الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي أديبًا وكاتبًا إسلاميًا

نجم تلألأ ثم هوى
18 مايو, 2025
صداقة عابرة… لكنها خالدة في القلب
18 مايو, 2025

الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي أديبًا وكاتبًا إسلاميًا

د. غياث الإسلام الصديقي الندوي(*)

(*) محاضر ضيف للغة العربية، الكلية الطبية الآيورفيدية اليونانية التابعة لجامعة دلهي

فجعت الأوساط العلمية والأدبية في الهند وخارجها بنبأ وفاة أحد أعلام الأدب والصحافة، والأديب والكاتب الإسلامي الشهير الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي (1960–2025م) الأمين العام لندوة العلماء ورئيس تحرير صحيفة “الرائد” والنائب الأول لرئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية ورئيس مكتبها في شبه القارة الهندية. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

أبكت رحلتُه إلى دار الآخرة، العيون، وقرحت القلوب، وأحزنت النفوس، وفاتُه خسارة فادحة للأوساط العلمية والأدبية بصفة عامة، وندوة العلماء والعائلة الحسنية بصفة خاصة، ولا نستطيع له إلا أن ندعو الله سبحانه أن يتقبل جهوده في مجال العلم والأدب والتدريس والإدارة، ويصفح عن زلاته، ويغفر له، ويرحمه، ويرفع درجاته، ويلحقه بعباده الصالحين.

أعتبر وفاته خسارة شخصية بأنه كان نجل مربي الجليل وأستاذي الكريم الشيخ محمد واضح رشيد الحسني الندوي الذي تلمذت عليه في الفصل الدراسي وخارجه، وقرأت عليه عدة مؤلفات العلامة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، واستفدت منه كثيراً في العلم والفكر والأدب والإنشاء. فكان الفقيد الشيخ جعفر الحسني الندوي يراعي علاقتي بأبيه الكريم، وكلّما زرته، وجدته كريمًا محسنًا، وحظيت منه بمعاملة الحب والكرم، فيجزيه الله الجزاء الأوفى.

إنه كان عالما عاملا ونموذجا صالحا للسلف الصالح، وأديبا أريبا وخطيبا بليغا، ويلمح كل ذلك في حديثه إلى الطلاب، وتفسيره للقرآن الكريم، والتكلم مع الناس، والتعامل معهم، والكتابة حول موضوعات متنوعة باللغتين العربية والأوردية. وكان ورث عن جده العلامة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي وعمه العلامة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي الفصاحة والبلاغة والتفكر والحب والإخلاص، ولا شك أنه كان صنو أبيه في البساطة والتواضع والكتابة وحسن العمل، وبعيدًا بكل ما في الكلمة عن مظاهر التكلف والتصنع. ويصدق عليه شعر المتنبي:

حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب

خدم الأستاذ الندوي صحيفة “الرائد” مدة طويلة، وكانت تنشر كتاباتها في عمودها “ركن الأطفال” و”براعم الإيمان” بعنوان “أخي العزيز”، ومقالاته المنشورة فيها كافتتاحية وغيرها، تفتح للقارئ أبواب التفكر والتبصر، وتوسع آفاق المعرفة، وتقدم متعة أدبية، وهي تحتل مكانة مرموقة عند الأدباء والمفكرين.

كان الأستاذ كاتباً إسلامياً وكتاباته تزخر بتوجيهات رشيدة يلمسها كل من يقرأها، وكان يراعي مستوى ذهن القارئ فإذا كان يكتب افتتاحياته لصحيفة الرائد يوجه ترشيداته إلى الكبار، ويثير موضوعات هامة. وتعرض في إحدى افتتاحية صحيفة الرائد لأهمية المحاسبة فأكّد عليها قائلا:

“على كل واحد منا أن يقارن حين يخلو بنفسه بين الحسنات والسيئات التي أتى بها في النهار، ويفكر فيما خسر لمعارضة أحكام الشرع، وفيما ربح للعمل بما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم من الأوامر الإلهية، ويعقد العزم على أن اليوم القادم سيكون أحسن من اليوم الذي انقضى من حيث العمل والسلوك، تزداد فيه الحسنات وتقل فيه السيئات، وهكذا يتدرج في أعمال الخير حتى يصبح كل ما يصدر منه من القول والعمل وفق الشريعة، وسيأتي في حياته ذلك اليوم السعيد الذي يخلو عن كل ما يسخط ربه”(1).

