أيام في الربوع العربية (6)
17 أغسطس, 2024أيام في الربوع العربية (8)
الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي
ولقد لجأنا بتأثير حادث الطرد إلى أن نزور بيروت مرة أخرى،ولم نكن نحب هذه الزيارة فقد كنا فرغنا من الجولة فيها أولاً، ولأن الحياة فيها في هذه الأيام بلغت من العرى الأخلاقي والحرية في الشهوات مبلغًا لا نرتاح معه ولم نتعود على الصبرد عليه تعوُّدًا، ونحن ننتمي إلى الشرق، فإننا من بلد علماني متحرر حقًا ولكنه لا يبلغ من التفسخ في ظاهر الأمر إلى ما بلغ إليه لبنان أو بلغت إليه بيروت، ويؤسفنا أكثر وأكثر أن أبناء جميع البلدان العربية إنما يواكبون ركب التفسخ والاختلاط المريب في بيروت وضواحيها الجبلية، وكم من الثروات المادية والطاقات الإنسانية تبعثر على مرتفعات لبنان ومنخفضاته بدون أن يكون هناك عائد ولم يورد لبنان في ذلك مزيدًا بل أصبحت له اليوم مشكلات في مناطق العالم العربي من سواحل وجبال.
لقد يعيش العرب في هذا الوضع ولما يثأروا لمهانتهم من إسرائيل، فما أصدق الشاعر العربي القديم:
أوردها سعد وسعد مشتمل | ما هكذا تورد يا سعد الإبل |
على كل، فقد وصلنا إلى بغداد عاصمة حكومة ثورية اشتراكية قومية أخرى.
وصلنا إلى بغداد في الساعة الحادية عشرة ليلاً واستقبلنا في المطار سعادة السفير السعودي علي صقر مع مساعديه الكرام وجماعة من علماء بغداد الكرام ومندوبي ديوان الأوقاف وفيهم رئيسه سعادة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق فياض وهو ابن أخي الصحافي الإسلامي الكبير الشيخ طه فياض رحمه الله وقد قابلته وسعدت بمحبته في زيارتي الأولى للعراق في عام 1954م، قام ديوان الأوقاف باستقبالنا وهو مضيفنا في هذه الزيارة وأنزلنا في فندق “أمباسادور” وهو فندق كبير يقع على شارع أبي نواس في الشاطئ الشمالي لنهر دجلة العظيم.
وهذه بغداد مدينة السلام وعاصمة الرشيد الذي قال لسحابة مرت به: “إمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك” وهي مدينة التاريخ الإسلامي الكبرى، وقد بلغ إحصاؤها في عهدها الذهبي إلى أكثر من مليوني نفس، وذلك في وقت لم تكن الوسائل المدنية في المكان الذي يسمح بكثافة السكان في مدينة كبيرة لما يسمح اليوم ولكنها لا تزيد اليوم عن غيرها من عشرات المدن العربية فهي عاصمة كغيرها من عواصم الدول العربية الكثيرة في العظمة والقوة والشوكة والتأثير، فهي مدينة كغيرها من مدن العالم العربي العديدة التي لا يبتهج قلب المسلم العربي إذا دخلها وهو يرى أن كرامته مهانة في العالم، ومقدساته مسلوبة في فلسطين، ولن تستطيع بغداد ولا غيرها من عواصم العالم العربي أن تبعث في قلب المسلم العربي أملا ولا شعورًا بالكرامة ما دامت لا تكون أقوى من تل أبيب ومنتصرة على تل أبيب.
