الحاجة إلى إعادة النظر في الاستراتيجية
25 سبتمبر, 2022مسئولية الدعوة والهداية إلى الحق
27 أكتوبر, 2022ولد الهدى فالكائنات ضياء
محمد الرابع الحسني الندوي
إن شهر ربيع الأول هو في واقع أمره ربيع شهور السنة كلها، وذلك بما امتاز به من عطاء وإغاثة للإنسانية بميلاد شخصية فذة في التاريخ الإنساني كله، شخصية أعادت إلى الإنسانية كرامتها المسلوبة، وانتشلتها من حضيض التفسُّخ والذلة، هي شخصية خاتم الرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم محبوب رب العالمين الذي ختم الله به رسالات السماء إلى الأرض، وأكمل به دينه الذي شرعه للبشرية، وأتم به نعمته على الإنسانية.
لقد كانت الإنسانية قبل هذا الرسول العظيم محمد بن عبد الله الأمين صلى الله عليه وسلم في فوضى شديدة للأخلاق، وقهر وإذلال للفقراء والمستضعفين في الأرض رغم ما كان من تقدم للمدنية، وبلوغ الإنسانية في العلم والمعارف البشرية إلى الكمال، رغم ما كان أحرزه الإنسان من رغد في العيش، وقوة وعتاد للحياة، فقد كان كسرى لا يرتاح إلا باستخدام آلاف الطهاة لطعامه، وآلاف الخادمين لخدمته، وكان يصبر على العطش ولا يحتمل الشرب في أواني الخزف أو المعادن الرخيصة، ولم يكن يلبس تاجًا إلا بقيمة تبلغ إلى المستوى الخيالي، ولم يكن وحده في هذا الرغد وعظيم الترف، بل كان قواده وأمراؤه وأثرياء مملكته أيضًا على هذا الطور من الحياة من أكل لذيذ، وعيش رغيد، ولبس لأغلى الملابس، والتظاهر بالأبهة والشوكة، وبجانب آخر كانت كفة أخرى لميزان مستوى الحياة طائشة، فقد كان عامة البشر في جهد مضن، وفقر مدقع، وحرمان وعذاب، يعملون كالبهائم، ويعيشون كالسوام، ويواجهون القمع والبطش والتعذيب على أدنى تكاسل في خدمة الأثرياء.
ولم يكن ذلك في المملكة الكسروية فحسب، بل كان مثله في المملكة القيصرية كذلك، لقد كان أثرياؤها يحرقون الأسرى والعبيد في مآدبهم الكبيرة، ليتمتع الضيوف بالتفرج على اشتعال النيران في الجسد الإنساني المتحرق، وأنه كيف يتململ ويتلوى ألمًا من تأثير لظاها وأوارها، وكان الضيوف المترفون يضحكون ويفرحون من هذه النزهة الحمراء الدامية، لقد قامت مدنيات زاهرة مزركشة بفنونها وأهوائها في التاريخ الإنساني، ولكن زركشتها هذه كانت تحصل من ألوان دماء الفقراء والمستضعفين، ولقد نبغ في هذه الأدوار الراقية عقلاء وفلاسفة صغار وكبار، ولكنهم كانوا يرضون بكل ذلك فيبقون صامتين أو ساهين، بفلسفاتهم وآرائهم، ونظر رب العالمين نظرة إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وصلوا أخيرًا إلى آخر درجات النقص والتضاؤل.
فجاشت رحمة الله على عباده البائسين بالشقاء والعذاب، وأرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم في العرب وهم غير أهل الكتاب، وبذلك نقل مسئولية الرسالة منهم إلى غيرهم، فقد كان أهل الكتاب قد بالغوا في إضاعة مسئوليتهم وإهدار كرامتها، فقد كانت تقع عليهم مسئولية الإصلاح، ولكنهم تهاونوا فيها، وأضاعوها، فنقل الله المسئولية إلى أمة كانت أمية فضلاً عن أن تكون حاملة لكتاب الله عز وجل، وبعث رسوله فيها وأعطاه الكتاب الأخير العظيم الذي حمل تعليمات الدين في أكمل صوره، فهو هدى ونور، وهو كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهو الذكر الحكيم، والقرآن الكريم، والفرقان الحميد الذي حمل ميزة وكمالاً لم يعهده أي كتاب سماوي قبله، وهو قول الله تعالى: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” [المائدة:3].
إن بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرت مجرى حياتهم، وجعلت آدابها سهلة ميسورة لهم، كانت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمة عالية خالدة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعاليمه الكريمة وتربيته السمحة رحمة للعالمين كما أخبره رب العالمين في كتابه الحميد وقرآنه المجيد “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ” [الأنبياء:107].
فكلما يأتي شهر ربيع الأول الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهاجر فيه من مكة إلى المدينة ليقوم هناك بهداية الإنسانية، ولتقرير أحكام الدين والدنيا وآداب الحياة التي تحرر الإنسان من الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة، فكلما يأتي هذا الشهر في كل سنة يملأ الأجواء بمسرات، ونفحات، ونعم، وبركات، فتستنير الأرض والسماء، ويعم إشعاع الخير والنور، وما أصدق الشاعر العربي شوقي حين يقول:
ولدى الهدى فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسم وثناء