الصامدون في وجه الاستعمار (6)
29 سبتمبر, 2021“وقعة جَلُولاء” (1)
11 نوفمبر, 2021الصامدون في وجه الاستعمار (6/الأخيرة)
محمد واضح رشيد الحسني الندوي
الأمير عبد الكريم الخطابي:
هو عالم كبير، ومجاهد إسلامي عظيم من بلاد الريف بالمغرب الأقصى، قاد حركة الجهاد الإسلامي ضد الأسبان والفرنسيين، وقاد ثورة كبيرة في الريف، انتصر فيها على القوات الإسبانية سنة 1920م، خسر فيها الإسبان معظم قواتهم، وأسس الأمير الخطابي حكومة مستقلة في الريف.
ولد سنة 1300هـ /1882م، في الفترة التي شهدت حدة التنافس بين الدول الأوروبية المستعمرة على القارة الإفريقية،تلقى الأمير الخطابي دراسته الأولية بجامعة القيروان، واطلع على الثقافة الغربية، واصطدم بالإدارة الإسبانية في “مليلة” فسجن، غير أنه تمكن من الفرار من سجنه،وعاد إلى مسقط رأسه.
وبعد وفاة أبيه عام 1920م تزعم فبيلته،وحمل راية الجهاد، فأباد برفاقه جيشًا إسبانيًا متكونًا من أربعة وعشرين ألف مقاتل بقيادة الجنرال “سلفستر” عام 1921م في معركة “أنوال” المشهورة، وبذلك تمكَّن من السيطرة على بلاد الريف ومنطقة “عمارة” واتخذ “أغادير” عاصمة له.
وفي عام 1923م شنت إسبانيا بقيادة الجنرال “بيرنجر” حملة حديدة مكثفة، لكنها أخفقت هذه المرة أيضًا،وطارد الأمير الخطابي الإسبان حتى من مدينة “تطوان” التي كانت خاضعة للاستعمار الإسباني عام 1924م، وقد بلغت حكومة الأمير الخطابي ذروتها عام 1925م، وأصبح مضرب المثل في جهاده ضد الاستعمار الأوروبي، ومازال اسم الأمير الخطابي رمزًا للرعب في اللغة الإسبانية، ولقد تمكن الخطابي أيضًا من أن يهزم القوات الفرنسية في معركة “تازا” عام 1925م، واستمرت حكومته سنة كاملة،حتى تكالب عليه الإسبان والفرنسيون وأعوانهم من إيطاليا وبريطانيا، وحشدوا لمواجهته أكثر من ربع مليون جندي مجهزين بأحدث الأسلحة، كما سلكوا طريق الدس والخداع وإثارة الفتن والشقاق واختراق صفوف المسلمين مما اضطره إلى التسليم للفرنسيين سنة 1926م، فنفى الأمير الخطابي إلى” ريونيون” في المحيط الهادي، حيث عاش الأمير الخطابي في منفاه إحدى وعشرين عامًا، ثم تمكن من الفرار حينما قررت فرنسا نقله إليها على متن سفينة عبر قناة السويس عام 1947م، ولجأ إلى مصر بوساطة الزعيم الإسلامي عبد الرحمن عزام فقضى مدة حياته في مصر لاجئًا.
