العتاب خير من الحقد
23 سبتمبر, 2024أروع قصيدة قيلت في تعظيم الله سبحانه وتعالى
21 نوفمبر, 2024حضور المتلقي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربية (9/الأخيرة)
أ.د. وليد إبراهيم القصاب
- التجويد اللغويّ:
ولتقدير المتلقي، وتقديم خطاب ممتع مفيد له لم يكن الإفهام الذي يحرص عليه الأسلوب البلاغيّ إفهاما عاديا، بل هو الإفهام بالوسائل الفنية، واللغة الرفيعة العالية؛ لأنّ القول الأدبيّ هو تشكيل لغويّ متميّز، هو تشكيل خارج على التعبير المألوف، واللغة العادية، تعبير يتميّز بالعدول أو الانزياح. وقد بين الجاحظ أن العتابي عندما قال: “كلّ من أفهمك حاجته من غير إعادة،ولا حبسة، ولا استعانة، فهو بليغ”(1) لم يكن يعني الإفهام العادي، بل كان يعني الإفهام البليغ، الإفهام بلغة أهل الفصاحة والأدب.
يقول الجاحظ ” وإنما عنى العتّابيّ إفهامك العرب حاجتك على مجاري كلام العرب الفصحاء”(2)
وذلك أن التشكيل البلاغيّ للأسلوب لا يهدف إلى إفهام المخاطب فحسب، ولكنه يهدف كذلك إلى إمتاعه، وإلى إحداث الدهشة والإبهار له.
ومن ثمّ فإنّ من وجوه عناية البلاغة بالمتلقي عدّها الأسلوب عدولا عن المعيار، وهي بذلك تلتقي مع الأسلوبية المعاصرة التي ميّزت بين اللغة الأدبية ولغة الكلام العادي، وعدّت الأسلوب الأدبيّ طقما من الانحرافات عن اللغة العادية،يقوم على التغريب.(3) ويقوم على الإبهار والمفاجأة، أي على مفاجأة المتلقي باستعمالات لغوية لم يألفها، فتحدث له الدهشة والإمتاع.
يقول ريفاتير: “إن التأثير الأسلوبيّ هو محصّلة حقيقية ناتجة عن مفاجأة المتلقي باستعمال وسائل أسلوبية لا يتوقعها، وتخرج على ما عهده في سياق معين..”(4)
وهو ما دعت إليه البلاغة العربية؛ في سعيها إلى تقديم معايير لتجويد الألفاظ والعبارات، خدمة للمعاني، وعرضها بأسلوب باهر مدهش يجتذب المتلقي، ويؤثر فيه.
كان الجاحظ يدعو إلى هذه العناية، فيقول عن أسلوب الشعر: “إنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير”(5)
وكان ابن رشد شديد الوضوح وهو يتحدّث عن العدول الذي يميّز لغة الشعر من اللغة العادية، ولولا هذا العدول لما كان الكلام شعرا. يقول: “إذا غيّر القولُ الحقيقيُّ سمي شعراً – أو قولاً شعرياً – ووجد له فعل الشعر، مثال ذلك قول القائل:
ولما قضينا من متى كل حاجة | ومسّح بالأركان من هو ماسح |
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا | وسالت بأعناق المطي الأباطح |
وإنما صار شعراً من قبل أنه استعمل قوله: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، وسالت بأعناق المطي الأباطح، بدل قوله: تحدثنا، ومشينا
وكذلك قوله:
بعيدة مهوى القرط |
إنما صار شعراً لانه استعمل هذا القول بدل قوله: طويلة العنق.
وكذلل قول الآخر:
يادار، أين ظباؤك اللعسُ | قد كان لي في إنسها أنس |
إنما صار شعرا لأنه أقام الدار مقام الناطق بمخاطبتها، وأبدل لفظ النساء بالظباء، وأتى بموافقة الإنس والأنس في اللفظ..
وأنت إذا تاملت الأشعار المحركة وجدتها بهذه الحال. وماعري من هذه التغييرات فليس فيه من معنى الشعرية إلا الوزن فقط”.(6)
إنّ عناية البلاغة بالأسلوب، ووضع المعايير الجمالية المختلفة له لم يكن غاية في حدّ ذاتها، ولكنه كان وسيلة لخدمة المعاني، كي تصل إلى المتلقي في أبهج صورة، فتكون شائقة مؤثرة.
