مع الخالدين: الشيخ محمد الرابع الندوي مآثره لا تنسى

أربعون عامًا في صحبة العلَم العلامة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ذكريات وعبر
3 سبتمبر, 2023
سنوات مع فضيلة الوالد العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله
5 سبتمبر, 2023

مع الخالدين: الشيخ محمد الرابع الندوي مآثره لا تنسى

الدكتور خالد حسن الهنداوي (الدوحة، قطر)

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

فإن العالم الإسلامي فقد في أيامنا الفضيلة هذه بتاريخ 21/ رمضان 1444هـ الموافق 13/ أبريل 2023م أحد أهم أعلامه الكبار الأفذاذ شيخنا الإمام المجاهد الداعية الكبير السيد محمد الرابع الحسني العربي الهندي الندوي من أسرة الأشراف، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

وقد اشرأبّتْ روحي للحديث عنه – بعد تلبيته نداء ربه – لما عرفتُ من خصاله الحميدة ومآثره المجيدة بيد أنني كلما هممتُ أقعدني المرض نرجو من الله تعالى الشفاء، والدعاء من إخواننا الصادقين.

وأراني اليوم مستعدّاً لشيء من الكتابة والرثاء له وكأن حبَّه وسرّه – رحمه الله – ألهم روحي ودفعني إلى ذلك، فأسأل الله تعالى القبول، إنه سميع مجيب.

 ولعل أهم ما يميز فقيدنا الغالي العظيم بعض جوانب فريدة في حياته المفعمة بالعمل المثمرالجاد لخدمة الدين والعلم والفكر والأدب والتربية والأخلاق حتى ظهر وبرز فيها كوحيدٍ من الأعلام مع وجود الكثيرين منهم من أقرانه الفضلاء.

وإنني لأعرف منه عن نشأته الشخصية والعلمية والأدبية ما نفحني به من عطره الفواح: أنه أفاد منذ صغره من والدته وجدته الكريمتين أدباً وعلماً وتربيةً وخُلقاً، فقد كانتا نعم القدوة الحسنة له، وكيف ننسى أنه ترعرع في حضن وظِل هذه الأسرة ذات المنبت المبارك، فلابد للأصل الأثيل التليد أن يفعل فعله فيما وصفناه به.

جل المصابُ بنا فتلك خسارةٌ

عصفت كأقسى الكربِ في الأرزاء

الرابعُ الندويُّ غاب وإننا

في فاقةٍ لأكابر العلماء

هو ميّت لكنه في ساحنا

حيٌّ بنا من أعظم الأحياء

بأرومةٍ فُضلى لمجدٍ زانها

نسبٌ إلى حَسَنٍ مع القرباء

ثم إنه لما غادر قريته بعد المرحلة الابتدائية إلى مدينة لكناؤ تابع المسيرة بتعلقه ونهله عن خاليه العالِميْن الفاضلين: الدكتور عبد العلي الحسني والشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، ولعل من أبرز مشايخه الكبار: الشيخ العلامة حسين أحمد المدني الهندي، والعلامة شيخ الإسلام زكريا الكاندهلوي الهندي، والمحدث الفقيه الأديب العلامة العربي الحلبي الشيخ عبد الفتاح أبو غدة – رحمهم الله وأجزل مثوبتهم –. أما تلاميذه فهم كثيرون منتشرون في العالم.

والجدير بالذكر أن خاله أبا الحسن تعاهده – إلى جانب العلوم الشرعية – بالفنون الأدبية الإسلامية حتى برع فيها؛ وأصبح – منذ تخرجه في الندوة – مدرساً بعد عقدين ونيّف،، لطلاب الندوة مادة الأدب الإسلامي ستة أعوام حتى رأس قسم الأدب العربي بعدها، ثم تبحّر في هذا الميدان، وألّف كتباً نفيسةً في ذلك؛ مثل “الأدب الإسلامي وصلته بالحياة” و”أضواء على الأدب الإسلامي” و”الأدب الإسلامي فكرته ومنهاجه”، مما لذّت لنا – نحن العرب – مطالعتها والإفادة منها فهماً ووعياً. ولا عجب؛ فقد كان فارس اللغة العربية وآدابها في بلاد الهند حتى إنه حظي بالجائزة التقديرية من رئيس الجمهورية نظراً لخدمته للعربية وما يتعلق بها. كما أنه شارك في مختلف مؤتمراته في الهند والبلاد العربية كالحجاز ومصر والمغرب والأردن وكذلك تركيا وغيرها. فكان نِعم المحدّث والباحث والمحاور والموصي ولا ننسى أنه كان عضواً مؤسساً لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، ثم رأسها مدة من الزمن حتى وفاته.