دخلنا في بغداد ومن قبلها في دمشق في العهد الذي لم يكن يعزها إلا الكلام العربي الذي يرى مكتوبًا على ألواح الحوانيت وفي الإعلانات ونسمع من أفواه المواطنين وفي الإذاعة، ولم يكن يشرفها إلا طموح قليل توجد عواطفه للمجد، وطلب الثأر في نفوس من المؤمنين من أبنائها مع قلتهم وزهادة وسائلهم وبعدهم عن مراكز القوة وكونهم تحت رحمة حكام بعثيين وثوريين يريدون سلخ الأمة العربية من قيمتها القديمة ممن تحيط بهم هالة من الكراهة والذعر من شعوبهم والذين لم يعرف التاريخ الإسلامي هويتهم الحقيقية بعد في حياتهم السياسية والقومية، على كل، فقد دخلنا في بغداد بعد أن استفدنا من تجربتنا في سوريا البعثية قبل ثلاثة أيام وهو أن نصبح أكثر حيطة وحذرًا من أي مخالفة أدبية أو اجتماعية لمطالب الحكومة منا، وبذلك هدأت لنا الأحوال في بغداد وعشنا في أجوائها خمسة أيام استمتعنا فيها بزيارة المجمع العلمي العراقي وعدد من الجوامع الهامة ومدينة الجامعات، وكانت في أول مراحل بنائها وجامع الإمام الأعظم الإمام أبي حنيفة وجامع سيدنا عبد القادر الجيلاني ومكتبته العامرة والمتحف العراقي، وحصلت لنا مقابلة مع وزيرين من وزراء الحكومة وهما وزير التعليم الحالي(الأستاذ أحمد الجويري) ووزير التربية (الدكتور حسين الشادي)، واكتفى لنا مضيفونا من مقابلة الرئيس(أحمد حسن بكر) بتسجيلنا لأسمائنا في سجل التشريفات،وبانتظارنا لتحديد موعد لمقابلته في أحد الأيام التي كنا نرغب أن يجعل بعضها لزيارة مدينة الموصل في شمال العراق والنجف والكربلاء ومدينة البصرة في وسطي وجنوبي العراق لأهمية هذه المدن الإسلامية والتاريخية، ولم يكن واجب المجاملة يسمح لنا أن نعتذر عن انتظار مقابلة شخصية البلاد الأولى لتحقيق رغبة أدبية وعلمية في نفوسنا غير أن المسئولين قد هيأوا لنا زيارة قبر سيدنا سلمان الفارسي وزيارة إيوان كسرى، فحققنا بذلك شيئاً من رغبتنا لزيارة الأماكن الأثرية، لقد كنا نشعر بالسرور وراحة النفس عندما كنا نزور أماكن الصفاء والسكينة أمثال الجوامع وآثار السلف، أو نزور أماكن الحلم والأدب التي كنا نجد فيها تسلية للعقل والوجدان مثل المجمع العلمي العراقي الذي اجتمعنا فيه بسعادة رئيسه الأستاذ عبد الرزاق محي الدين، وسعادة أمينه العام الدكتور يوسف عز الدين، والتقينا فيه بأحد أعضائه المرموقين المؤرخ الجليل الدكتور ناجي معروف، فكانت جلسة أدبية من ألطف الجلسات، والتقينا بعدد من العلماء الأفاضل والقائمين بنشر تعاليم الدين الحنيف من أبناء العراق، فكان لقاؤهم بهجة لقلوبنا وأنسًا لنفوسنا، ولا أنسى سعادة الأستاذ عبد الرزاق فياض فقد كانت لقاءاته تنطق بالمحبة والمؤانسة وكانت لنا معه إصرة طيبة لعمه المرحوم الذي أحبه أساتذتنا في ندوة العلماء، وسعدت بزيارته أنا أيضًا، فقد كان عاملاً مجتهدًا مخلصًا لقضايا الإسلام بقلبه الحر الفياض.
وزرنا مكتبة العراق التجارية العظيمة لصاحبها الأستاذ قاسم رجب واستأنسنا بها فقد عرفناها منذ القديم، لقد كانت أشواط زيارتنا تبدأ من فندق أمباسادور “وتنتهي عليه، وكان مضيفونا يكرموننا بالمبالغة في ملازمتهم لنا أثناء خروجنا وذهابنا إلى أي مكان.
