العقيدة والاستقامة

قضية التربية وحضارة الغرب
21 نوفمبر, 2024

العقيدة والاستقامة

(سعيد الأعظمي الندوي)

للعقيدة في حياة المسلم دور كبير نحو تنظيم حياته على أسس جامعة بين الدين والدنيا، وتركيزها على قيم أخلاقية ومثل عليا، وهي التي تميز الإنسان المسلم عن غيره، وتمنحه وسامة الطاعة والولاء للسلطة العليا، والحب، والفداء في سبيل غاية مثلى، إذ لا مناص للإنسان من الخضوع أمام القوة والسلطة والحكم، وحتى إن الشخص الذي يعتبره الناس صاحب السلطة الأخيرة ومصدر الأمر والنهي، ويشعر بمسئوليته نحو أداء الواجب الذي يتولاه، ويضطر إلى إرضاء الجماهير تارة وإخضاع الرأي العام لنفسه ولمصالحه تارة أخرى.

ولكن العقيدة تنقذ صاحبها من ذل العبودية للإنسان، أو الخوف من الظروف والأحوال، إنها تراقب حياته لئلا يتسرب إليها شيء من الحب غير المشروع للجاه والمال والشهوات من غير أن يشعر به صاحبه، وتراقبها لكي لا تتلوث الحياة بالركون إلى ما يعكر عليها صفوها، وإن هذه الرقابة تمتد إلى كل جانب وفي كل جزء من الحياة، وتجعل صاحبها من التورع والأخذ بالحيطة البالغة في كل شيء على القمة، ومن فوقها يطل على الحياة والكون، ويفرز نصيبه منهما بقدر ما يرى حاجته إليه فلا يكون متهورًا في الرؤية إلى حقائق الأشياء ونتائج الأعمال، ولا يكون متكاسلاً في أداء واجبه نحو بناء السيرة وتكوين المجتمع الأفضل.

إن العقيدة الدينية هي التي تدفع المرء على ترخيص النفس والمال في سبيل إرضاء الضمير، وتحقيق شريعة الله في الأرض، وهي التي تمنعه عن الوقوع في الهاوية التي أشار إليها كتاب الله فقال: “وما أدراك ماهية نار حامية” وهي التي تمنعه عن مساومة الضمير، ومراودة أهل الحق، وعن التنازل عن المستوى الإيماني، والقيم الخلقية في أصعب اللحظات وأدق المواقف، ثم إنها هي التي ترفع قيمة الإنسان ومكانته بين بني جلدته وأبناء قومه، وهي التي تتولى ترسيخ جذور الإيمان بالآخرة في أعماق القلوب، وتمكنه من التواضع في الله والاستماتة في سبيل إعلاء كلمة الله، والنهوض لتحقيق السعادة في معنى الكلمة في الدين والدنيا.

ولولا العقيدة الصافية الخالصة لما نالت البشرية بغيتها من الهداية والهدوء والالتجاء إلى ظل الأمن والسلام، ولما كان في الدنيا عدل ولا رحمة ولا حب ولا إيثار، وإن هذه المعاني العالية إنما عرفها البشر عن طريق العقيدة، وتعارف عليها العالم بواسطة رجال العقيدة والدين، واستفادتها المجتمعات البشرية من تعاليم الإسلام الاجتماعية وتوجيهاته السماوية، وهي مادامت تستنير من نورها وبهائها، وما كانت تعيش في ظلالها وتحت تأثيرها، رافقها النصر وساعدتها القوى الغيبية، وأتيحت لها الفرص للامتداد والاتساع، وتوجيه الحياة والإنسان إلى الاتصال بمنبع القوة والنور، ومصدر العز والعلو والسعادة.

ولما انحلت عرى العقيدة في النفوس وضعفت صلتها بالحياة تعرض الناس لأصناف من الويل والشقاء، ووقعوا في ألوان من العوامل والظروف الصعبة، وواجهوا كثيرًا من المشكلات المستعصية على مستويات شتى، ووصل العالم البشري إلى شفا حفرة من الدمار الخلقي والانهيار العصبي، وبلغت العداوات والخلافات من كل نوع إلى أقصى ما يمكن أن يتصوره أحد في كل طبقة من الناس، وقد تفاقدوا عنصر الألفة والأنس بوجه عام، وغابت الثقة والمواخاة فيما بين القلوب، وأصبحت الحياة الإنسانية سلعة تجارية يمارسها في سوق المناداة كل من خان وهان، وكل من قام بالغش والتزوير.

إن العالم البشري بجميع ما فيه من حضارات وعلوم ورقي وتقدم واتساع وتفننن، وبكل ما فيه من مظاهر وآثار ذات أهمية قصوى، لفي أشد حاجة إلى عقيدة جامعة تجمع شمل الحياة وتلم شعث المجتمعات، وترتق فتق الحضارات والنظرات، وتربط الإنسان بمصير الإيمان واليقين، ثم تتكفل له بالسعادة الدائمة الخالدة وحسنتي الدين والدنيا، إنها عقيدة الإيمان بالله وتوحيده، إذ أن الحياة إذا ارتبطت بوحدة العقيدة واتصلت بالله الواحد القهار فلا شك أنها أدركت سر السعادة والعز، واهتدت إلى غاية الأمن والهدوء، وخرجت من حدود الحزن والخوف والمصائب والنكبات والتجأت إلى ساحة الفرح والسرور وملجأ النعيم والحبور، والطمأنينة.

وذلك ما عبر عنه كتاب الله بالإيمان والاستقامة عليه، وبشر أصحابها بالأمن والسرور والجنة فقال: “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون”.

بهذه العقيدة والاستقامة عليها، يتمتع الإنسان بالسعادة الحقيقية، في كل مكان، ولذلك قال رسول الإسلام العظيم محمد صلى الله عليه وسلم ردًّا على من سأله عن طريقة جامعة للحياة الإسلامية المطمئنة: “قل آمنت بالله ثم استقم”.

×