يافارس العربية العليا أفِقْ

وامحض فنونك دُرّةً كالرائي

لغةُ الكتاب من الإله عزيزةٌ

قدسيةُ الأفكار للفصحاء

ومن جانب آخر؛ فقد مَهَر في علم الفقه والفكر الإسلامِييْن فكان عالِما ثبتاً ومفكراً بصيراً؛ فألف كتابه المعروف “أضواء على الفقه الإسلامي” فهو المتمكّن فقهياً وخصوصاً في الأحوال الشخصية؛ من الزواج والطلاق والحضانة – التي يطلب الشرع الاحتياط فيها – حتى أصبح رئيساً لهيئة قانون الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند. كما صنف كتاباً نافعاً بعنوان: “الهداية القرآنية سفينة نجاة للإنسانية” بفكر واع ونصحٍ مأمون، وكذلك كتاب “سراجا منيراً (سيرة خاتم النبيين)” فأيقظ بجذوته الإيمانية العقول والقلوب والنفوس.وكما صنّف كتباً أخرى تتجاوز خمسين مؤلفا دينياً وأدبياً وفكرياً بالعربية وغيرها، تحُثّ على الذّود عن حياض الإسلام وإصلاح المفاهيم المغلوطة في المجتمع الإسلامي علميا وأدبيا وفكريا ونفسيا ودعويا.

فما هجر المرحوم ثغرة في ذلك إلا عمل على سدها فكان سابقاً مُبهِراً بأسلوبه الفائق الرائق الشائق الذي يستهوي القراء وبالفهم العميق الدقيق الذي يبين ويسبر غور الأفكار، ولا غروَفي ذلك؛ ففقيدنا باحثٌ غوّاصٌ؛ وقد قالوا: كل باحث عالم وليس كل عالم باحثاً. فكيف وهو عالمٌ مكين وباحثٌ مدقق.

هذا بالإضافة إلى أنه كان متحرّقاً متحركاً بدأبٍ في جولاته وصولاته الكثيرة في بلاده. فإنه كان يزور المسلمين ويوجّه ويرشد بل ويستزيد من العلم طبقاً للآية الكريمة (وقل ربي زدني علما) طه: 114. حتى أيامه الأخيرة التي كان يعاني فيها من المرض الشديد. فياربِ ضاعفْ أجره يوم المعاد.

 وقد زرته بمكتبه في الندوة منذ أعوام، فأخبرني أنه سيسافر من لكناؤ إلى مدينة أخرى بجولة مع الإخوة الدعاة فرحمته وأشفقت عليه وقلتُ له رفقاً بنفسك فإنك متعب. والإخوة ينوبون عنك، لكنه أجابني بلطفٍ وقال: لابد أن أذهب معهم. ومن جانبي كنتُ أشعر أن معيّته للجماعة هي من أحسن القدوة في العلم والتربية والسلوك والتجربة والمسؤولية، فوافقته على ذلك. فهو ذو إرادة وهمة عالية.

ولستُ أنسى رحلة الشيخ أبي الحسن الندوي ويصحبه الشيخ محمد الرابع ووفد من العلماء والأدباء الهنود إلى باكستان، وقد تشرفتُ بمرافقتهم وكنتُ العضو العربي معهم بدعوة من الجامعة الأشرفية في مدينة لاهور وكان في استقبالنا صديقنا العزيزالبروفيسور د. ظهور أحمد أظهر عميد الكليات الشرقية واللغة العربية في جامعة البنجاب، ومسؤول رابطة الأدب الإسلامي العالمية بباكستان فيما بعد، جزاه الله خيرا. وقد فضّل الشيخ أبو الحسن المبيت في ضيافة الجامعة عن الفنادق – وهذا شأنه دوماً – وبتنا فيها، وخلال اليوم كانت لنا الأنشطة بجامعات ومراكز المدينة الكبيرة المهتمة بالتراث والفكر والأدب بل والسياسة المنشودة. حتى إنني أذكر أن ثمة محاضرة أعدتْ للشيخ أبي الحسن في إحدى القاعات الثقافية الكبرى، وحضرها رئيس باكستان الأسبق ” فاروق ليغاري” وقد رأيت وقتها منظراً عجَباً؛ وهو أن الشيخ لما نودي لإلقاء المحاضرة نهض بعكازه يريد الصعود على الدّرج فكان الرئيس هو الذي يساعده حتى أجلسه على كرسي المنصة، وعاد وأخذ مكانه، فكبّر الجهمور وصفّقوا! وإن كان الرئيس فعل ذلك بدافع توقير الشيخ. وهكذا يجب أن يكون احترام العلماء الربانيين الحكماء، وكما جاء في المأثور ما معناه: “نعم الأمراء في أعتاب العلماء وبئس العلماء في أعتاب الأمراء”.

