رحلات الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله تعالى
16 سبتمبر, 2023ما زال ولا يزال حكمه الآسر بمجامع قلوبنا
16 سبتمبر, 2023رحلة حجازية للأديب الأريب الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي
إعداد: محمد وثيق الندوي
يقول الأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي في كتابه: “الرحلات الحجازية ومناهج كُتَّابها في العصر الحديث”:
” من أصناف أدب الرحلة: الرحلة الحجازية، وهي الرحلة للحج والعمرة، يصف فيها العازم على الحج والعمرة سفره من بلده إلى البلاد المقدسة، ويصف ما جربه من رحلته، ويصف مشاعره، ويصور مناظر خلاّبة، ويصف وعثاء السفر، لأنه يمرّ بالجبال والوديان، والمروج والبيد، والغابات والبحار والأنهار، ويلتقي فيها برجال، ويصادف الأخطار، والمخاوف فتشتمل رحلته على وصف ومدح، وتصوير للمناظر، وتشخيص للأحاسيس الذهنية، ورسم للشخصيات، والمواد العلمية والجغرافية، والأحوال الاجتماعية، والرحلة الحجازية، هو صنف إسلامي خالص، رغم كونه صنفاً أدبياً خالصاً باعتبار المواد الأدبية، واشترك في التأليف فيها كبار الأدباء في عصور مختلفة، وقائمة الكتاب في هذا الصنف طويلة، وتوجد نماذجها في كل لغة من لغات المسلمين مثل المدائح النبوية التي توجد في كل لغة من لغات المسلمين، وقد وصف القرآن الكريم هذه الرحلة بأسلوبه المعجز الموجز فقال: )وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ( [الحج:27ــ30]
وتختلف مناهج الكتاب في وصف الرحلة الحجازية باختلاف طبائعهم وثقافتهم، فيغلب على بعض الرحلات الطابع الجغرافي، إذا كان الكاتب مهتمًّا بجغرافية الأماكن التي زارها، ولا يطغى ذلك على العنصر الفني، لأن الرحلة عندما تنقله إلى الأماكن المقدسة التي يشتاق إليها، وكان حريصًا على زيارتها منذ مدة إذا وقع بصره عليها، فاضت قريحته، وثارت الأشجان والأشواق، فتصبح هذه القطعة أدبية خالصة، ويبدو كأنه وصف لديار الحبيب، فإن انتقل إلى جوانب أخرى انتقل بعد تحيتها تحية لائقة، ومنهج كاتب آخر، منهج علمي رزين هادئ، وغير منهج وصف للمناظر، والعرض الجغرافي”.
فإن أدب الرحلات أقوى صنف من أصناف الأدب قوة، وأسماها تأثيرًا، لأن الكاتب يصف فيها المناظر المتنوعة، ويصف فيها ما يستمتع به، وما يعاني فيها من صعوبات، ويصف فيها الأشخاص الذين يلتقي بهم، وما يجري في هذه اللقاءات مع العلماء والزعماء والقادة والعاملين الذين يقومون بخدمات في مختلف مجالات الحياة ويتصفون بمختلف الطبائع والميول والأذهان، وتحمل هذه الرحلات فوائد علمية وأدبية وثقافية، وفكرية، وتوجد فيها عناصر الأدب من العاطفة والخيال والفكرة والتعبير الجميل.
وقد سجَّل عدد من الكتاب والأدباء والشعراء والعلماء في العصر الحديث ارتسامات رحلاتهم الحجازية، ومنهم الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي الذي سجل ارتسامات رحلته الحجازية، ومشاعره، وما شاهده فيها، وقد قام بهذه الرحلة الحجازية برفقة خاله العلامة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالى بدءً من أغسطس 1950م انتهاءً إلى أكتوبر 1951م. نقدم فيما يلي رحلته الحجازية كنموذج فيه العاطفة وروعة البيان والحب الغامر لمهبط الوحي ومولد الرسول عليه السلام، ودار الهجرة، فيقول:.
” لقد كان من أعزّ آمالي، وأكرم تمنياتي أن أتمكَّن من زيارة بلد عربي، وقد حقَّق الله أمنيتي هذه، وأكرمني أولاً بزيارة الحجاز – موطن الهدى، مبعث النور، ومركز الإسلام، فركبت البحر، وقد كنت سمعت عن جلاله وعظمته، قبل أن أبصره؛ أو أركب على متنه، الذي إذا أراد رجل أن يأتي عملاً لا يطاوعه، قالوا له: هل ركبت البحر؟ والذي تهيَّب منه كثير من الرجال ووصفوه بالروعة والهول، فقال أبوفراس الحمداني الشاعر المعروف حين أسره، شارحًا لِما يحيط به من قسوة وبؤس:.