يقول ابن جني: “اعلم أنه لما كانت الألفاظ للمعاني أزمّة، وعليها أدلّة، وإليها موصلة، وعلى المراد منها محصّلة ؛ عنيت العرب بها، فأولتها صدرا صالحا من تنقيتها وإصلاحها..”(7)
خاتمة
إنّ الظاهرة الأدبية لأعقدُ من أن تُختزل في عنصر من العناصر،وإنّ السلطة في تشكيلها ليست سلطة المؤلف وحده، ولا النصّ وحده، ولا المتلقي وحده، كما قالت بذلك بعض المناهج الغربية المعاصرة، بل هي حصيلة ذلك كلّه، وهذه العناصر جميعها تؤثر في إنشائها، وفي صياغتها على أسلوب معيّن.
إنّ أسلوب الظاهرة الأدبية ليس أحادي الجانب، ولكنه منفتح على جميع المكونات والمؤثرات والعناصر.
وهذا ما لا حظه النقد والبلاغة العربيان ؛ فكان لجميع عناصر الاتصال –التي تحدُثت عنها الأسلوبية المعاصرة، وأدركتها من قبلها البلاغة العربية – حضوره الواضح فيهما.
عنيت البلاغة بالمؤلف والنصّ، وبيّنت دور كلّ منهما وأثره في تشكيل الأسلوب على هيئة من الهيئات. وركّزت على المقام الذي يعني المخاطب/ المتلقي، والموقف، فلاحظت أنّ هنالك مقتضيات تناسب كلا منهما، ولا بدّ أن يراعيها كلّ متكلّم بليغ حتى يكون أسلوبه مؤثرا فعّالا. إنّ البلاغة – في جوهر تعريفها– ” مراعاة مقتضى الحال ” و” لكلّ مقام مقال”.
وقد توقّف هذا البحث – باختصار– عند المؤلف / المرسل، والنص/ الرسالة، والموقف أو السياق، ثمّ تخصص في الكلام على المخاطب، أو المتلقي/ المرسل إليه، فبيّن حضوره القويّ في البلاغة العربية، وعنايتها الفائقة به، حتى كاد يستأثر بأغلب الاهتمام.
عنيت البلاغة العربية بأن يتشكّل الأسلوب في ضوء معرفة المخاطب، وإدراك أحواله المختلفة: نفسيا، وثقافيا، واجتماعيا، وطبقيا، ونوعا ؛ إذ هو المستهدف بالخطاب الأدبيّ ؛ فالخطاب الأدبيّ العربيّ: شعرا، ونثرا،كان موجها للتعبير عن قضايا المجتمع والناس، وكان ذا وظيفة اجتماعية، أو سياسية، أو دينية، أو خلقية،أو تربوية،أو غير ذلك، أي كان – في مختصر من القول– خطابا غيريا جمعيا. وإنه لحقيق بخطاب من هذا القبيل أن يكون للمتلقي فيه حضور باهر، وأن تكون مراعاته هدف المبدع والناقد على حدّ سواء.
وبسبب هذا الاهتمام بالمتلقي عنيت البلاغة العربية أن يحمل الخطاب الأدبيّ المتعة والفائدة، وأن يكون واضحا وضوحا فنيا، لا ينغلق على المخاطب، ولا يعتاص عليه، وأن يصاغ بلغة متميزة عالية، لغة منزاحة عن لغة الكلام العاديّ ؛ حتى يتحقّق التأثير في المتلقي/ مستقبل الرسالة، بل حتى يتحقق الإبهار والإدهاش.
وقد بيّن البحث– من خلال مقارنات موجزة بين البلاغة العربية والأسلوبية المعاصرة– سبق هذه الأولى إلى كثير من النظرات والأفكار التي دعت إليها أحدث المناهج النقدية الغربية، ولا سيما ” نظرية التلقي، أو استجابة القارئ” التي حسب بعض المعاصرين المنبهرين بها أنّ العناية بالمتلقي هي فتح من فتوحها.
المراجع:
(1). البيان والتبيين: 1/113
(2). السابق: 1/162
(3). النظرية الأدبية الحديثة: آنجفرسون،وديفيد روبي،ترجمة: سمير مسعود، وزارة الثقافة،دمشق: 1992
(4). الأسلوبية اللسانية: ص 124
(5). الحيوان: 3/131
(6). تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر لابن رشد:149–151،تحقيق تشارلس بترورث، وإحمد هريدي،الهيئة المصرية العامة القاهرة:1987
(7). الخصائص:1/312 ” تحقيق محمد علي النجار،دارالهدى،بيروت: طثانية