خصائص التشريع الإسلامي في الصوم
2 أبريل, 2023مجتمع “التنافس” ومسئولية الدعاة
2 أبريل, 2023رمضان شهر الانتصارات
محمد واضح رشيد الحسني الندوي
في السنة الثانية الهجرية فرض الصوم، وذلك بعد أن رسخت العقيدة في قلوب المسلمين، وألفوا الصلاة وهاموا بها، وتلقوا الأوامر والأحكام الشرعية بقبول واستعداد كأنهم منها على ميعاد، وأنزل الله تعالى) يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون( [البقرة: 183]،وقال: )شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه( [البقرة: 185]
ويشهد التاريخ الإسلامي بدور رمضان في انتصارات المسلمين، فقد كانت معركة بدر الكبرى في شهر رمضان سنة 2 من الهجرة، وهي المعركة الحاسمة التي تقرر مصير الأمة الإسلامية ومصير الدعوة الإسلامية، وعليها يتوقف مصير الإنسانية المعنوي، فكل ما حدث من فتوح وانتصارات، وكل ما قام من دول وحكومات، مدين للفتح المبين في ميدان بدر، ولذلك سمى الله تعالى هذه المعركة بـ”يوم الفرقان” فقال: )إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان( الأنفال:41].
وكانت هذه المعركة بداية لانتصارات المسلمين وفاتحة لنصر الله للمسلمين، بعد كفاح طويل واجهوا فيه الظلم والعدوان، وتحملوا الشدائد والمكروه، في سبيل البقاء على الحق المبين في مكة المكرمة، وقد أذن لهم بالقتال بعد تحملهم لأشكال متعددة من الشدائد، أمروا فيه بكف الأيدي، واحتمال المكروه، وقد ثبت في هذه المحنة الكبرى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ثباتاً لا نظير له في التاريخ ممتثلين لأوامره بكف الأيدي، ثم أذن لهم برد العدوان، )أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا( فكان قتالهم لرد العدوان، وبعد إتمام الحجة، وبعد إتاحة كل فرصة للكفار والمشركين، ومعانديهم لفهم الحق، والارتداع عن العدوان، والتعايش معهم، فأذن لهم أوّلاً بالهجرة، ثم لما تجمع الأعداء وكثفوا قواهم للاعتداء عليهم في مأمنهم ومأواهم بعيدين عنهم، تصدى المسلمون لهذا العدوان، فكان لهم النصر المبين، رغم قلة عددهم، وضعف قوتهم، عدة وعتاداً، إلا الإيمان في القلوب وكونهم مظلومين، ومن سنة الله أنه ينصر المظلوم.
وقد ازدادت هذه المحنة أي قلة العدد والعتاد، بوقوع هذه المعركة في شهر رمضان، شهر الصوم، فعرف رمضان بذلك بشهر النصر.
وفي رمضان عام 8 للهجرة كان فتح مكة ، يقول الشيخ الندوي في كتابه “السيرة النبوية” وهو يصف دخول جيش المسلمين في مكة:
“وتحركت كتائب الفتح كأنها بحرٌ يموج، وكانت القبائل تمرُّ على راياتها، كلما مرت قبيلة سأل العباس عنها، فيقول: ما لي ولبني فلان؟ حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يُرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله! يا عباس! من هؤلاء ؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً.
قال: يا أبا سفيان! إنها النبوة.
قال: فنعم إذا.
وقام أبو سفيان فصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! ها محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
قالوا: قاتلك الله، ما تغني عنا دارك؟
قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وهو واضع رأسه تواضعاً لله، حين رأي ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه لتكاد تمس واسطة الرحل، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح.
وفي دخوله مكة فاتحاً ـ وهي قلب جزيرة العرب ومركزها الروحي والسياسي ـ رفع كل شعار من شعائر العدل والمساواة، والتواضع والخضوع، فأردف أسامة بن زيد، وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يردف أحداً من أبناء هاشم وأبناء أشراف قريش، وهم كثير.
وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان، سنة ثمان من الهجرة”.