فكيف وفيما بيننا ملك قيصر
وللبحر حولي زخرة وعباب؟
فلما ركبته وطمى بي، خوَّفني وشغل بالي، فقضيت يومين لا أهتمُّ إلا بأن يهدأ ويسكن، ولو أن رحلتي هذه في البحر كانت رحلة حبيبة إلى النفس، فقد كنت أقترب إلى البلاد التي طالما دار حولها خاطري، وجالت فيها روحي، لكن البحر اصطلح لي بعد زمن يسير فلم أقض على ذلك إلا بضعة أيام حتى لاحت لي جبال من حضرموت، كانت جرداء، وكانت كجبال عامة، رأيتها في حياتي، لا تختلف عنها، لكن ليت شعري من أين جاء ذلك الحنين الذي كنت أشعر به نحوها، وذلك الانجذاب الذي كنت أجده إليها في قلبي، وبعد لأي لاحت لي على الساحل صنادق كثيرة بيضاء، تلمع في الضحى؛ لا كما تلمع المرآة والفضة، أو كائن من الكائنات اللامعة؛ بل إنما كانت تلمع كما يلمع الشئ الأبيض في ضوء النهار، مثل ما يحدث به الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه:.
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وبدأت باخرتي التي كنَّا عليها تقترب إلى مجموعة هذه الصناديق الكبيرة اللامعة المنبثَّة على الساحل، وبدأت تزداد وضوحًا وكبرًا، وبعد قليل تحولت إلى مدينة فيها قصور شامخة، وبيوت جميلة بيضاء الجدران، يحلو منظرها من بعيد، وسألت عن اسمها، فأخبروني أنها “مكلا” عاصمة إمارة من إمارات الجزيرة العربية، وهي أول مدينة عربية أبصرتها في حياتي، وما كان بعد ذلك إلا أيام حتى نزلت في جدة، وهي باب الحجاز اليوم، مع أن تاريخ الجزيرة العربية قلما يساعدنا في التماسها في غابر الأيام، وإن لها اليوم لشأناً أي شأن في مدن الحجاز، ولا تزال تزداد رونقاً وازدهاراً وعظمة، وتوشك أن تضارع أوسط الحواضر العربية، وهناك شاهدت أول مرة الحياة العربية المسلمة، ولمست ملامح من المدنية العربية الحاضرة، واجتمعت مع الرجال والأعيان، وقد اجتمعت مع السرى الفاضل الكبير محمد نصيف، وهو من رجال الحجاز المشهورين علماً ومكانة، وذو مطالعات واسعة في الدين والثقافة.
ثم توجَّهت إلى مكة المكرمة مهبط الأنوار ومولد الرسول عليه الصلاة والسلام، أم القرى التي عمرها إبراهيم عليه السلام بقوله: “رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ ” (إبراهيم:37) والتي أمر الله فيها نبيَّه إبراهيم عليه السلام بقوله: “وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ” (الحج:27) بلدة فيها الصفا والمروة وزمزم، فيها حراء وثور، وعرفة، والمشعر الحرام، وفيها منى الذي يقول متحدثاً عنه الشاعر:
فلما قضينا من منى كل حاجة
ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على دهم المهارى رحالنا
ولم ينظر لغادى الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطح
وليس احترام مكة مقتصراً على المسلمين؛ بل وإنما أحبتها العرب في الحاهلية، كذلك نرى ذلك في قول مضاض بن عمرو حين يحنُّ إليها عندما نفته خزاعة مع قبيلته فأشرف إليها من جبل، وقال:.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
واستطرد فقال:.
وسحَّت دموع العين تبكي لبلدة
بهـــا حــرم أمن وفيهـــا المشــاعــر
دخلت في مكة وأقمت فيها حول بيت الله الحرام ـ ويا للشرف ـ أكثر من نصف عام، اختلست من خلاله أيامًا لزيارة الطائف مصيف الحجاز وحقل مكة للفواكه والأثمار، تلك البلدة التي قرنتها العرب بمكة في العظمة والأهمية، كما حدث القرآن عنهم: “وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ” (الزخرف: 31) ولما توفي عمّ الرسول عليه السلام أبو طالب، وكان يحميه من الأعداء، توجَّه إليها ورجا من أهلها أن يعتنقوا دينه ويحموه، فقسوا عليه قسوة ما برحت ذكرى أليمة في نفسه عليه السلام، لكنه لم يرض بأن يهلكوا؛ بل إنما رجا أن يكون من ولد أهلها من يؤمن وينصر الدين، فكان منهم فيما بعد رجال كبار من أمثال محمد بن القاسم الثقفي الذي غزا الهند في عهده الباكر فقال الشاعر:.