وفي مصر سعى سعيًا بليغًا لتحرير بلاد المغرب العربي، كما مكنته إقامته في مصر من اللقاءات مع زعماء العالم العربي والإسلامي أمثال المفتي الحاج محمد أمين الحسيني، والعالم العلامة محمد البشير الإبراهيمي، والبطل الجسور الفضيل الورتلاني، والزعيم المجاهد محي الدين القليبي، والزعيم الكبير محمد علال الفاسي، كما كانت له صلة وثيقة بالإمام الشهيد حسن البنا، فكانت له نشاطات ولقاءات ومحاضرات حتى استولى جمال عبد الناصر على مصر، فتقلص نشاط الأمير الخطابي بمصر لوجود الرقابة الصارمة على من يزوره أو يتردد عليه، واستمر الحال حتى توفي عام 1963م، ودفن بالقاهرة، ولم يذكر الإعلام المصري عنه أي شيء، حتى إذا مات جمال عبد الناصر وجاء عام 1978م نشرت جريدة “الأخبار” تقول:
“إن التاريخ العربي والإسلامي ليعتز بالأمير عبد الكريم الخطابي كبطل من الأبطال الأفذاذ الذين يضيئون صفحات التاريخ على الزمان، وإن سيرة الخطابي العظيمة يجب أن نجسدها لأجيالنا العربية ليقفوا على حياة وأعمال هذا الرجل الذي تحدى إسبانيا وفرنسا، وأرغم برجاله القليلين جيوش الدولتين على الفرار أمامه، مما حدا بالأوروبيين أن يدرسوا انتصاراته الأسطورية ويدرسوها في الأكاديميات العسكرية عندهم، باعتبار أن الزعيم الخطابي صاحب مدرسة في القيادة، وفي تكتيك الحروب التحريرية”.(كتاب “من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة” للمستشار عبد الله عقيل سليمان العقيل، ص:613-620)
عبد الحميد بن باديس:
كانت أرض الجزائر العربية المسلمة من أكثر البلاد تعرُّضًا لأذى الاستعمار، لم يكتف الاستعمار الفرنسي باحتلال أرض الجزائر فحسب؛ بل عمل على تجريدها من دينها وعروبتها،وأصدر الاستعمار الفرنسي القوانين التي تعتبر الجزائر جزء لا يتجزأ من أرض فرنسا،وأغرى من يتخلى عن دينه وعروبته بحق التمتع بالمواطنة الفرنسية، وتعرَّض أبناء الجزائر الذين عضُّوا بالنواجذ على عقيدتهم الإسلامية، وتمسكُّوا بعروبتهم، لشتى صنوف العذاب والتنكيل والاضطهاد، فمنذ اللحظة الأولى للاحتلال عام 1830م وضعت فرنسا إستراتيجيتها لاحتلال العقل الجزائري، فأغلقت المدارس الابتدائية والثانوية، ومنعت تدريس بعض الآيات القرآنية التي تدعو إلى محاربة الظلم والطغيان، وفطنت إلى دور الزوايا في شحذ الهمم والإبقاء على الروح الإسلامية متقدة، فانحرفت بها عن مسارها الصحيح إلى أن تحولت إلى أوكار للشعوذة والدجل.
في هذا الوضع نهض المفكر الإسلامي الصامد عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس لمكافحة المخطط الاستعماري الفرنسي لتحويل الشعب الجزائري إلى قطان ماشية ترتع في أرض فرنسية، وهو يعد أحد الرجال الذين استطاعوا أن يحبطوا مشروع التغريب والاستعمار الغربي في بلاد المغرب العربي.
ولد عبد الحميد بن باديس في 5/ ديسمبر 1889م في قسنطينة في أسرة ذات عراقة وثراء وعلم وأدب،وحفظ القرآن الكريم، ثم سافر إلى تونس عام 1908م والتحق بـ”جامع الزيتونة” حيث حصل على إجازتها بعد أربع سنوات، ثم سافر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وأقام بالمدينة المنورة حتى أصبح عالماً، وقبل أن يعود إلى الجزائر عرَّج على القاهرة، وهناك تتلمذ على الشيخ محمد رشيد رضا،ثم عاد إلى الجزائر، وبدأ مشروعه الإصلاحي والنهضوي الذي اختصره في هذه العبارة: “الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا” وأنشأ عدة مدارس في مختلف جهات الجزائر،كما سعى لتأسيس جرائد كانت سيفًا مصلتًا على رقاب دعاة الاندماج والتغريب، ومنبرًا للأفكار الإصلاحية، وسرعان ما احتجبت عن الصدور، ثم أسس جريدة “الشهاب” عام 1925م والتي دعا من خلالها إلى إنشاء 70 مدرسة موزعة على كافة ربوع الجزائر، ثم انضم هو ورفاقه إلى شيوخ الطرق الدينية وأنشأوا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 5/ مايو 1931م حيث انتخب ابن باديس رئيساً لها، وكان من أبرز أهدافها: المحافظة على الدين الإسلامي، ومحاربة البدع والخرافات، وإحياء اللغة العربية، وتمجيد التاريخ الإسلامي فيما اعتمدت الجمعية في نشاطاتها على المساجد والمدارس الحرة في التعليم والتربية، وواصلت الجمعية نشاطاتها خلال الثلاثينيات من القرن الماضي في ظروف صعبة في الغاية حيث ضيق عليها الاستعمار الفرنسي الخناق خاصة وأنها امتنعت عن تائيد فرنسا إثر اندلاع الحرب العالمية الثانية.
