رمضان شهر الانتصارات
2 أبريل, 2023الثقة بالنصر
4 أبريل, 2023مجتمع “التنافس” ومسئولية الدعاة
محمد الحسني رحمه الله
في القرون الأولى، في أيام الزهد والورع والتقوى، والجهاد والمجاهدة وشطف العيش كان المفهوم المعقول أن يقف الدعاة والعلماء على منابر العلم ويحثوا الناس على القصد والاعتدال، والأخذ بحظهم من أسباب الدنيا ومتاعها ونعيمها ولكن هذا المعقول المفهوم الذي كان يبدو بريئًا في أنظار الناس ومبررًا للانقطاع إلى المتاع الدنيوي لفترة محدودة من الزمن لم ينل استجابة من الرسول ولما أبدى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبتهم في التوجه إلى مزارعهم وحرثهم، وقد أنهكتهم الحروب وأصابهم الجفاف، نزلت آية، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.
نزلت هذه الآية في أنضر العصور الإسلامية وأزهرها وأروعها وأكملها طبعًا، أفلا يجدر بنا اليوم أن نجدد هذه الدعوة إلى الزهد والقناعة باليسير، وإلى الورع والتقوى، والإيثار والتضحية، وإلى مجاهدة النفس ومكابدة العدو في هذا الزمن الذي انقطع الناس فيه كليًا إلى الدنيا وغرقوا فيها إلى آذانهم.
ولكن بالعكس من ذلك قام فينا دعاة ومفكرون – ولا مؤاخذة – يدعون إلى تحسين الحالة الاقتصادية والأخذ من الدنيا بنصيب وافر، وظلوا يشرحون فضائل المال، وفضائل الكسب كأن الناس صاروا رهبانًا هجروا الطعام والشراب، ولجأوا إلى المغارات والكهوف، وحرموا على أنفسهم طيبات أحلت لهم، فكانت الحاجة ماسة إلى دعوتهم إلى الدنيا قبل ينقرض هذا الجيل من شدة الفقر والفاقة، والجفاف والزهد والتزمت، والقناعة بكساء واحد، وإناء واحد، والنوم على الحصير، والتمرغ في التراب.
وإذا قام فينا واحد يدعو إلى بعض الزهد وبعض الصبر، وبعض الروية والتعقل، قالوا: إنه راهب خرج من صومعته أو عابد يعيش في البرج العاجي، أو جاهل لا يعرف نفسية العصر وحالة الجيل المعاصر.
يا عقلاء، يا جماعة، إن الزمان، زمان الجنون، جنون المال، وجنون الشهوة الجنسية، وجنون التنافس في جمع أكبر مقدار ممكن من الريالات والدولارات والعقارات والممتلكات، والفنادق والشركات والوكالات في أقصر وقت ممكن والفوز بأرباح خيالية في ساعات محدودة أو أيام معدوده، إن الناس جن جنونهم ببريق الدنيا ولمعانها في أمريكا المتألقة المتأنقة وفي داخلها عذاب لا يوصف، وتمزق نفسي لا يصور، وجحيم لا تدركه العيون الإلكترونية والحاسبات الآلية الدقيقة، فإنه عذاب الروح ولا يعرفه إلا المعذبون.
هل هذا التنافس المجنون يحتاج إلى تريث، ويحتاج إلى أن نربت كتف هذه الحضارة المادية الرعناء المتخمة بالمال بغاية من الدلال والعطف، ونقول لأبنائها: هونوا على نفوسكم، لا تتجهوا إلى الرهبانية والتزمت، لماذا تزهدون في الدنيا، وهي نعمة من الله تحتاج إلى كل شكر وتقدير وانتفاع واستغلال، أجمعوا بين الدنيا والدين، حذار أن تنسوا نصيبكم من الدنيا، فقد جاء في القرآن وجاء في السنة كذا، وكان في الصحابة أغنياء وخلفاء، والمال نعمة، والمال عصب الحياة والمال كذا وكذا.