ساس الرجال لسبع عشرة حجة
ولـــــداتـــه عـــن ذاك في أشغــــال
ومن غريب الأمور أن كلاً من مكة والطائف تتم ما ينقص الأخرى من جوّ وثمر، فإن أرض مكة قاحلة جديبة، وأرض الطائف خضراء منبتة، فتستورد الثمرات من هذه إلى تلك، وجوُّ مكة حارّ لا يبرد كثيرًا حتى في الشتاء، أما جوُّ الطائف فبارد حتى في الصيف، ومن هنا عبر محمد بن عبد الله النميري عن ترف حبيبته وسراوة حالها بقوله:.
تشتــو بمكة نعمـــة
ومصيفها بالطائف
ثم زرت المدينة المنورة وكنت جلت فيها بروحي وتمنيت بالحضور إليها طول عمري، وكان الحضور إليها من أعز تمنياتي.
منى إن تكن حقًّا تكن أحسن المنى
وإلا فقـــد عشنا بها زمنًا رغـــــــدًا
مدينة نسبت إلى الرسول عليه السلام، هاجر إليها، فأصبحت موطن البركة والسناء والشرف بعد أن كانت بلدًا فيه المرض والوباء، تلك المدينة التي صارت بعد الهجرة بمثابة القلب النابض للعالم الإسلامي، في كل بقعة منها معالم وآثار من الإسلام ورجاله، ما أبركها وأشرفها!، فيها جبل أحد، وما أدراك ما أحد؟ إنما قال الرسول عليه السلام: “أحد جبل يحبنا ونحبه”. أحد الذي شهد معارك المسلمين، وحاط الرسول عليه السلام بكنفه حينما كسرت رباعيته، وفيها سلع الجبل الذي كان يتوسط عمران المدينة حتى أوفى عليه رجل من قبيلة أسلم حين قبلت توبة كعب بن مالك وقال: يا كعب:أبشر، جبلين يحن إليهما من يحن، ويذكرهما في شعره كما قال محمد بن عبد الملك الفقعسي وهو في بغداد:.
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بسلع ولم تغلق عليّ دروب
وهــــل أحـــــد باد لنا وكأنــه
حصان أمام المقربات جنيب
واستطرد فقال:.
فإن شفائي نظرة إن نظرتها
إلى أحد والحرتان قريب
دخلت المدينة على صاحبها ألف ألف تحية وسلام، واجتزت وادي العقيق التي طالما لهجت به ألسنة الشعراء وذكروه، وحنّ إليه الأدباء، واختاره الرجال الظراف مجالاً لاستراحة نفوسهم، فكان منتزهًا لأهل المدينة، قالت فيه أعرابية غريبة عنها:
إذا الريح من نحو العقيق تنسمت
تجدد لي شوق يضاعف من وجدي
مررت منه، وكان حينئذ جديبًا، فلما اجتزته أصبحت القبة الخضراء أمامنا، تجذب الأبصار من أحداقها، وتنزع القلوب من أوطانها، لقد سعدنا بذلك اليوم الذي طالما قفزت له نفوسنا وارتاحت لذكره قلوبنا، إلى أن وصلنا إلى مرأي من القبة الخضراء ومسمع.
دخلت المدينة المنورة هذه البلدة الكريمة التي كان الإمام مالك حينما يحدث حديثًا يشير إلى قبر الرسول عليه السلام، ويقول عن صاحب هذا القبر، وكان لا يركب دابة إكراماً لأرضها وحذراً من التعلي فيها.
تلك المدينة التي لا أستطيع أن أوفي حقها من الذكر والإعظام، لأن لغتي لا تسع ذلك، وأدبي لا يقدر عليه، غير أني قد مكثت فيها برهة من الزمن، أعدُّها من خير أيامي وليالي.
إني قضيت في الحجاز مدة عام، تقلبت خلاله في بلدانه، وبعض قراه، وكنت أبغي ذلك، وشاهدت آثار الثقافة والدين، وموجات من العلم والأدب ونهضة، أرجو أن تكون مباركة، واجتمعت بشخصيات عظام لا أذكرهم في هذه الفرصة لضيقها، وسعة ذكرهم.
فقد وجدت الحجاز أرضًا طيبة، فيها حيوية كاملة، وفيها نماذج صالحة، أما البدو فهم أكثر صفاء، وأنمى بركة، وأكرم نفسًا، يحملون من تراث عظمائهم الكثير، وأما رجال المدن والحواضر فتسأل الله لهم الحماية من طغيان المدنية والمادة”.
(مجلة البعث الإسلامي، الصادرة بندوة العلماء لكناؤ، السنة الأولى، العدد السادس، رجب عام 1357هـ، المصادف: مارس 1956م، و”الرحلات الحجازية ومناهج كُتَّابها في العصر الحديث” للأستاذ محمد واضح رشيد الحسني الندوي)