ملامح شخصية الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي

ملامح بارزة لشخصية الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله
9 سبتمبر, 2023
الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ومنهج تدريسه في اللغة العربية
10 سبتمبر, 2023

ملامح شخصية الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي

عبد الرشيد الندوي

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشجِّ عبدالقيس: “إن فيك خَصلتينِ يُحِبُّهما الله: الحِلمُ، والأناة” رواه مسلم.

الحِلْم: أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب، فإذا حصل غضبٌ وهو قادر على العقاب، ثم عفا عمن غضب عليه، وتجاوز وتغاضى وغض الطرف عنه، فهو الحليم.

وأمَّا الأَنَاة: فهي التَّأنِّي والتريث والتثبت في الأمور، والتروي وتقليب النظر في العواقب عند الحكم بشيء أو الإقدام على عمل أو القطع بأي قضية، وعدم العجلة، وألَّا يأخذ الإنسان الأمور بظاهرها، فيتعجَّل ويحْكُم على الشَّيء، قبل أن يتروى فيه وينظر ويتدبر ويتمهل.

ولأمر ما أثنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على هذين الخلقين، وأشاد بمن تحلى بهما، فقد بلغا في أثرهما، وحسنهما، ودورهما في الحياة الإنسانية، وعظم ما يعودان به على صاحبهما من الآثار الحسنة والنتائج الطيبة والمنافع العميمة والفوائد العظيمة، في دينه ودنياه، وفي عاجله وآجله، حيث استحقا محبة الله سبحانه وتعالى ورضاه، ولا غرو فقد مدح الله سبحانه وتعالى نفسه بالحلم إحدى عشرة مرة، وأثنى الله به على الأنبياء ولا سيما خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام مرات.

ولا أكون مبالغا في القول إن قلت: ما اكتحلت عيناي بالنظر إلى رجل هو أعظم وأجل وأعرق وأرسخ عندي في هذه الخصلة من حضرة الشيخ العلامة الفهامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي تغمده الله سبحانه وتعالى برحمته، فما رئي قط يستفزه الغضب، أو يستخفه الطيش، أو يستعجله الأمر، أو يفزعه الخوف، أو يستهويه الطمع.

ولو أن الشاعر المفلق الحكيم أبا تمام الطائي أسعده الحظ برؤية شيخنا الحليم الوقور الرزين، ذي الأخلاق اللطيفة الدمثة، والآراء النيرة القويمة، والأفكار المعتدلة السليمة، والصنائع الفائقة الرائقة، والآداب الرائعة الجمة الوافرة، لقرت عينه، وابتهجت نفسه، واطمأن قلبه، وتحقق مناه، حيث يقول:

من لي بإنسان إذا أغضبته

وجهلت كان الحلم رد جواب

وإذا صبوت إلى المدام شربت من

أخلاقه وسكرت من آدابه

وتراه يصغي للحديث بطرفه

وبقلبه ولعله أدرى به

لو رأيته في صلاته أو تلاوته، في مطعمه ومشربه وفي منامه، في ليله ونهاره، في مدخله ومخرجه، في جده وهزله، عند سروره أو حزنه، في ملأ من الناس أو في خلوة، في ظعنه أو إقامته، لأيقنت أنه رجل من طراز آخر، قد أدبه العلم، وسما به الأدب، وعلاه نور الصلاح والهدى، وزانه الخُلق، وسعد به التوفيق، وصنعته التربية، وصاغه الشرع، وصبغته السنة، وحنكته التجربة، ورأى في شخصه تفسيرا صادقا حيا لعدة من الآيات مثل: “والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين” و”خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين” و”عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما إلى آخر السورة و” قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون….. ” وتصويرا رائعا ناطقا لكثير من الأحاديث مثل حديث عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: “السمت الحسن، والتؤدة، والاقتصاد، جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة” رواه الترمذي ــ كتاب البر والآداب والصلة ــ باب ما جاء في التأني والعجلة رقم 2010‌ أو حديث عبد الله بن عباس، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الهدي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة” رواه أبو داود برقم 4776 وحديث تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “الدِّينُ النَّصِيحَة” قُلْنَا لِمَنْ؟، قال: “لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ” رواه مسلم برقم 55 وحديث أسماء بنت يزيد، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «ألا أنبئكم بخياركم؟»، قالوا: بلى، يا رسول الله قال: «خياركم الذين إذا رءوا، ذكر الله عز وجل. رواه ابن ماجه برقم:4119 وصححه الألباني.

