أيام في الربوع العربية (9)

أيام في الربوع العربية (8)
23 سبتمبر, 2024

أيام في الربوع العربية (9)

الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي

توجهنا من مطار عمان إلى فندق عمان إنتركاننتال الواقع على جبل عمان وهو أكبر فندق في المملكة الأردنية، وكانت وزارة الأوقاف الأردنية قد حجزت فيه غرفًا لإقامة الوفد على ضيافتها،وكان في نية الوفد أن يقيم في عمان ثلاثة أيام ولكن المضيفين لم يرضوا بذلك وأصرواعلى تمديد المدة، فتقررت إقامته أسبوعًا كاملاً، وكان في مقدمة من زار الفندق ورحبوا بالوفد، معالي وزير الأوقاف الدكتور إسحاق فرحان، فاجتمع برئيس الوفد فضيلة الأستاذ الندوي وفضيلة الأستاذ أحمد محمد جمال عضو الوفد وبغيرهما، وأبدى سروره وترحيبه بالوفد وتشاوروا في برامج الوفد في الأردن وقرروا برامج في عمان فيها مساهمة فضيلة الأستاذ الندوي وفضيلة الأستاذ أحمد جمال في الأسبوع الثقافي لوزارة الأوقاف كما قرروا أن يزور الوفد المنطقة الشمالية للأردن وبلدانها من أربد وغيرها والمنطقة الجنوبية أيضًا، وفيها وادي موسى وجبال بتراء والمناطق المجاورة لعمان أيضًا وأن يزور مخيمات اللاجئين في المناطق المختلفة.

لقد أصبحت الأردن بعد حرب حزيران 1967م في مؤخرة الركب العربي من هذه المنطقة، لأن طاقاتها الحربية قد أصيبت في الحرب كما لم تصب طاقات دولة أخرى، وذهبت من أراضيها أرض واسعة ذات أهمية دينية وعمرانية ضحية هذه الحرب كما لم تذهب لغيرها وخرجت الأردن من الحرب مقطوعة منقوصة كما لم تخرج منها دولة أخرى، ثم وقعت فيها مأساة أليمة من الحرب الأهلية الدموية بين قوات الأردن والفدائيين، فكل هذا لا تزال آثاره باقية في الأردن وتعمل الأردن بإمكانياتها الضعيفة القليلة وفي جو من الريبة والحذر وبسياسة تتصف بالهدوء والبناء وهي دولة يمينية فهي على أخلاق أهل اليمن، فلا تحارب كل قديم باتهامه أنه رجعي ولا تمنع العمل للقيم الدينية باتهامها أنها التخلف والبرجوازية فوجدنا في هذا البلد غير ما وجدنا أن الشخصيات الكبيرة تمثلها قيمة علمية أو دينية من أبناء البلد لم يتهرب منها كما هربت من الأقطار الثورية بصورة عامة فهو إذن في شخصياته وأبنائه، وفي طاقاته التي تضع في الحرب غير أن الشيء الوحيد الذي لم نجد فيه اختلافًا عن الدول الأخرى هو أن الأردن كذلك ليس بلدً مستقلاً استقلالاً تامًا بل إنه مضطر كذلك إلى تقبل النصائح والتوصيات من الخارج كما تقبلها الدول الثورية وليس الفرق بينهما إلا أن هذا يتلقاها من معسكر وتلك يتلقاها من معسكر آخر، هذا بكثير من المحافظة على قيمه وتراثه وتلك بهدمها وإحلال غيرها في محلها.