هل يجوز أيها العقلاء أن توجه هذه الكلمة أو هذا النصح إلى رحل افتتن بالمال – مقدمًا – وجن به وأصيب بالتخمة، هل يجوز أن ندعو رجلاً صرف كل همه إلى جمع المال وتحظى في سبيل ذلك سائر الحدود والقيود إلى الأخذ بنصيبه من الدعاء والشكر على نعمة المال.
إن المال نعمة، ما في ذلك من شك، وإن المال عصب الحياة ما في ذلك من شك أيضًا، وإن بالمال يمكن أن نبني مسجدًا، وإن بالمال يمكن أن نعقد مؤتمرًا، وأن بالمال يمكن أن نشتري الذمم، لا قدر الله ذلك، وإن بالمال يمكن أن نخرس، لا سمح الله، ألسنة الحق، وإن بالمال يمكن أن نجري المنح الدراسية لطلاب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن نبعث بالدعاة والمرشدين، وفي الأزهر وحده منهم جنود مجندة – إلى بلاد بعيدة تحتاج إلى نور الإسلام، إذا قال الناس هذا لم يكونوا على خطأ، فالمال يقضي الحاجات ويستر العيوب.
ولكن هل يصح هذا القول ويستسحن في مجتمع أصيب بالهوس المادي، ويمكن أن نسميه بمجتمع التنافس والتكاثر، ولا أستثنى من هذه القاعدة العامة بلدًا إسلاميًا، هذا الهوس المادي لا يخص الشعوب الناطقة بلغة القرآن وحدها، إنه داء الشعوب التي تنطق بالفارسية والأردية والتركية أيضًا، وداء الشعوب الجاهلية المعاصرة كلها.
إن الذي يصاب بالنهامة والشهوة والإغراق في المآكل والمشارب والحفلات والمآدب ينصح بالصوم لكسر شهوته سواء كانت شهوة الطعام أو شهوة الجنس، إن الذي يواصل الصيام ويزهد في الطيبات ويشدد على نفسه ويصيبه ضعف في الجسم أو العقل ينصح بالفطور واستعمال المرطبات والأغذية التي تقوي جسمه وتنشط عقله.
وإن من يسرف ويبذخ ينصح بالقصد والعفو، وإن من يبخل ويمسك فيه ينصح بالإكثار في الصدقة والإنفاق مما يحب كسرًا لحب المال، هذا هو المنطق السليم، والمنطق السائد المعترف به في العالم أجمع، فما بال أقوام لا تكل ألسنتهم من الدعوة إلى المال وصنوف الأموال، والأخذ بأسبابها والإكثار منها، وتوفير الفرص لها والتركيز عليها وإغراء أبناء البلد بمباهجها وملذاتها في مجتمع صار المال فيه “مرضًا” يحتاج إلى علاج، وحمية ووقاية، وعقدة نفسية وتحتاج إلى حل.
إن مثلهم في هذا الموقف كمثل طبيب يداوى مرض الاستسقاء بالماء ويداوى مرض “جوع البقر” بمزيد من الطعام والشراب، ويداوى التخمة بأطباق شهية ومآدب غنية، بحجة أنها نعمة من الله وإنه من الجحود والكفران أن لا نستفيد من بركات السماء والأرض.
إن المال حين يفيض عن الحاجة، ويصبح مشكلة، ويحدث تغييرًا في النفسية، تغييرًا وصفه القرآن بقوله البليغ فقال: “كَلاَ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى” [العلق:6–7]، “وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا” [الإسراء:16] عندما يصبح المال وبالاً وفتنة هنالك هذا المال لا يستحق الشكر، بل إنه يستحق الخوف والإشفاق والوجل، وذلك معنى الحديث الشريف: “لا أخاف عليكم الفقر ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا” إلخ.
هذا مقام الخوف وليس هذا مقام الشكر، هذا مقام العائذ من فتنة المال ومسئوليته، وسخط الله ونقمته، لا مقام الآمن، الجذل المسرور، المرتجي رحمة ربه، المستزيد من نعمة ماله.
