الابتلاء وأثره في تمييز الصفوف

وداع رمضان واستقبال العام الدراسي الجديد
20 مايو, 2025
أمراض المجتمع وعلاجها (9)
22 مايو, 2025

الابتلاء وأثره في تمييز الصفوف

خليل أحمد الحسني الندوي

يُعدّ الابتلاء سُنة إلهية ماضية في تاريخ الأمم، وخصوصًا في مسيرة الرسالات الإلهية، حيث يتجلّى كعاملٍ حاسم في تمييز الصفوف، وتطهير القلوب، وإظهار صدق الإيمان من كذبه. وإذا ما نظرنا في تاريخ الإسلام منذ يومه الأول، نجد أن هذه السُّنة كانت حاضرة بقوة، وأن المسلمين قد واجهوا عبر القرون ألوانًا من الابتلاءات والمحن، كانت سبيلًا إلى غربلة الصفوف وتثبيت العقيدة في قلوب الصادقين.

جاء في القرآن الكريم: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ” [العنكبوت 2–3]. هذا التصريح الإلهي يؤكد أن الابتلاء ليس استثناءً، بل هو قاعدة في طريق الإيمان.

وقد واجه جميع الرسل وأتباعهم أشد أنواع الظلم والتعذيب، حتى بلغ الأمر ببعضهم إلى التساؤل: “متى نصر الله؟”. نوح عليه السلام، على سبيل المثال، قضى ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعو قومه إلى التوحيد، فلم يواجه إلا الاستهزاء والصدود، حتى دعا عليهم بقوله: “رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا” [نوح: 26].

وقد شاهد موسى عليه السلام شعبه يُعذب على أيدي فرعون وقومه، ووصل به الأمر أن دعا عليهم بقوله: “رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى، قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ” [يونس: 88].

ونذكر هنا قصة ماشطة بنت فرعون، تلك المرأة التي ثبتت على إيمانها، حتى أُلقيت هي وأبناؤها في قدر نحاس يغلي، فكانت مثالًا خالدًا على الصبر والثبات في وجه الطغيان.

وألقي إبراهيم عليه السلام في النار من أجل دعوته للتوحيد، ولكن الله تعالى جعل النار عليه بردًا وسلامًا، فكان نصر الله حاضرًا رغم شدة البلاء.

وحين صدع النبي محمد صلى الله عليه وسلم بدعوة الإسلام، تحولت قريش من أقربائه وعشيرته إلى أعداء ألداء له ولأصحابه، فكان الصحابة يُعذبون في رمضاء مكة، ويُطردون من ديارهم، حتى كان من أشد المشاهد إيلامًا قتل سُمَيّة وياسر، وتعذيب بلال وخباب وغيرهم، رضي الله عنهم، وكان صبر هؤلاء هو البرهان القاطع على صدق إيمانهم، وهو ما صنع النواة الأولى للأمة الإسلامية.

إن المتأمل في أوضاع المسلمين اليوم، وخاصة في فلسطين، يجد صدىً واضحًا لما حدث في العصور الأولى من الدعوة الإسلامية، فرغم مضي القرون، فإن العداوة للدين وأهله لا تزال قائمة، ولكن بوجوه وأدوات جديدة. ومما يلفت النظر أن هذه العداوة لا تغير جوهرها، بل إن ما تغير هي الأساليب والوسائل فقط.

ففي فلسطين، يعاني المسلمون من احتلال غاشم وعدوان متكرر، لكنهم رغم ذلك، لم يهنوا ولم يضعفوا، بل ضربوا أروع أمثلة الصبر والثبات والمقاومة. الأطفال قبل الكبار يحملون همّ الأمة، ويقدمون التضحيات من أجل القدس، حتى صار تاريخهم في المقاومة نموذجًا فريدًا لم يسبقهم إليه أحد.

وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الطائفة الصابرة، فقال: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين على من ناوأهم، وهم كالإناء بين الأكلة، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك”. قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: “بأكناف بيت المقدس”.

السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هو: لماذا يُبتلى المسلمون في كل زمان ومكان؟ والجواب نجده في القرآن الكريم، حيث قال تعالى: “وَلَيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ” سورة آل عمران 141، وقال: “وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ” [آل عمران: 154].

إن الابتلاء أداة لتمحيص الصفوف، ووسيلة لتمييز الطيب من الخبيث. وقد رأينا العاقبة دومًا للمتقين، فقوم نوح هلكوا ونجا هو وأتباعه، وفرعون غرق ونجا موسى وقومه، ونمرود هلك وبقي إبراهيم، وأبو جهل وأبو لهب هلكا وبقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

إن الأمة الإسلامية تمر بمرحلة من التمحيص والابتلاء، وهي ليست جديدة، بل امتداد لتاريخ طويل من الصبر والجهاد والثبات. لكن النصر قادم لا محالة، والعاقبة للمتقين، كما وعد الله تعالى. وفلسطين وأهلها اليوم رمز لهذا الثبات، وهم بإذن الله على موعد مع نصر مؤزر، يتجدد به الأمل في قلوب المؤمنين، ويزول به الظلم عن الأرض المباركة.

×