهل بيته…

التربية ليست لفظًا يُطلق عليه تعريف اصطلاحي، بل هي سرٌّ من الأسرار الإلهية، يخص الله به من يشاء من عباده، يرسل به الأنبياء إلى خلقه… يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم. واستأثر الله تعالى بتأديب نبيه وتعليمه: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”.

والتزكية كانت ولا تزال مفتاح شخصية الإنسان، كلما كملت في شخصٍ ارتفعت منزلته، وكلما قلَّت ونقصت انخفضت شخصيته. ولذلك لم نجد رب الخلائق مدح شخصًا غير من تزكى.

التربية هي سر نجاح الإنسان في حياته، وبها يصلح الإنسان لتسلُّم مهام الأمور والوصول إلى معاليها. وقد رأينا في التاريخ شخصياتٍ كثيرةً قلَّ نظيرها في العالم، قد وصلوا إلى ما وصلوا إليه بسبب التربية.

أذكر لكم –على سبيل المثال– الشيخ يوسف الكاندهلوي رحمه الله، وقد ألَّف فيه الشيخ محمد ثاني رح كتابًا حافلاً، وقام الشيخ جعفر بنقله إلى اللغة العربية. لم تظهر شخصيته في حياة والده، ولكن بعد وفاة والده، لما ظهر على مسرح التاريخ، حير العالم! يقول عنه سماحة شيخنا: “إنه لم يرَ له نظيرًا لا في العرب ولا في العجم”.

كان الشيخ يوسف آية من آيات الله في الإيمان بالله، واليقين فيما عنده، والتوكل عليه، والصبر على المكاره، والثبات على المبدأ، وعدم المبالاة بالأجواء الموافقة والمخالفة له، صارفًا نظره عن ثناء الخلق وهجائهم. من رآه نسي الدنيا وذكرها وأهلها، وعلم أن لله عبادًا هم ملائكة يمشون على الأرض بشرًا، ينطق الصدق على لسانهم، وتجري الأنوار الإلهية عليهم.

اسمعوا ما يقول عنه الشيخ الندوي:

“فقد أتيحت لي فرصة لزيارة كبار أهل العلم والفضل في العالم الإسلامي، وخاصة في العالم العربي، والتحدث إليهم، وتبادل وجهات النظر معهم، وتعرَّفت على الحركات المعاصرة المعروفة، والشخصيات العلمية التي لها شأن يُذكر، ورأيت كثيرًا منهم، وعرفتهم عن كثب… أقول بناءً على هذا: إني ما رأيت أحدًا وهبه الله ذلك الإيمان بالغيب والدعوة اليه والشغف بالدعوة والانهماك فيها وقوة التاثير…التى كان يملكهاالشيخ محمديوسف…”

أيُّ سرٍّ كان وراء هذه الشخصية القوية المغناطيسية؟! من أين جاءت هذه الخصائص؟! من التربية الصالحة.

فكان الشيخ جعفر ثمرة يانعة جنية لتربيةٍ صالحة، لأبٍ صالح، وجدٍّ صالح: “وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِم”. [سورة الرعد: 23]

ولقد ذكرت لكم الشيخ يوسف مثالاً لتعلموا أن ما تبوأه الشيخ يوسف من مكانةٍ عاليةٍ رفيعة بين كبار مشايخ زمانه، وما قام به من أعمال جليلة في مجال الدعوة والإرشاد، وما قطعته “جماعته” من أشواط بعيدة في الانتشار والاتساع والتقدم والازدهار، لم يكن أحدٌ يتنبأ له بذلك في أيام حياة والده، إنما كان مختفيًا كل الاختفاء، ثم ظهر بعد وفاته ظهورًا: “إذا طلعت لم يبد منهن كوكب…”

وفي أيام قليلة، وعمر قصير جدًا، مضى يحطم الأرقام في مجال العلم والدعوة والتبليغ، خاصة في شبه القارة الهندية. فكان كل ذلك بفضل التربية الصالحة اولا.ثم بسبب أنه ورث العمل الذى أفنى فيه أبوه عمره فكان له بهذا العمل صلة قوية: صلة أبوية وراثية، وصلة دينية تربوية. فالصلة الأولى تربطه بعمله ربطا قويا، والثانية تثبّت قدمه وتمنعه من جميع أنواع الفساد والانحلال الخلقى…

إن التربية الدقيقة الحكيمة هي التي تصنع الإنسان الصالح، وتكوِّنه، وتُهيئه للإمامة والقيادة؛ لأن النفس البشرية إذا لم تُهذَّب فهي منبع الشر والفساد، ينشأ فيها اللؤم، والدناءة، والحرص، والطمع، والتدني إلى سفاسف الأمور، وخوارم المروءة، والجرأة على الكبائر كقطع الأرحام، والافتراءات، وغير ذلك مما يفسد المودة والمحبة، ويقضي على الأخلاق الحسنة.

أما إذا هُذِّبت وصلحت، ففيها الحب، والإيثار، والصبر، والتسامح، واحترام الآخرين، وحب نفع الخلائق.

فالتربية التي تلقاها الشيخ جعفر من جده وعمه وأبيه، قد أوصلته إلى تلك المنزلة الرفيعة التي كتب الله له أن تكون له مسك الختام، ويُذكر بها للأبد.

يتحرك القدر، فيجلسه على كرسيٍّ توالى عليه كبار الشخصيات وأجداده العظماء، ليكون له وسام الشرف عند الوداع، ويلحق بهم في خصالهم ومآثرهم.

قدَّر الله له أن يكون مثل أبيه وعمه وجده قبل أن يفارق الدنيا. فأكرمه الله بخدمة ندوة العلماء، التي أفنى فيها أعمارهم كلٌّ من: العلامة عبد الحي والدكتور عبد العلي والشيخ أبي الحسن والشيخ محمد الرابع الحسني الندوي والشيخ محمد واضح رشيد الحسني الندوي رحمهم الله جميعا وأكرم مثواهم…

ليكون هذا حلقة من حلقات تلك السلسلة الذهبية، ويصير جزءًا لا يتجزأ من هذا التاريخ.

“خدا كا شكر ہے یوں خاتمہ بالخیر ہونا تھا…”

أخي الراحل! لقد كتبت عنك لأن لوالدك عليَّ حقًا؛ فقد كنتُ تلميذًا محببًا إليه، ولما أهدى إليَّ كتابه في القاهرة، كتب عليه: “…”، استحييت أن أذكره، ولكنه شرف لي، وأيُّ شرف!

أسأل الله تعالى أن يرفع قدرك وشأنك في أعلى عليين، ويجعل خدماتك كلها في ميزان حسناتك.

دع الأقلام تكتب، والألسن تتحدث، والقلوب تتألم؛ فإنك قد رحلت واستَرَحت…

“أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدد…”

×