كما أنه حدث بعد المحاضرة أن وُضع العَشاء للمدعوين الكثيرين، وكان على الطاولة الشيخ أبو الحسن والشيخ محمد الرابع وحضرة الرئيس والعبد الضعيف كاتب هذه الأسطر. وكان الرئيس يتحدث مع مولانا الشيخ فيجيبه باختصار كعادته، ويبقى الشيخ الرابع صامتاً يحسن الاستماع، وهذا دأبه دوماً تبجيلاً لشيخه الجليل.

ومثل ذلك حدث في دعوة الإفطار عند حاكم البنجاب يومها “شهباز شريف”، فحدّثْ ما شئتَ عن أدب هؤلاء العلماء الأعزة وخصوصا الشيخين الأفضلين رحمهما الله تعالى.

يا مُلْهَماً كرُمتْ سحائبُ فضلِه

في الهند والبلدان والأرجاء

ومجاهداً مستبصراً ومجرِّباً

ترعى الأمور كأحسن الحكماء

قد كنتَ صِمّيتاً بقلبٍ ناطق

وكمثل عثمانٍ نميرَ حياء

يا قطبَ فقهٍ بل وفكر نيّر

قد شعّ في الدنيا كشمس ضياء

وإذا شئنا أن نتكلم عن الفقيد رحمه الله فإن هذا يطول… ولكننا قبل المغادرة نحب أن نشير إلى أنه كان مهتماً بالجانب الصحافي، فقد أنشأ صحيفة “الرائد” التي لا يزال صدورها حتى اليوم كما أثرى مجلة البعث الإسلامي بمقالاته السديدة وأشرف على مجلات الندوة بالأردية، ومجلة الرائد الصادق بالانكليزية.

هذا ولا نود أن نعدّد مناصبه الكثيرة أثناء هذا العمر الطويل، فقد ذكرنا بعضها في المقال، وأشار إليها الكتّاب الآخرون الأفاضل.

وأخيراّ؛ فلا بد أن نزكي الفكرة التي قام بها هو وإخوانه العلماء مع مشاركة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في “قطر” بهذا القرار الواجب وهو: توحيد كلمة علماء المسلمين في الهند؛ حيث عمل العلماء الهنود بعد زيارة علماء الاتحاد لهم على التجمع والانضمام حول فكرة دين التوحيد لاغير، ونبذ الخلافات الفرعية التي لاقيمة لها في التأثير بل تعمل على تشتيت جهود الجماعات الإسلامية، هذا وقد شرّفنا هؤلاء العلماء الأفاضل في “الدوحة” في مؤتمرعامر فتعاهدوا على ذلك. وكنتُ – العبد الضعيف – شاهداً على الاجتماع، وألقيتُ قصيدة في هذا الموضوع.

وقد نتج من ذلك تعزيز الثوابت الإسلامية التي تزينها القيم والأخلاق الإيمانية، وهذا هو المنهاج الذي سار عليه فقيدنا دون الميل يمنةً أو يسرةً فهو الرجل المبدئي المتوكل على الله المعتز به وحده، ذو الفطرة الصافية والقلب الصادق، ويشهد العلماء الربانيون أن الشيخ محمد الرابع كان حسنة من أزكى حسنات هذا الزمان تقىً وورعاً وزهداً وعلماً وعملاً مخلصاً، وقد فارقنا بجسده وروحه وأثره لا زال فينا. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “ما قبض الله عالما إلا كان ثغرة في الإسلام لا تُسد” فهذا ما عنّ الخاطر به في ذكر شيءٍ من مآثره الجميلة التي لا تُنسى…. فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل… روّح الله روحه ونوّر ضريحه.

رفقاً بنا يا أيها الجرح الذي

قد غار في الأعماق والأحشاء

ها إنني أرثي أثيراً رائعاً

فلعلني أوفيه بعض عزائي

وبِجَعْفَرٍ نرجو خلافةَ شيخنا

كأبيه يرقى قمّةَ الجوزاء

و اليوم ندْوتُنا بلالُ رئيسُها

نِعم المُدبِّرُ ساعياً بمضاء

والحمد لله رب العالمين.

×