ووقف ابن باديس وجمعية العلماء في وجه التنصير الذي كان هدفًا أساسيًا من أهداف الدعوة إلى التجنُّس بالجنسية الفرنسية، ووقف في وجه العقبات الاستعمارية لإلغاء تعليم اللغة العربية والدين الإسلامي في المدارس الجزائرية، وسافر إلى فرنسا وطالب بأعلى صوته بإقرار الحقوق الشخصية الإسلامية للشعب الجزائري، وحاول الوزير الفرنسي إرهابه بأن “لدى فرنسا مدافع طويلة تصل إلى الجزائر”، فأجابه الشيخ عبد الحميد بن باديس بثبات وثقة: “ولدينا في الجزائر مدافع أطول تصل إلى كل مكان”. فتساءل الوزير الفرنسي دهشاً: “حتى إلى باريس…” فأجابه بثقة أكبر:”تصل حتى إلى باريس، إنها مدافع الله يا سيادة الوزير”.
وبعد عودته من فرنسا أنشأ “جماعات شباب الكشافة” ودربهم، وكتب الأناشيد الإسلامية لهم، وكان شباب الكشافة هؤلاء أوائل طلائع جيش التحرير الجزائري، وكذلك أسس “جمعية الشباب الفني” سنة 1936م وهدفها: إحياء الفنون الإسلامية والاقتباس من الغرب ما لا يخالف عقيدتنا كالفن التمثيلي، وكان رئيسًا لها، كما كان وراء تأسيس جمعية الطلبة الجزائريين التي تأسست سنة 1934م في تونس بإشراف الشيخ البشير الإبراهيمي، ويشهد له سائر الذين درسوا في فرنسا وغيرها من طلاب الشمال الأفريقي دوره في دعم وتشجيع تأسيس جمعيات طلاب شمال إفريقيا، ويشهد له التجار الجزائريون الوطنيون بتأليف قلوبهم، وجمع شملهم، وانتشال رأس المال الوطني الجزائري من احتكار اليهود وسيطرة المستعمر، وكذلك أسس الجمعيات الخيرية، وجمعية التربية والتعليم، وجمعية الجامع الأخضر، وأدت جميعها واجبًا عظيمًا في تهيئة المجتمع لحركة التحرير الكبرى.
ولم يقتصر اهتمام المجاهد الإسلامي عبد الحميد بن باديس على قضية الجزائر أو المغرب العربي وحده؛ بل امتد اهتمامه بقضايا المسلمين في أرجاء العالم العربي الإسلامي، وقد اتصل بالمجاهد الإسلامي عمر المختار ووقف مع تحرير ليبيا من المستعمر الإيطالي، وكان على اتصال دائم بمفتي القدس أمين الحسيني،واتصل بجميع القيادات الفكرية الإسلامية في العالم العربي وأشركها في أمر الجزائر، والتقى بالمفتي محمد عبده،وكان على اتصال دائم بأمير البيان شكيب أرسلان وبالشيخ محمد رشيد رضا في أمور وحدة الصف العربي الإسلامي، كما سافر عبد الحميد بن باديس إلى تونس سنة 1937م ليعبر عن تضامن جمعية العلماء الجزائريين مع الشيخ عبد العزيز الثعالبي بعد عودته من المنفى.
ظل ابن باديس مدافعًاً عن الإسلام والعروبة محاربًا الاستعمار وأذنابه إلى أن وافته المنية في 16/ أبريل 1940م وخلف وراءه عدداً كبيراً من الأتباع والتلاميذ الذين ساروا على دربه كما ترك آثارًا علمية ما زالت شاهدة على عصره ومشاريعه التي لم تتسلل إليها تجاعيد الزمن رغم مرور هذه الحقبة، ومن هذه الآثار: مبادئ الأصول، العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ومجالس التذكير،وله تفسير القرآن الكريم.