رمضان شهر العبادة والطاعة والبر والإحسان
1 أبريل, 2023أخونا الحبيب جعفر مسعود الحسني الندوي رحمه الله
فضيلة الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي
كان أخونا الأستاذ جعفر مسعود الحسني نجل العالم الجليل والأديب الكبير الشيخ محمد واضح رشيد الحسني الندوي –رحمهما الله– نموذجاً للعالم الرباني الذي جمع بين العلم والعمل، وبين التواضع وحسن الأخلاق، وبين الإخلاص والإبداع الفكري.
كان أخونا الحبيب رحمه الله يشغل منصب الأمين العام لندوة العلماء، وكان خير معين لي في أداء مهام ندوة العلماء التعليمية والإدارية، ونعم الرفيق، فكانت وفاته بالنسبة لي صدمةً عنيفةً، وفاجعة شديدة، أثارت في نفسي هماً بالغاً وحزناً عميقاً.
وكان الفقيد رحمه الله نشأ في كنف أبوين صالحين يدعوان له ليلاً ونهاراً، وكانا يحوطانه برعايتهما الروحية والدعاء الخالص، خاصةً أنه كان وحيدهما، لقد رأيت والدته، رحمها الله، تبتهل إلى الله له، ولا شك أن لصلاح الأبوين أثراً عظيماً في جلب رحمة الله وحفظه للأبناء. يقول الله تعالى: (وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً) [ الكهف: 82 ].
هذه الآية العظيمة تدل على أن صلاح الأبوين سبب لحفظ الأبناء وازدهارهم.
إن أخانا الأستاذ جعفر رحمه الله لم يكن مجرد عالم، بل كان مثالاً للغيرة الدينية والحمية الإسلامية، وحب الخير والفضيلة، لقد كان همه الأول الدين وخدمة الدعوة، وإنه قبل وفاته بساعة واحدة فقط، قال لنجله خليل: “تصدق يا ولدي! بعشر كسبك في سبيل الله، تجد له بركةً عظيمةً وثمرةً جنيّةً”.
كانت هذه الكلمات البسيطة تفيض بحكمته وصدقه، وتُظهر كيف كان الدين حاضراً في كل جزء من أجزاء حياته. لقد كان يؤمن أن الإنفاق في سبيل الله باب للبركة والخير، وكان يسعى لترسيخ هذا المبدأ في أذهان أبنائه، كما ورثه هو من كبار أسرته.
هذا الحادث الذي يبدو لنا من منظورنا البشري صدمة مؤلمة، هوفي حقيقته جزء من حكمة الله التي تهيمن على كل شيء. قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُّؤَجَّلاً) [ آل عمران: 145 ].
لقد أضاء الأستاذ جعفر حياته بنور العلم والعمل، وجعل همه الدعوة إلى الله، ثم اختاره الله إلى جواره. إن كل شيء بيد الله، وهذه الدنيا ما هي إلا رحلة قصيرة إلى دار الخلود.
إن الله سبحانه بحكمته البالغة يختار أحياناً أن يزيل من حياتنا أعظم الدعائم التي كنا نظن أننا لا نستغني عنها، ليعلمنا أن الركون الحقيقي يجب أن يكون إليه وحده.
فقد قبض الله سبحانه زوجة نبيه الحبيب خديجة بنت خويلد رضي الله عنها التي كانت تؤازره وتشاطره الهموم، وعمه أبا طالب الذي كان يحدب عليه ويذب عنه، في أصعب مراحل الدعوة، ليعلّمنا أنه لا ينبغي لعباد الله الأصفياء الاعتماد على البشر، وأن النصر الحقيقي يأتي من الله وحده.
هذه الحادثة الأليمة تذكرني بكلمات الشيخ شرف الدين يحيى المنيري (1263م – 1381) رحمه الله، حين قال: “لو أن الله قبض أرواح الصديقين في المفازة، وترك الغربان والطيور تأكل من عيونهم وأجسادهم، لما كان لأحدٍ أن يعترض، فإن الله يقول: الصديق لي، والغراب لي، فمن هذا الفضولي الذي يعترض على أفعالي؟”.
ما أعمق هذه الكلمات! فهي تذكّرنا أن أقدار الله ليست عبثاً ولا ظلماً، بل هي حكمة ورحمة من الله العليم الحكيم.
ومن المشاهد الملموس أنه كلما ازداد إيمان الإنسان بالله وتعمّقت صلته به، ازدادت طمأنينة قلبه وسكينة نفسه. والإيمان يُنشئ يقيناً بأن كل ما يحدث بتقدير الله وحكمته، وأن وراء كل مصيبة خيراً قد لا يدركه العبد.
حينما تكون صلة الإنسان بربه قويةً، يدرك أن الدنيا دار ابتلاء، والمصايب جزء من هذا الابتلاء. يرى المؤمن في المحن رحمةً خفيةً وفرصةً للتقرب إلى الله بالصبر والدعاء، وهذا الإيمان يُخفف وقع المصايب ويجعلها أهون.
إن فقد العلماء مصاب جلل، ولكنه أيضاً دعوة لنا أن نكون أوفياء للإسلام وللغاية الحقيقية، وهي إعلاء كلمة الله ورفع راية الإسلام. وسيجزي الله كل من أسهم في تحقيق هذه الغاية، وسيتقبل سعيه بفضلٍ وكرمٍ.
نعم، إن رحيل العلماء يفتح باباً لتجديد العهد مع الله، لنكون مشاعل تضيئ الطريق للأجيال القادمة، كما كان الشيخ جعفر رحمه الله مشعلاً منيراً في حياته.
كان الفقيد متصفًا بصفات تحببه إلى النفوس، وتقربه من القلوب، فهو هادئ الطبع، واسع الصدر، بشوش الوجه، دمث الخلق، حسن الحديث، يحب الدعابة والمرح، وبخاصة مع الخُلَّص من أصحابه في مجالسه الخاصة، دون الخروج على المألوف، وكان جادًّا في أداء المهمات التي توكل إليه على أحسن وجه، كما كان غيورًا على حرمات الدين، حريصًا على الالتزام بشريعة الإسلام في كل شأن.
وكان يتابع الأوضاع والأحداث في العالم وبخاصة في العالم الإسلامي، ويقدم الحلول للمشكلات والأزمات في ضوء تعاليم الإسلام، وينشر الفكرة الإسلامية الأصيلة المستقاة من الكتاب والسنة، وما أجمع عليه السلف، ويذم الخرفات والبدع، ويحذر من تقليد الغرب، ومحاكاة المنظمات والحركات الغربية.
فكان نمطًا نادرًا فيما يكتب، وفيما يخطب، إنه يؤثر السهولة والوضوح، والهدوء والرزانة دون عجلة، ويبدي رأيه وموقفه دون تسرُّع، وكان يقدِّر تَبِعَةَ القلم، تقدير العالم الطامح المتطلع إلى الكمال، فهو لا يكتب غير المفيد النافع، ويشرق على القراء والسامعين بما يمتع ويقنع ويشبع، لذلك كانت وفاته مروعة حين جاءت الأنباء بموته المفاجئ، فكان لنعيه حسرة دامية في نفوس من يعرفون أن الفقيد قليل النظير في إبداعه الفكري، وإنتاجه الأدبي.
رحم الله أخانا الحبيب جعفر الحسني الندوي، وتقبله في الصالحين من عباده، وجزاه عن دينه وأمته خير ما يجزي عباه الصالحين والعلماء الربانيين الذين يعلمون فيعملون، ويعملون فيخلصون، ويخلصون فيقبلون، وعوض الله أمتنا فيه وفي أمثاله خيرًا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.