وناقش الأستاذ الندوي مفهوم العبادة وقدم معناها الجامع ومدلولها العميق، وأسسها وعناصرها فيوضح:

” كان مفهوم العبادة في أذهان الأجيال الأولى يختلف عن مفهوم العبادة في أذهان الأجيال المتأخرة، كان مفهوم العبادة فيما مضى من الزمن يشمل كل نشاط للإنسان، وكل عمل يقوم به في حياته، وكل حرفة يختارها لنفسه، فالنية والحسبة والالتزام بالشريعة هي التي تجعل كل عمل يقوم به، عبادة يجزى عنها…”

وأردف قائلا وهو يشخص مظاهر العبادة في مختلف شؤون الحياة الدينية ويلمح منها الجمال الطبيعي للشريعة الإسلامية الغراء:

“التاجر في تجارته عابد ما لم يغش ولم يخدع ولم يدلس على الناس ويبتغي بها وجه الله، والزوج في التعامل مع زوجته عابد، والجار في الإحسان إلى جيرانه عابد، والقريب في صلة رحم أقاربه عابد، والداعي في دعوته عابد، والماشي في الشوارع والطرقات بغضه لبصره عابد، والمبتسم في وجه أخيه عابد، والرجل الذي يميط الأذى عن الطريق عابد، والمزارع في زراعته عابد، والموظف في وظيفته عابد، نستطيع أن نجعل كل عمل نقوم به في حياتنا بالنية والاحتساب وابتغاء وجه الله عبادة إذا قمنا به غير مقصرين فيه”(2).

كتابه “أخي العزيز”:

كتابه “أخي العزيز” إنجاز أدبي مرموق، يستهل بمقدمة كتبها سماحة العلامة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، ثم كلمة عن الكتاب بقلم سعادة الدكتور سعيد الأعظمي الندوي، وأتبع ذلك كلمة المؤلف. ويحوي الكتاب 189 مقالة أدبية أنيقة توجيهية في 536 صفحة، تتخللها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمواعظ والحكم والأشعار والقصص والحكايات الإسلامية والتاريخية. ونشرته دار الرشيد، لكناؤ، عام1444ه‍/2023م.

ركّز الأستاذ على قوة البيئة وأهميتها ودورها في تغيير الأذهان والقلوب وتأثيرها في الطبائع والنفوس فعبّر عن كل ذلك:

“من المستحيل – أيها الاخ – أننا لا نتأثر بالبيئة التي نعيش فيها، والجو الذي نتنفس فيه، فكم من رجال كانوا يتمتعون بالصلابة ويبدون كالجبال الراسيات ويدعون بأن العواصف الهوجاء والسيول الجارفة لا تستطيع أن تزحزحهم قد رمت بهم البيئة إلى مكان بعيد، فلم يعودوا، فتغير كل ما فيهم، تغيرت طبائعهم، تغيرت اتجاهاتهم، وتغيرت مقاييسهم، فجعلوا يقبحون الحسن، ويحسنون القبيح، ويحلون الحرام، ويحرمون الحلال، ينفرون من الطيب ويقبلون على الخبيث”(3).

حثّ الطلاب على بذل الجهود في الدراسة فكتب تحت عنوان “الجد في الجد والحرمان في الكسل”:

“لا تقل –أيها الأخ– إنك لست على درجة عالية من الذكاء، أو أن الظروف لا تساعدك، وأنك لم تمنح قدرة على التفوق، فيضيع جهدك، ويهدر سعيك، كلا! إن الجهد لا يضيع، فقد قال الله تبارك وتعالى ” وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى”. وقال الشاعر:

الجَدّ في الجِدّ والحرمانُ في الكسل
فانصب تصب عن قريب غاية الأمل”(4)

قدّم صورا وأوضاعا للعالم المعاصر، وأزاح الستار عن وجه الغرب وادعاءاته الخادعة فكتب تحت عنوان “عصر التناقضات”:

