من ذُلِّ الواقع إلى عزة الإيمان

أمراض المجتمع وعلاجها (11)
22 يونيو, 2025
دلالات وإيحاءات للحج وهمسات إلى الحجيج
22 يونيو, 2025

من ذُلِّ الواقع إلى عزة الإيمان

خليل أحمد الحسني الندوي

كثيرًا ما تجري على ألسنة المسلمين اليوم تساؤلات ملؤها الألم والحيرة، يُرددها الكبير والصغير، المثقف والعاميّ، في مجالسهم وهم يطالعون واقع أمتهم المتردي، فيقولون: نحن أمة الإسلام، المستسلمون لأوامر الله، المنقادون لحكمه، المطِيعون له، فَلِمَ هذا الذُّل الذي نواجهه؟ ولماذا هذا الهوان الذي يكتنفنا، والمسكنة التي تحيط بنا من كل جانب؟ لماذا غَلَبَنا الأعداء، وتسيطروا علينا، وتحكموا في رقابنا ومصائرنا؟

إن من أراد أن يعرف الجواب الحق، فعليه أن يُقلّب صفحات التاريخ المشرقة، وينظر إلى ماضٍ مجيد صنعه رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لم تكن لهم قوةٌ في المال، ولا عُدة في السلاح، ولا سطوة في الجاه أو العدد، لكنهم كانوا يملكون شيئًا أعظم من ذلك كله: قوة الإيمان، والثقة المطلقة بالله، والثقة الراسخة بالذات.

لقد كان أولئك الصحابة الكرام، الذين تربوا في مدرسة النبوة، يُدركون أن عزّهم الحقيقي لا يأتي من خارجهم، بل ينبع من صِلتهم بالله، ويقينهم بقدرته، واعتزازهم بدينهم. فتحوا مكة التي أُخرجوا منها مظلومين مضطهدين، لا يحملون من الدنيا شيئًا، ثم ما لبثوا أن فتحوا ديار كسرى وقيصر ومصر وفارس، لا بسيوفهم فحسب، بل بإيمانهم العميق وثقتهم الراسخة بنصر الله.

وقد أدرك أعداؤهم هذه الحقيقة، فَعلموا أن سِرّ انتصار المسلمين يكمن في القوة الإيمانية، وفي الثقة بالله والذات، فسعوا إلى تجريدهم من هذه الأسس الراسخة، عبر دسائس ومؤامرات، وغزو ثقافي وفكري ناعم، جعل الشك يتسلل إلى قلوبهم، والريبة تضعف يقينهم، حتى غدت الأمة بلا ثقة، وبلا رؤية، وبلا بوصلة تهتدي بها في دروب الحياة.

تأملوا موقف الصحابي الجليل رِبعي بن عامر رضي الله عنه، عندما دخل على رُستم قائد الفرس، في خيمته الفخمة المُزينة بالذهب والديباج، والتيجان والزرابي، في محاولة لاستعراض الهيبة والمجد الزائل، دخل ربعي بثيابه البسيطة، وسيفه وترسه، لا يهاب شيئًا ولا يُبالي بمظاهر الدنيا، فاستوقفه رستم قائلاً: “ما الذي جاء بكم؟” فكان جواب ربعي كلمات من نور، تفيض بالعزة والثقة: “الله ابتعثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.”

كلمات تُختصر فيها فلسفة الإسلام في تحرير الإنسان، وعظمة الانتماء لدين الله، ويقين المؤمن الذي لا يتزعزع أمام مظاهر الدنيا الخادعة.

وتأملوا موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حينما خرج إلى الشام، ومعه الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح، فعندما بلغا مخاضة نزل عمر عن ناقته، وخلع خُفّيه، ووضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام الناقة وخاض بها الماء، فقال له أبو عبيدة: “أأنت تفعل هذا يا أمير المؤمنين؟! ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك على هذا!”، فأجابه عمر بكلمات تهزّ القلوب: “إنا كنا أذلَّ قوم، فأعزّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره، أذلّنا الله.”

هذه هي الثقة بالله، واليقين بأن العزّة الحقيقية لا تُنال إلا بالتمسك بالدين، وبالعودة إلى نهج الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

لكن حينما بدأت الأمة تتخلى عن هذه القيم، وتبحث عن العزة في الشرق تارة، وفي الغرب تارة أخرى، وتغتر بالمظاهر، وتُفتن بالحداثة المادية الخاوية من القيم، بدأت رحلة السقوط، دُسَّت فيها الشكوك، واستُزرعت فيها الريبة، وقُطعت صلتها بمصدر قوتها، ففقدت الثقة بالنفس، وضاعت منها الهيبة حتى أصبح أبناؤها يتساءلون: من نحن؟ وما موقعنا من هذا العالم؟

إن الحل لا يكون في التوسل إلى القوى الكبرى، ولا في تغيير الشعارات، ولا في اللهاث خلف مظاهر المدنية المزيفة، بل الحل في الرجوع إلى منابع العزة، إلى الإيمان الصادق، والثقة بالله، والاعتزاز بالهوية الإسلامية، والعمل الدؤوب لبناء الأمة من داخلها: خلقًا، وعقيدةً، وعلمًا، وسلوكًا.

أيها المسلم، ثق بربك، واعتزّ بدينك، وامضِ في طريق الحق غير هيّاب، فإن الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم، وإن الأمة التي تتصل بالله لا يمكن أن تُهزم، ولو اجتمع عليها أهل الأرض جميعًا.

×