الابتلاء وأثره في تمييز الصفوف
22 مايو, 2025قد يكون العمل واحدًا.. ولكن تختلف دوافعه
22 مايو, 2025أمراض المجتمع وعلاجها (9)
الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي
(تعريب: سعد مبين الحق الندوي)
الكذب:
هو من أسوأ الصفات التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها علامة من علامات النفاق، حيث قال: “آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”. (صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب علامة المنافق: 33)
وفي حديث عن صفوان بن سليم أنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانًا؟ فقال: “نعم”، فقيل له أيكون المؤمن بخيلا؟ فقال: “نعم”، فقيل له أيكون المؤمن كذّابا؟ فقال: “لا”. (الموطأ: كتاب الكلام، باب ما جاء في الصدق والكذب: 1832)
إن الكذب لا يقتصر على القول فقط؛ بل يشمل الأفعال أيضًا، من أكبر أنواع الكذب في الأفعال هو أن يكون القلب مليئًا بالكفر بينما يظهر الإيمان في ظاهره، وهذا يعتبر نفاقًا حقيقيًا، وقد ورد في القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: “إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرُكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ”. (النساء: 145)
ومن صور الكذب العملي أن يظهر الإنسان بمظهر النقيّ التقيّ وهو في حقيقته بخلاف ذلك، ويتظاهر بصفات الخير والصلاح، وهو في الواقع يفتقر إليها، وقد ورد في الحديث وصف هذا الشخص بأنه “لابس ثوبي زور” أي من يرتدي ثياب الزيف ليخدع الآخرين. (صحيح البخاري: كتاب النكاح، باب المتشبع بما لم ينل…: 5219)
والصدق في الحقيقة يهدي الإنسان إلى أعلى مراتب النجاح ويرفعه إلى قمم الفوز والفلاح، وينير له دروب الحياة، أما الكذب فإنه يجر الإنسان إلى الهلاك والخسران، وهو يهوي به إلى مستنقعات الذل والهوان، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابًا”. (صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا…: 6094)
مهما بدا الإنسان متدينًا أو حسن السلوك في ظاهره، فإن لجوءه إلى الكذب يضعه في زمرة الهالكين، ويجعله سببًا في دمار الآخرين من حوله. وقد أمر الله سبحانه وتعالى بأن يكون الإنسان مع الصادقين، حيث قال: “وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ”. (التوبة: 199)
الصدق دليل الشرف وصفة أهل الكرامة، فمن كان صادقًا في قوله وفعله، محافظًا على لسانه من الزلل والإساءة، فهو وليٌّ من أولياء الله. وأما من يتباهى بعظمته، ويظهرها بأقواله وأفعاله، ويعتمد على الكذب لتحقيق ذلك، فإنه وإن أُعجب الناس بمظهره، إلا أنه لا يُعتمد عليه، يبقى فاقدًا للثقة. فمن الحكمة الابتعاد عنهم، وصحبة الصالحين الأبرار.
ونقل الإمام مالك في كتاب الموطأ رواية عن عبد الله بن مسعود رصي الله عنه أنه كان يقول: “لا يزال العبد يكذب وتنكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يسودُّ قلبه كله، فيكتبَ عند الله من الكاذبين”. (الموطأ: كتاب الكلام، باب ما في الصدق والكذب: 1831)
وفي ليلة الإسراء والمعراج، شاهد النبي صلى الله عليه وسلم ورأى مشاهد الجنة والنار، فأخبر الصحابة عما رأى من مصير الكاذبين، فقال صلى الله عليه وسلم: “رأيت الليلة رجلين أتَياني، فقالا: الذي رأيته يُشَقّ شِدقُه فكذّاب، يكذِب بالكذبَة، تُحمَل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيُصنع به إلى يوم القيامة.” (صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا…: 6096)
الإنسان كثيرًا ما يكذب في المزاح دون أن يدرك خطورة ذلك، وقد ورد في الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ فِي الْمِزَاحةِ” رواه أحمد والطبراني. (الترغيب والترهيب: 3/594)
وعن عبد الله بن عامر أنه قال: دعتني أمي يومًا ورسول صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: هَا تَعَالَ أُعْطِيك، فقال لها رسول صلى الله عليه وسلم: “وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟”.: أُعْطِيهِ تَمْرًا، فقال لها رسول صلى الله عليه وسلم: “أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذْبَةٌ”. وفي حديث: “أَلَا إِنَّ الْكَذِبَ يُسَوِّدُ الْوَجْهَ.” رواه الطبراني والبيهقي وابن حبان في صحيحه. (الترغيب والترهيب: 3/594)
وروى الإمام الترمذي في سننه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “إِذَا كَذَبَ الْعَبْدُ ؛ تَبَاعَدَ عَنْهُ الْمَلَكُ مِيلًا مِنْ نَتْنِ مَا جَاءَ بِهِ”. (سنن الترمذي: كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الصدق والكذب، 1972)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “مَا كَانَ مِنْ خُلُقٍ أَبْغَضَ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَذِبِ، مَا أَطْلَعَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ ذَاكَ بِشَيْءٍ فَيَخْرُجُ مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ تَوْبَةً.” رواه أحمد وابن حبان في صحيحه. (الترغيب والترهيب: 3/597)
ومن عواقب الكذب أنه يوقع الإنسان في شتى أنواع المعاصي، كبيرها وصغيرها، وقد يكون الأمر الذي يكذب لأجله تافهًا عاديًا، أو يكون مزاحا، لكن ذلك لا يقل ولا يخفف من شناعة الكذب وكراهيته، فقد جاء في الحديث الشريف: “وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ فَيَكْذِبُ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ.” (سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك: 2485) وشخص كهذا يسقط قدره في أعين الآخرين حيث لا يوثق بكلامه ولا يحمل على محمل الجد.
بيَّن الإسلام كل صور الكذب، ولا يصلح الكذب إلا في ثلاث كما أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: “لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ؛ لِيُرْضِيَهَا، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ”.