لقد كانت إقامتنا في بغداد قصيرة ومحدودة فلم نستطع أن نقضي لبانتنا من التمتع والاستفادة بها، وهي – على رغم ما لا يسرنا من بعض أحوالها – مهد العهد الذهبي للتاريخ الإسلامي، وأرض رتعت فيها قلوب أهل الثقافة الإسلامية والدين الإسلامي، ولا تزال فيها شخصيات وأماكن يستأنس بها المشتغلون بالثقافة العربية والعلوم الإسلامية، ونحن وإن لم نكن تمتعنا بزيارتها كما يحسن ويجب، فقد عرجنا فيها وسلمنا عليها، وكان بودنا أن تكون زيارتنا للمجمع العلمي العراقي أوسع مما كانت، وأن نسعد بلقاء رئيسه لفرصة أطول، فقد كان لقاؤنا معه فرصة ثمينة وتمتعنا فيها بحديثه المفيد وأنسه ومحبته وما رجعنا من لقائه إلا وفي قلوبنا تقدير له أكثر واحترام لهما أشد.
وقد حصلت لنا مقابلة مع فضيلة الشيخ كمال الطائي عند زيارتنا لمكتبة المثنى في شارع المتنبي، وكانت لنا معه صلة أدبية ودينية عن طريق أستاذنا المرحوم الشيخ مسعود عالم الندوي الذي زار العراق في عام 1949م واجتمع به، وقد تعارف به على صحفات مجلته العربية “الضياء” الصادرة في ذلك الحين من ندوة العلماء.
فبهذه اللقاءات المختصرة أو بهذه التعريجات المحدودة انتهينا من زيارة بغداد بل من زيارة العراق أيضًا وغادرناها مساء الأحد إلى عمان عن طريق الكويت لعدم وجود خط جوي مباشر من بغداد إلى عمان، قضينا الليلة في الكويت في فندق شير التون، وفي الصبح المبكر ليوم الإثنين 13/8/1973م توجهنا إلى عمَّان وقد زارنا قبل مغادرتنا للمطار فضيلة الحاج عبد الرزاق الصالح والدكتور عبد اللطيف وهما من أحب معارفنا في الكويت وزارنا أحد أقارينا المقيم في الكويت الأخ إبراهيم الحسني.
وصلنا إلى عمَّان في وقت الظهر وكان في استقبال الوفد عدد من الشخصيات الرسمية والإسلامية البارزة، وكان منها سعادة الأستاذ كامل الشريف عضو المجلس التأسيسي للرابطة، وسعادة الأستاذ أحمد ميمش القائم بأعمال السفارة السعودية بعمَّان، فرحبوا بالوفد كل الترحيب، ونشروا فينا بترحابهم الأخوي شعورًا يشبه شعور العائد إلى الوطن بعد قضاء أكثر من أسبوع في جو الغربة والاستيحاش، فالجو الآن غير الجو الذي لمسناه في بغداد، والسلوك السياسي غير السلوك الذي أبتلينا به في دمشق، ولولا ذلك لكان انتقالنا من دمشق إلى عمَّان رأسًا، فهي بجوارها جغرافيا وقريبة منها طريقًا، ولكن الأهواء السياسية تفصل بين قريبين وجارين بما لا تفصل بينها المسافات الجغرافية ولم يقتصر الشعور بالأسى والأسف نحو ما حدث في دمشق لوفد الرابطة وفيه فضيلة الأستاذ أبو الحسن علي الحسني الندوي والأستاذ أحمد محمد جمال نبا وحدنا بل وشاركنا في هذا الشعور أهل دمشق وأبناء سوريا أيضًا، ومنهم من شعروا بذلك إلى حد الخجل وأبدوا المعذرة كأن الحادث كان منهم وبسببهم، مع أنهم برآء منه، ودلت على ذلك الرسائل والكلمات التي ظهرت فيما بعد وفيها الكلمة الصافية القوية التي نشرتها جريدة “الزمان” البيروتية للكاتب الإسلامي والصحافي المعروف الأستاذ محمد الفرحاني صاحب الكتاب القيم “الحرب الصليبية الأوربية التاسعة” الذي صدر حديثاً في موضوع المأساة الفكرية والسياسية التي يمر منها العالم العربي والإسلامي اليوم، وقد عرفنا شعور عدد من الشخصيات الإسلامية الأخرى من سوريا وغير سوريا يماثل هذا الشعور، فلهم شكرنا وتقديرنا العظيمان، ولا بأس فمع اليوم والعود أحمد. (يتبع)