وفي التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة لانتصار المسلمين في رمضان، ووقوع المعارك الشديدة ومواجهة العدو الباسل المضاعف في العدد والعدة، ففي 3 رمضان 1هـ كانت مسيرة أول لواء أبيض عقده الرسول الكريم لسيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، وفي 5 رمضان 5هـ كان استعداد المسلمين لغزوة الأحزاب،وفي 22 رمضان 6هـ أرسلت سرية “زيد بن حارثة” إلى أم قرنة، وفي 3 رمضان 9هـ كان استقبال وفد سقيف وتكليف أبي سفيان والمغيرة هدم اللات، وفي 13 رمضان 9هـ كان قدوم الوفود من حمير ومن الطائف ومن اليمن فأكرم الرسول العظيم وفادتها، وقد أسلموا، وفي 9 رمضان 10هـ أسلمت قبيلة همذان في اليمن، وصلوا خلف الإمام علي المكلف من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي 11 رمضان 14هـ انتصر المسلمون في معركة البويب في العراق، وفي 9 رمضان 15هـ خمدت نيران فارس، وقضى على المجوسية، وتداعى إيوان كسرى إلى الأبد في موقعة القادسية، وفي 9 رمضان 39هـ فتح المسلمون جزيرة رودس، وفي 2 رمضان 82 هـ انتصر المسلمون على الكاهنة زعيمة بربر وفتحوا المغرب الأوسط وفي 7 رمضان 89 هـ كان انتصار المسلمين بقيادة محمد بن القاسم الثقفي في السند على مليكها داهر. وفي 9 رمضان 91هـ انتصر المسلمون بقيادة طارق بن زياد على ردريك، وفي 19 رمضان 223هـ استجاب المعتصم لمناداة مسلمة استصرخته، وحصل النصر في عمورية، وفي 9 رمضان 361هـ تم بناء الجامع الأزهر، وفي 23 رمضان 362 هـ كان انتصار الحمدانيين في حلب على البيزنطيين، وفي 9 رمضان 549هـ استرد جزء صفد من الصليبيين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، وفي 9 رمضان 559 هـ كان استرداد بلدة حارم قرب حلب من الصليبيين بقيادة نور الدين زنكي، وفي 21 رمضان 584 هـ حررت سورية من الصليبيين ، وفي 22 رمضان 648هـ كان انتصار المسلمين باسترداد بيت المقدس وإقصاء الصليبيين بقيادة صلاح الدين الأيوبي،وفي 24 رمضان 658هـ كان انتصار المسلمين على المغول في معركة عين جالوت، وفي 14 رمضان 666هـ انتصر المسلمون وفتحوا أنطاكية بقيادة القائد بيبرس، وفي 26 رمضان 927هـ كان انتصار المسلمين بفتح مدينة بلجراد بقيادة القائد العثماني مراد، وفي التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة.
كان آخر هذه الانتصارات معركة العاشر من رمضان عام 1393هـ التي انتصرت فيه القوات المصرية التي حطمت أسطورة التفوق العسكري لإسرائيل، ومحت وصمة العار التي لحقت بجيش العرب في عام 1967م عندما حطمت إسرائيل القوة الهجومية للعرب في ساعات بغاراتها الجوية على مطارات أربع دول عربية.
لقد تحقق هذا النصر التاريخي في الهجوم الذي بدأ في العاشر من رمضان بهتاف الله أكبر، وكسرت القوات المصرية خط بارليف الذي كان يقال عنه أنه غير قابل للتسخير، فحصل هذا النصر الذي كان رائده الإيمان بالله، وكتب تاريخ جديد للنصر بعد هزائم متتالية بدأت منذ قيام إسرائيل في عام 1948م .
لقد تحققت انتصارات كثيرة في شهر رمضان على الأعداء.
إن انتصار الصوم على النفس والغلبة على غيها، وطغيانها لا يقل أهمية من انتصار الصوم على العدو الظاهر، فالنفس لها مكر، ودهاء، وأمر، ونهي، ونفس واحدة طاغية باغية قد تحرك الجيوش وتقهر النفوس.
وقد وصف رمضان بالبر والإحسان والمواساة والتقوى)يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون( [البقرة: 183]، واعتبر ذلك هو هدف الصوم.
والمقصود الحقيقي من الصيام التقوى، والتقوى وسيلة لكسب النصر من الله، )إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين( [يوسف: 90]، )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون( [النور: 55]
والتقوى هو الانقياد لأوامر الله تعالى، والاجتناب عما لا يرضى الله به، ولا يتحقق ذلك إلا بضبط النفس، والسيطرة على ما تسول له، وترغب فيه .
يقول حجة الإسلام الغزالي وهو يبين المقصود من الصيام:
“المقصود من الصوم التخلق بخلق من أخلاق الله عزوجل، وهو الصمدية، والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بحسب الإمكان، فإنهم منزهون عن الشهوات، والإنسان رتبته فوق رتبة البهائم لقدرته بنور العقل، على كسر شهوته، ودون رتبة الملائكة لاستيلاء الشهوات عليه وكونه مبتلى بمجاهدتها، فكلما انهمك في الشهوات انحط إلى أسفل السافلين والتحق بغمار البهائم، وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين، والتحق بأفق الملائكة” (إحياء علوم الدين 1/212).