“هذه هي ميزة هذا العصر – أيها الأخ – التناقض في كل شيء، تناقض في العقيدة، تناقض في العبادة، تناقض في الأخلاق، تناقض في التعامل مع الآخر، ترى الغرب يرفع من شأن المرأة ثم تراه يحط من شأنها، تجده يحارب الإرهاب ثم تجده يصدّره ويموّله، يدعو الدول الشرقية إلى تبني الديمقراطية بينما هو يؤيد الحاكم العسكري الجاثم على صدور شعبه ويدعمه في كل ما يحتاج إليه من المال والسلاح، يؤكد على إقرار الأمن في جانب، ويثير الفتن في جانب آخر، يدعو الحكام المسلمين إلى اختيار أساليب القمع المتنوعة، ويعطي الضوء الأخضر لشعوبهم لرفع الهتافات وإطلاق المسيرات ضد هذه الحكومات، لتدور رحى الحرب بينهما، ويكون هو المستفيد منهما، ببيع الأسلحة بكل أنواعها وأحجامها من القنابل والصواريخ، والمقاتلات والدبابات والمدفعيات وغيرها”(5).

عبّر عن أهمية إجادة العمل فكتب:

” أتقن عملك تحقق أملك” لا تطلب سرعة العمل، بل تجويده، لأن الناس لا يسألونك في كم فرغت منه، بل ينظرون إلى إتقانه وجودة صنعه ” بركة العمل في حسن العمل”، والعمل يبعد عن الإنسان ثلاثة عيوب (1) السآمة (2)الرذيلة (3) والحاجة. فلا تتكاسل – أيها الأخ– في العمل الذي تقوم به وتحاول إتقانه بانصرافك إليه، وعكوفك عليه بكل جوارحك وبكل ما أوتي لك من قوة وكفاءة لتجني بذلك ثماره وتقطف أزهاره في الدنيا والآخرة”(6).

كتب تحت عنوان “طريق النجاح”:

“أقول لك –أيها الأخ – أن تتذكر دائماً ما قاله أحد الحكماء: الناجحون لا يقلعون عن المحاولة والمقلعون عن المحاولة لا ينجحون، فالمحاولة تلو المحاولة هي طريق النجاح وطريق السعاده والهناء”(7).

وعلى هذا المنوال يتدفق الكتاب بآراء سديدة وتوجيهات رشيدة وملاحظات قيمة وأفكار رائعة تنتج عن دراسات طويلة عميقة للقرآن والسنة والأدب والتاريخ والأوضاع السائدة في العالم المعاصر. وعقب دراسته، يجد القارئ أنّه إضافة ملموسة إلى ثروة المكتبة الأدبية العربية، وأداة قيمة للاستفادة والإفادة. واستخدم المؤلف فيه لغة جذابة سهلة، وتتسم عباراته بسهولة العبارة ولطافة المعاني ومتانة الفكرة، وأسلوب كتابته يدخل القلوب، ويؤثر في النفوس، ويؤدي دوره في التربية وتعليم النشء.

لقد خسر المجتمع خسرانا عظيما برحيله، وفقد عالما ناصحا وكاتبا قديرا وأديبا ألمعيا. ومما لا ريب فيه أن ما خلفه الأستاذ الفقيد جعفر مسعود الحسني الندوي من ثروة علمية وأدبية وكتابات رائعة متتدفقة بالحيوية وزاخرة بمنافع فكرية وتربوية، كلها ذخر له في الآخرة، وسبب أجر عظيم وثواب مديد عند الله سبحانه بمشيئته تعالى، ولا يزال يستفيد بها المعنييون بالعلم والأدب إلى أمد بعيد، وتتفتح بها الأذهان وتتنور بها القلوب. رحمه الله رحمة واسعة وتقبل حسناته وغفر لزلاته وألحقه بالصاحين وأدخله قسيح جناته.

الهوامش:

  1. افتتاحية الرائد، عدد11، ج66.
  2. افتتاحية الرائد، عدد7، 8، 9، ج66.
  3. الندوي، جعفر مسعود الحسني: أخي العزيز، ص164.
  4. أخي العزيز، ص110.
  5. أخي العزيز، ص412.
  6. أخي العزيز، ص206.
  7. أخي العزيز، ص240
×