بدأ الوفد برنامه في عمان من صباح يوم الثلاثاء 14/8/1973م من زيارة وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية معالي الدكتور إسحاق فرحان في مكتبه، واجتمع الوفد هناك بأعضاء أسرة هذه الوزارة، وفيهم عدد من الشخصيات التي كانت على معرفة دقيقة للأحداث التي وقعت في هذه المنطقة، وأذلت المسلمين في كافة أقطار العالم الإسلامي، وكان حديثهم عن الفجائع مؤلمًا، فقد كان منهم من عاش زمن الكارثة في القدس، وعاصر الأحداث، وعرف حقيقتها وأسبابها المختلفة عن كثب، على كل فقد قضينا فترة من الوقت في هذا الجو، وزدنا معرفة بما تمر قضية الإسلام من خلاله في هذه المنطقة الواسعة والآمال والآلام التي تحيط بها، فلما فرغنا من الحديث التفتنا إلى برنامج الوفد، فحددت وزارة الأوقاف برنامج الوفد، فكان منه زيارة المعهد الشرعي والمركز الثقافي الإسلامي التابعين لوزارة الأوقاف، وزيارة عدد من المساجد الهامة والمراكز الإسلامية، وزيارة مدينة السلط في غرب عمان، وإلقاء فضيلة الأستاذ الندوي المحاضرة فيها بعنوان “نظرات إلى الإسلام”، ثم زيارة مدينة “إربد” في شمال الأردن، وإلقاء سماحة الأستاذ الندوي المحاضرة فيها بعنوان “نظرات إلى الإسلام” أيضًا، ثم عودة الوفد إلى عمان، وحضوره في الندوة الثقافية التي تقيمها وزارة الأوقاف، ويشترك فيها فضيلة الأستاذ الندوي، وفضيلة الأستاذ أحمة محمد جمال، وسعادة الأستاذ كامل الشريف، ويديرها الأستاذ محمد إبراهم شقرة مدير المعهد الشرعي في عمان، بعنوان “دور الشباب المسلم في المجتمعات المعاصرة” ووضعت وزارة الأوقاف على طلب من الوفد برنامج زيارة الكرك أرض الشهداء في مؤتة، والمزار والبتراء أيضًا، وذلك في آخر أيام إقامة الوفد في الأردن، وهو يوم الأحد.

وكانت عودة الوفد إلى الوطن في يوم الإثنين 20/8/1973م، وبذلك كانت زيارة الأردن هو الشوط الأخير لهذه الجولة الثقافية والدعوية الإسلامية في ربوع شمال الجزيرة العربية موزعة إلى لبنان وسوريا والعراق والأردن، ولم يسعنا مع الأسف أن نكمل هذه المنطقة بزيارة فلسطين لغلبة الأعداء عليها، ولكن لا عجب في أن نسعد بزيارتها بإذن الله في المستقبل عندما يكون المسلمون أعز وأشرف مما هم فيه اليوم، فإنه لا بأس في الرجاء والأمل وإن كانت الأوضاع الحالية لا تبشر بخير.

خرجنا من وزارة الأوقاف وفي قلوبنا شجًا لما وقع في المنطقة العربية في الماضي القريب من أحداث مؤلمة، وفي نفوسنا بصيص من الأمل للجهود التي تبذل هنا وهناك في البلدان العربية التي لم تقع في قبضة الاستعمار الأحمر أو السيطرة الإلحادية في هذا العالم الإسلامي لا يمنعنا في هذه المناسبة من أن نقول بصراحة أن الجهود القليلة الضعيفة التي تبذل في هذه المنطقة وفاء وانقيادًا للإسلام، هي الأمل الوحيد لمستقبل عزيز، وهي مهما كانت واهنة وحقيرة تستحق كل مساعدة وتشجيع، لأنها هي الجبهة الوحيدة التي تواجه غارات الأعداء، وبالله الثقة وعلى نصرة الله الاعتماد.