إن النصح، والورع، والزهد، والعدل، والاعتدال، والعلم والأدب، والعفو، والصفح، والوقار، والحياء والحشمة، والحكمة والروية، والخشوع والإخبات، والكرم والجود، والأمانة، والوفاء، والنقاء والصفاء، وإعطاء كل ذي حق حقه، والوقوف عند الحد، سجايا جميلة وخلال نبيلة تكونت منها شخصية الراحل الكريم، وكانت لحمته وسداه، وتخللت عروقه وشرايينه، وأصبحت شعاره ودثاره.

وما رأيت شخصية أوفى لما قاله الفرزدق في مدح جده علي بن الحسين زين العابدين وأقرب وأصدق من الشيخ الرابع:

سَهلُ الخَليقَةِ لا تُخشى بَوادِرُهُ

يَزينُهُ اِثنانِ حُسنُ الخَلقِ وَالشِيَم

حَمّالُ أَثقالِ أَقوامٍ إِذا اِفتُدِحوا

حُلوُ الشَمائِلِ تَحلو عِندَهُ نَعَمُ

ما قالَ لا قَطُّ إِلّا في تَشَهُّدِهِ

لَولا التَشَهُّدُ كانَت لاءَهُ نَعَم

يُغضي حَياءً وَيُغضى مِن مَهابَتِهِ

فَما يُكَلَّمُ إِلّا حينَ يَبتَسِمُ

ينشق نور الهدى عن نور غرته

كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم

ذات مرة تقدمت إليه بطلب شيء كنت أستحقه بعد عدة أشهر فحثني بعض معارفي على طلبه قبل أوانه، ويعلم الله أني نادم عليه، وما فعلته إلا بإشارته، بل هو الذي كتبه بقلمه، وما كان يخطر ببالي لو لا مشورته، وما واجهته بالطلب، بل أرسلته إليه، فلما لقيته بعد ذلك قال لي: إنني قد وافقت على طلبك أن يتم من شهر كذا (حين استحقاقي)، فاستحييت وقلت: نعم!

إنه ما زادني فوق حقى، وهذا من عدله، وما رفض طلبي وهذا من حكمته وحلمه وحسن تعامله مع الناس، وبلغني أنه سأله رجل غريب أهمه أمر وأفظعه شأن، أن يشفع له إلى بعض ذوي الجاه والمنصب، فتكلم معه الشيخ بكلام رفيق حلو طيب سرى عن روعه، وأدخل في قلبه السرور، فانصرف الرجل وهو يقول: سواء علي أن يشفع لي الشيخ أم لا يشفع بعد ما سمعت منه من الكلام وما لمست منه من الخلق، فقد طبت نفسا وانشرح صدري. وحكى لي بعض أعضاء هيئة التدريس في ندوة العلماء عن نفسه أنه كان بينه وجار له نزاع في فتح الشباك في بيته، قال: إنه شكى جاري إلى حضرة الشيخ أنه يقع بصري على بيته، فرجا من الشيخ أن يأمرني بإغلاق الشباك، فدعاني الشيخ وقال لي: إن من حقك أن تفتح شباك بيتك، ولو شئت لتركت لك الخيار، ولكن ذلك يريب جارك الفلاني، ويوقعه في الشك منك على حرمه، فقد تكدر قلبه، والآن إنه يشك من سبب أو غير سبب، ولا يليق ذلك بمقامك أبدا، فلو تركت الحق لكان خيرا لك، فطبت نفسا بالتنازل عن حقي.

رحمه الله تعالى وجزاه عنا، وعن كل من وصل إليه معروفه خير الجزاء، ووفقنا للاقتباس من نوره، والاقتداء بهديه، والتخلق باخلاقه.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.

×