ويقول ابن القيم:
“الصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال الله: )يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون( [البقرة: 183] وقال النبي صلى الله عليه وسلم الصوم جنة، وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ـ ولا قدرة له عليه ـ بالصيام، وجعله وجاء هذه الشهوة، فشرعه الله رحمة لهم، وإحساناً إليهم وحمية وجنة”.
وقد قسم القرآن الكريم النفس ثلاثة أقسام: النفس الأمارة، النفس اللوامة، النفس المطمئنة، والنفس المطمئنة هي النفس التي ترضى بما يرضى الله تعالى، )فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً( (النساء: 65].
إن ميزة الصوم الأولى هو التغلب على ما تقتضيه النفس، وتأمره به، والانقياد الكامل، لرضا الله تعالى في بدء الصوم، وفي الإفطار، فليس الصوم هو المطلوب بل اتباع حكم الله تعالى، فإذا كان الصوم هو المقصود لما أمر بالتعجيل بالإفطار، ولما فسد الصوم إذا امتنع الصائم عن الإفطار، وواصل الصوم إلى اليوم التالي، وفي ذلك سر فضل تناول السحور، والأجر المكتوب عليه.
فالصوم مثل الصلاة التي فيها تعيين للقيام والسجود، والقعود، والتحريم، والسلام، وفي القيام بهذه الفرائض والواجبات، قياماً كاملاً، يكمن صلاح هذه الأعمال، فلم يترك الشارع تأدية هذه الأعمال على رغبة العامل.
وبهذا الاعتبار رمضان شهر الانتصار على النفس، يصوم الصائم، ويفطر حسب تعاليم دينه، فليس هو مجرد شهر الصيام، بل هو شهر ينقسم بين الصوم، والإفطار، صوم في النهار، وأوقات بدء الصوم وإنهاء الصوم مقررة لا يخالفه أحد إلا ويفسد صومه، والإفطار له موعد متعين من الغروب إلى طلوع الفجر. )حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل( [البقرة: 187].
وتقييد الصيام بشهر رمضان فيه أيضاً إشارة واضحة إلى التنفيذ بأمر الله تعالى، فقد كانت أيام الصوم متعددة في الأمم، وكانت هذه الأمم تغير أوقات الصوم والإفطار في أيام السنة المختلفة، وتغير عدد الأيام للصوم، ولكن الإسلام عين شهر الصوم، وفرض الصوم فيه، كما فرض الإفطار بعد انتهائه، فلا يجوز لأحد وجد لذة في الصوم، أن يصوم يوم العيد، ولو تركت هذه الحرية لما أفطر كثيرون يجدون لذة في الصوم يوم العيد وواصلوا الصوم، فقيل: هذه أيام أكل وشرب، ولا يصوم في ذلك اليوم إلا الشيطان.
إن شهر رمضان بذلك فترة تمرين للحصول على التقوى بإخضاع النفس إخضاعاً كاملاً لما يأمره الله ولما يرضاه ويحبه، ويساعد الصوم على هذا الخضوع الكامل بكسر الشهوات، ودواعيها بالاشتغال في أعمال متواصلة في النهار والليل ، تصبح حياة الصائم فيها حياة منظمة، مقيدة، فلم يفرض فيه الصوم وهو الإمساك عن الطعام وحده، بل فرضت أمور كثيرة، وحرمت أمور كثيرة، أي ما تفعل وما لا تفعل، كل ذلك مصرح به في الأحاديث النبوية الشريفة.
وقد وصف الصوم بأنه جنة، والجنة آلة لوقاية النفس، والدفاع عن العدو، وحفظ النفس عن الهجوم، وإذا كانت الجنة محفوظة عملت عملها وإذا خرقت لا تأتي بعملها المطلوب، فجاء في الحديث “الصوم جنة ما لم يخرقها، قيل: بم يخرقها؟ قال: بكذب، أو غيبة” .(رواه النسائي).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم،ـ مرتين ـ والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها” (رواه البخاري رقم: 1894).
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه “(البخاري رقم: 1903).
وعن علقمة قال: بينا أنا أمشي مع عبد الله رضي الله عنه فقال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء (البخاري رقم: 1905).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبرييل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة (البخاري رقم:1902).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :من تقرب فيه بخصلة من الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة”( البيهقي).
فإذا كان شهر رمضان شهر الانتصار في المعارك والصدام، كان شهر الانتصار على النفس التي تسيطر على الإنسان، وهي التي توجهه وترغبه،وتوحشه عن أشياء، فإذا استطاع الإنسان أن يسيطر على نفسه وأقام في نفسه رادعاً كان في استطاعه أن يتقي الله وكانت حياته صورة صادقة للتقوى، وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:”ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”(متفق عليه).