إن مناطق الشرق الأوسط مناطق إسلامية صميمة، ولذلك استهدفها العدو الغربي وحلفاؤه منذ قرون طويلة، منذ أن كان الأعداء ضعفاء أو كانت قوتهم لا تزيد عن قوة المسلمين، أنهم لو خضدوا شوكتهم في كل البلدان، وأنهم إذا انتزعوا السيادة منهم هنا فقد انتزعوها في كل البلدان وتعاونت اليهودية مع المسيحية في هذه الحرب التي شنها الأعداء ضد المسلمين في هذه المنطقة لأنهما كانتا تريدان غرضًا واحدًا، فاليهودية تريد أن تحيل جميع الأراضي التي سكن فيها آل يعقوب عليه السلام إلى وطن يهودي صميم، والمسيحية تريد أن تثأر من المسلمين في تلك الهزائم التي لقيتها منهم في ميادين الشرق الأوسط، فهي تريد أن تستعيد هذه الأراضي كلها إلى غلبتها وسيطرتها وتبنى فيها المجد الرومي، وأغرب شيء في هذا المجال هو أن مثل هذا الهدف وإن كان هدفًا استماريًا بحثًا ولكن قواهم الدينية والعلمية أيضًا تتعاون مع العاملين له كل التعاون، فنرى أن الإرساليات الطبية والمؤسسات التعليمية والبعثات العلمية والشخصيات السياسية كلها من هذه الدول النصرانية تجتمع على هذا الغرض والهدف وهو تغيير هذه المنطقة وتمويع أهلها إلى ما يتفق مع الغرض الاستعماري الذي تتوخاه دول الأعداء حتى أن الفاتيكان لا تعجز من أن تراقب عملية التغيير والتأثير في هذه المنطقة ولا تعجز من أن تعمل بما في وسعها لإزالة كل عائق مهما كان صغيرًا عن تقدم الغزو الاستعماري الصليبي لهذه المنطقة، فقد عرفنا في هذه الجولة في ربوع الأقطار الشامية أن مراكز النفوذ والقوة من الدول النصرانية بما فيها الفاتيكان قد سعت في بعض الأحيان لإحالة مؤظف كبيرًا، وغير كبير إلى المعاش أو نقله إلى وظيفة أخرى لأنها رأت في بقائه في هذه الوظيفة عرقلة لجهود القضاء على القوى الإسلامية، فوا أسفى، فقد غزينا في عقر دارنا، وكل ذلك بسببين لا ثالث لهما، الأول لأننا متحطمون بحكم الفرقة والتشتت، والثاني لأن المتحكمين في شؤوننا ومصائر أمورنا غير خاضعين لمصالح وطنهم الشريفة كذلك.

زرنا أولاً المعهد الشرعي واجتمعنا بفضيلة الأستاذ محمد إبراهيم الشقرة مدير هذا المعهد وهو رجل مؤمن يعمل لخدمة الإسلام والدين، وعنده ثقافة علمية واسعة، فهو يشغل منصب مدير هذا المعهد عن جدارة وكفاءة، تحدث قادة الوفد معه في الموضوعات الإسلامية، وسررنا بهذا اللقاء ورأينا المعهد فإنه يؤدي دورًا حسنًا في مجال التربية والتعليم بالأسلوب الإسلامي المفيد.

خرج أعضاء الوفد من زيارة المعهد الشرعي بعد أداء صلاة الظهر في المسجد المجاور له، وكان في برنامج الوفد الآن زيارة المركز الثقافي الإسلامي، ولكنه علم أخيرًا أن وزارة الأوقاف قد أخذت موعدًا لزيارة الملك في مثل هذا الوقت، فتوجه فضيلة الأستاذ الندوي وفضيلة الأستاذ جمال إلى القصر الملكي، وكان معهما سعادة الأستاذ كامل الشريف، أما بقية الأعضاء فتوجهوا إلى الفندق لأن زيارة الملك لم تكن لجميع الأعضاء، وقيل لنا عن موعد الزيارة أنه تقرر هكذا، فرأى الوفد في ذلك عملاً مخالفًا للمجاملة التي كان الوفد بجميع أعضائه يستحقها من المضيفين وخاصة سكريتر الوفد الأستاذ عبد الله باهبري أيضًا كانوا ممن لاقوا هذه المجافاة، وعلمنا فيما بعد أن هذه المجافاة لم تكن تعد أوعد هذا السلوك مجافاة.

رجعنا إلى الفندق وتغدينا واسترحنا ولم نخرج في المساء إلا إلى جامع عمان الأكبر – وهو على أعلى جبل من جبال مدينة عمان – ومن أهمية أن الأذان الذي يرسل من مئذنته تنقله جميع مساجد عمان، وتكتفي به وحده للمناداة للصلاة في مواقيتها الخمس وهو أمر فريد لم نر مثله في بلد آخر، فقد خصص لهذا الجامع جهاز إرسال لاسلكي يذيع الأذان لمساجد عمان كلها، وتجولنا في أبهاء الجامع وصعدنا إلى طابقه الثاني وأطللنا من أحد شبابيكه إلى مدينة عمان وهي تحثنا. (يتبع)

×