وإنها مسئولية العلماء ورجال الفكر والدعوة أن لا ينساقوا مع هذا التيار المادي الجارف وأن لا يخافوا من الدعوة إلى الزهد، والدعوة إلى البساطة في الحياة، والقناعة بالقدر الكافي، والبعد عن المرافق وأسباب الإغراء، لأن مجتمعنا المعاصر في حاجة إلى الزهد والقناعة لا إلى التنافس والتكاثر، أدعوه بكل صراحة إلى “الصوم الاجتماعي” ولا أريد به الصوم المصطلح في الشريعة، بل إنما أريد به الصوم – ولو حينًا من الدهر – عن بعض مفاتن الأموال ومهالكها، وبعض ملذات الحياة ومباهجها التي يسمونها “رفع مستوى المعيشة” و”مسايرة الزمن” والذي صوره القرآن حاكيًا عن قارون، فقال: فخرج على قومه في زينته” أدعوه إلى هجر الكماليات وأدوات الزينة والجمال، والعطور والرياحين، والعود والبخور، والعيش في أحضان ربات الخدور، لبعض الحين، بكل حكمة وبلاغة وقوة وصراحة ولا تخافوا في ذلك لومة لائم وتأويل فيلسوف!
هذا المجتمع المتهالك على المادة يحتاج إلى أن تأخذوا بزمامه، وتمسكوا بتلابيبه بدلاً من أن تشجعوه على المزيد والجديد، وتهيئوا له “شهادة إثبات” أو “ورقة مرور” ليركض إلى أحلامه الخيالية وأوهامه البعيدة تقليدًا للأجانب، واتباعًا للأمم الجاهلية المعاصرة، إنها أمانة الحق، وأمانة الدعوة، وأمانة هذا الجيل الذي صار فريسة العبث والتلاعب حتى في أعز البلاد الإسلامية وأرقى البلاد الإسلامية.
أنظروا في داخل البيوتات والغرفات ووراء الستائر والنوافذ، ووراء الأقنعة، وفي النوادي الرياضية، والسهرات الترفيهية، والشاشات الصغيرة، ثم حددوا موقفكم وخطكم في الدعوة ومنهجكم في الإصلاح والتربية، وقاعدتكم الأساسية في التوجيه، في ضوء ما ترون، قولوا لهم: إنكم مرضى وتحتاجون إلى دواء، وإنكم مكثرون وتحتاجون إلى تقليل، وإنكم متهالكون على المادة وتحتاجون إلى صبر.
خوفوهم من أمر الله، ومن مكر الله شعبًا وحكومة، ورجالاً ونساءًا، شيوخًا وشبانًا وادعوهم إلى تغيير هذا الأسلوب من المعيشة الفارهة اللاهية العابثة الغير الطبيعية – معيشة التنافس المذهل في العقارات والشركات، والكماليات والزينات – قبل أن تفوت الفرصة الأخيرة، بالحكمة والموعظة والقدوة الحسنة، ولو كان في ذلك ضياع بعض الفرص، وفوت بعض المنافع، وانقطاع بعض القضايا.
“فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ” [التوبة:122].
إنها طائفة أثنى الله عليها في القرآن وأشاد بها لسان النبوة قائلاً “لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة”.
فهل نحاول أن نكون من هذه الطائفة المبشرة في زمن تغيرت فيه المقاييس وفي مجتمع أعمى أبصاره “التنافس” وسد أبوابه “التناقض” فهو أضفى على مكامن دائه ثوبًا جميلاً أو علق عليها – في تعبير أصح وأفصح – واجهة حسنة من القول البليغ، والكلام اللبق، والحديث الحلو، والخطابة الساحرة فتضاعف الداء واستعصى العلاج، وكيف يبرأ من مرضه من لا يعترف به، وكيف يصحح اتجاهه من لا يؤمن بانحرافه وتنكبه عن جادة الصواب!
مجتمعنا اليوم حائر بين تنافس وتناقض، أما التنافس فقد حاولنا أن نقدم بعض ملامحه – بقدر الإمكان وعلى قدر الاحتمال – أما “التناقض” فهو حديث مستقل وهو حديث ذو شجون، وفي هذا القدر كفاية ومقنع وبلاغ، إذا أصغت الآذان، وانشرحت الصدور، ولم تخالطها الوساوس والظنون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم