لمحة عن حياة سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله
3 سبتمبر, 2023مع الخالدين: الشيخ محمد الرابع الندوي مآثره لا تنسى
3 سبتمبر, 2023أربعون عامًا في صحبة العلَم العلامة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ذكريات وعبر
بقلم: أ. د. حسن الأمراني الحسني (رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية)
رجل كان يمشي على الأرض هونا.
هادئ في حديثه، لا صخّاب ولا هيّاب، يبلغ فكرته في حكمة بالغة.
زاهد لا يتطلع إلى الظهور، ولكنه يصدع بالحق في لين. يظنّ من لا يعرفه أن ليس وراء هذا الزهد همة عالية، فإذا خبره علم أن له همة تناطح النجوم.
عرفته منذ أربعة عقود. بقي كما عهدته أول مرة، بهمة عالية، وعزم راسخ، وإن كان ازداد حنكة وحكمة.
رأيته أول مرة في شهر ديسمبر من عام 1985م. كنت قادما من باريس، مدينة الأنوار في الغرب “كما تسمى”، إلى لكنو، في الشرق. كنت يومها مقيما في باريس لإعداد شهادة دكتوراه الدولة. بحثت عن الطيران المتوجه إلى الهند، فوافق بحثي رحلة أسبوعية، ذهابا وإيابا، عبر الخطوط السورية، من باريس إلى دلهي، عبر دمشق، والشارقة، تستغرق أسبوعين. ولم أتردد في الحجز.
أرسلت ندوة العلماء لاستقبالي في مطار دلهي شابا من ماليزيا، اسمه فهمي زمزم الندوي (رحمه الله)، لكن لم يقدر لنا في تلك اللحظة أن نلتقي، لأنني بقيت داخل المطار، ولم أخرج كسائر المسافرين، وذلك بحثا عن حقيبتي التي ضاعت بين حقائب المسافرين. ولما خرجت كان فهمي قد يئس من وصولي فغادر. سُقِط في يدي. لم يبق غير أن أسافر إلى لكنو بمفردي. ركبت القطار، وأنا لا أعلم أنه سيستغرق كل ذلك الوقت الطويل. كان لا يمر بمحطة، ولو صغيرة، إلا وقف ما شاء الله له أن يقف. رأيت مشاهد تذكرني ببعض الأفلام السينمائية المصورة لأوضاع قطاع فقير من أبناء الهند، مما شاهدت في زمن الشباب الأول، صليت الظهر والعصر جمعا في القطار، ثم المغرب والعشاء، لأصل صباح اليوم التالي. نزلت في المحطة، واتصلت بندوة العلماء، فأرسلوا إلي شيخا وقورا، ولكنه في همة الشباب، اسمه (شمس الحق الندوي). قال لي: انتظرني. قلت له: ولكن كيف يعرف بعضنا بعضا؟قال في ثقة: أنا أعرفك. لا أعرف كم مضى علي من الوقت، ولكن أظن أن صاحبي لم يطل انتظاري حتى تقدم مني مسلِّما.
نزلنا ضيوفا على ندوة العلماء، وهناك التقى جمع الأدباء القادمين من آسيا، وأوروبا، وإفريقيا. أذكر من بينهم شاعرا من الحبشة، اسمه محمد كامل الأنّي. كان يؤثر أن يقال عنه إنه من دار الهجرة الأولى، بدلا من الحبشة. وكان قادما من المغرب الشاعر السوري الكبير عمر بهاء الدين الأميري، وكان قد استقر بالمغرب، أستاذا للفقه الحضاري، بدار الحديث الحسنية. وأذكر أيضا شاعرا من اليمن.
منذ ذلك التاريخ عرفت الشيخ العلامة محمد الرابع، وتتابعت لقاءاتنا، حيث كنت عضوًا بمجلس الأمناء، وتوليت أمانة السر فترة، وكان هو ملازما لسماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، ومعه اجتباء الندوي، ومحمد واضح رشيد الندوي، رحمهم الله جميعا.
كانت لقاءاتنا في عدد من المدن، منها استانبول، والقاهرة، وعمان، ووجدة، وفاس. إلا أن اكثر ما كنا نلتقي في المدينة المنورة، في بيت الدكتور عبد الباسط بدر، رحمه الله تعالى، وأولها كان في 2930 صفر 1408، الموافق ل 2223 أكتوبر 1987، ثم في 15 – 16 /4/1409هـ الموافق 23 – 24/11/1988م.
كل تلك اللقاءات بالشيخ محمد الرابع رحمه الله، كانت تزيدني به معرفة، وتؤكد ما آنسته منه منذ اللقاء الأول في لكنو. وكان من خلقه التواضع، والزهد، وعدم الحرص على الشهرة والظهور. لقد تربى في مدرسة العلامة الشيخ أبي الحسن الندوي وعلى يده، فقبس من علمه، ومن خلقه ما صار له طبعا. كان زهده من زهد شيخنا أبي الحسن، فإذا نزلنا فندقا، نزل معنا ليحضر اجتماعات الرابطة، إلا أنه بعد ذلك، يأخذ طريقه إلى بيت بعض البسطاء من الهند. وفي المدينة المنورة، كان خارج الاجتماعات يختلف إلى فندق “نور ولي” حيث يلتقي بالبسطاء مرة أخرى.
وقد أخذ الشيخ محمد الرابع شيئا من أخلاق خاله أبي الحسن.
وأذكر حادثة واحدة تكشف زهده.
فبعد وفاة رئيس الرابطة ومؤسسها الشيخ أبي الحسن علي الحسني، اجتمع مجلس الأمناء لاختيار خلف له، وذلك في الدورة الحادية عشرة لمجلس أمناء الرابطة في المدينة المنورة في المدة 17 – 22/5/1421هـ، الموافق 17 – 22/8/2000م، وهي أول دورة بعد وفاة الشيخ أبي الحسن الندوي – رحمه الله، رئيس الرابطة ومؤسسها.
وكان النظر ينقلب ما بين الدكتور عبد القدوس أبي صالح، والشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، ليكون أحدهما خلفا للشيخ أبي الحسن رحمه الله. وكنتُ ممن اقترح الشيخ محمد الرابع لمنصب الرئيس، لتبقى الرئاسة في الهند، والنيابة في البلاد العربية. ولما رأى أن هنالك من يرشحه لهذا المنصب، طلب في أدب جم مهلة لصلاة الاستخارة. وانفض المجلس. وبعد معاودة الاجتماع اعتذر، معلنا أن الله لم يشرح صدره لقبول منصب الرئيس، وعندها اختير الدكتور عبد القدوس أبو صالح رحمه الله تعالى، رئيسا للرابطة بالإجماع.
وبعد وفاة الدكتور عبد القدوس، بدأ التشاور في من يخلفه، ولم يكن هناك من هو أجدر من الشيخ محمد الرابع، قانونا وواقعا. ومع ذلك لم يترك المشورة. وقد اتصل بي مرارا للتشاور، قبل انتخابه، وبعد انتخابه، وسألني عن بعض أعضاء مجلس الأمناء. وعندما وقع اختياره علي لأكون نائبه الأول، رحبت باختياره. وكان في تلك الفترة القصيرة التي قضاها رئيسا للرابطة، يستشيرني إما كتابة، وإما عبر الاتصال الهاتفي. وكنت في مراسلاتي أوقع باسم (رئيس مكتب المغرب)، فنبهني مرة بلطفه المعهود، وابتسامته الغضة، قائلا: لماذا توقع باسم رئيس مكتب المغرب؟ أنت الآن النائب الأول لرئيس الرابطة. والتزمت بما طلب.
هذا الرجل الزاهد، الذي كان يمشي على الأرض هونا، خلف ذخيرة فكرية وأدبية وعلمية، لو كان لمثله بعض منها لمشى زهوا بين الناس.فقد ترك وراءه للناس ستين مؤلفا في الفكر، والتربية، والدعوة، والأدب، والسيرة. وكان للغة العربية، والأدب العربي، من تلك الكتب نصيب وافر، وحظ جزيل، ومنها: (الشعر العربي)، و(الأدب العربي بين عرض ونقد)، و(منثورات من أدب العرب). وقد كان أول ما أهداني رحمه الله كتاب (الأدب الإسلامي وصلته بالحياة، مع نماذج من صدر الإسلام)، وآخر ما أهداني كتاب جليل في السيرة النبوية، هو كتاب: (سراجا منيرا)، بعث به إلي من لندن، عن طريق الأستاذ الفاضل الدكتور محمد أكرم الندوي، وهو كتاب كاشف عن شخصيته المتميزة، قارئا للسيرة النبوية ومتذوقا لها، ومستخلصا من العبر منها ما هو جدير بالتأمل.
وقد اخترت أن أقف وقفة قصيرة، بما يسمح به المقام، عند الكتاب الأول، أجلي من خلاله بعض خصائص شخصيته، دارسا للأدب العربي، ومؤرخا له، وناقدا.
استهل الكتاب بتوطئة، يقول فيها: “هذا بحث كنت أعددته مساهما في الندوة العالمية الأولى للأدب الإسلامي المنعقدة في دار العلوم، ندوة العلماء، عام 1401، شرحت فيه صلة الإسلام بالأدب، وصلة الأدب الإسلامي بالحياة، وهما جانبان يسترعيان منا الانتباه”.
وفي هذه الإطلالة حقائق منها أن ندوة العلماء، كانت سباقة إلى تخصيص ندوة عالمية للأدب الإسلامي، أي قبل ندوة: “الحوار حول الأدب الإسلامي” التي عقدت في المدينة المنورة، عام 1982، وندوة الأدب الإسلامي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض في رجب 1405هـ، الموافق نيسان/ أبريل 1985م. وهذه الندوات هي التي مهدت لنشوء “رابطة الأدب الإسلامي العالمية” في ندوة العلماء، في عام 1406هـ الموافق لعام 1986م.
والحقيقة الثانية هي: (شرح صلة الإسلام بالأدب، وصلة الأدب الإسلامي بالحياة، وهما جانبان يسترعيان منا الانتباه). وهذا أمر حق، فلطالما أثير الجدل حول صلة الإسلام بالأدب، وأن الدين مناف للأدب بصفة عامة، وللشعر بصفة خاصة، وإن كان من صلة عندهم فهي صلة سلبية، فالأدب الذي نشأ في ظل الإسلام أدب ضعيف، وهو زعم باطل لا ريب في ذلك.
وهذا مما يبين أن الشيخ محمد الرابع رحمه الله كان على وعي مبكر بالقضايا الجوهرية المتصلة بالأدب الإسلامي.
وفي ما يلي عرض موجز للأفكار الرئيسية للكتاب:
في التوطئة، أبرز الكاتب أن الفسق ليس من مقومات الأدب، ولا يجعل من الأدب أدبا عريقا، كما أن حضور الدين في الأدب، لا يفقد الأدب قوته وجماله.
والأدب قد يكون مصبوغا بالصبغة الدينية كالابتهالات، والدعاء، والوعظ.
لكن الأدب الإسلامي أوسع من ذلك بكثير. إنه متسع باتساع الحياة كلها، ومتنوع بتنوع الحاجات الإنسانية. ويضرب المثل لذلك بأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متسم بالقوة والجمال.
والإسلام ليس دينا مقصورا أو محدودا في العبادات كسائر الأديان، بل هو متسع اتساع الحياة، ولذلك فإن الأدب الإسلامي متسع باتساع الحياة. (ولم يتعارض إلا مع ما يتعارض مع مصلحة الحياة الإنسانية ذاتها، ومع ذوقها الجميل، وأنه إذا تعارض فيتعارض مع عمليات الهدم والإخلال بصالح الإنسان وإنسانيته).
وقد أبرزت المقارنة بين الأدب الجاهلي والأدب الإسلامي، من خلال الأدب المخضرم، أن الأدب الإسلامي لم يضعف عما كان عليه في الجاهلية، بل ازداد قوة مع بعض الشعراء.
ويقول عن اللغة العربية: (ومن أغزر اللغات، وأطولها مدة، هي اللغة العربية وآدابها، فإن امتدادها لا يقصر من خمسة عشر قرنا بالتواصل والتوالي، لم تنقطع هذه اللغة ولا آدابها في هذا الامتداد فترة، ولم تنسحب عن المجال الأدبي… فقد كان رسول هذا الدين محمد بن عبد الله الله صلى الله عليه وسلموهو الداعي الأعظم للإسلاممن أكثر أهل هذه اللغة وآدابها قوة وإجادة، لم يكن قائلا للشعر، ولكنه كان مجيدا لفهمه، ومتذوقا لمحاسنه، أما النثر الأدبي، فقد كان صلى الله عليه وسلم أروع الناس جميعا كلاما فيه وفهما له).
ويقارن بين الأدب الإسلامي والأدب غير الإسلامي، فيرى أن (الأدب الإسلامي أدب ملتزم بالمفيد الصالح لا بالجمود والتقليد). ص.20
وهو هنا يحسم قضية الالتزام في الأدب التي شغلت الناس في القرن العشرين، فليس الالتزام في الأدب الإسلامي موافقا للأدب الوجودي الغربي، ولا هو مساير للالتزام الماركسي، الذي هو على الحقيقة ليس غير إلزام للأديب، بأن يكون شعره خادما لإيديولوجية الحزب الحاكم، بل هو التزام حرّ، إن صحّ القول، ليس عليه رقيب إلا الله عز وجل. فلا الدولة، ولا الحزب، ولا السلطة كيفما كانت، لها سلطان على الأدباء. وإنما هي تتدخل إن وقع الأديب في “الخيانة العظمى”، وأصبح خطرا مباشرا على الأمة. وإلا فكم وجدنا من أديب يسير في اتجاه معاكس للسلطة، ولا يتعرض له أحد.
كما يلفت الكاتب النظر إلى أمر مهم، وهو ما يمكن تسميته ب: “التوجيه النبوي للأدب”، أي إن الرسول صلى الله عليه وسلم، وجه بعض النصوص، والأمثال، والأقوال الجاهلية، توجيها إسلاميا، دون أن يطرحها جانبا، أو يعترض عليها، فاكتسبت بذلك معنى جديدا. فالقول الواحد يمكن أن ننظر إليه من زاوية فنراه جاهليا، وإذا جددنا فيه النظر ووجهناه صار إسلاميا. ومن هنا يبرز الفارق بين المفهوم الإسلامي للأدب وبين غيره. فقد كانت العرب تقول: “اُنصر أخاك ظالما أو مظلوما”، فأقر عليه السلام هذا القول، واستشهد به، ولما قيل: “ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟”، قال عليه السلام: “أن تمنعه عن ظلمه”. هنا يدخل التوجيه النبوي للعبارة فيكسبه جِدة، دون استبدال غيرها بها، لأن وراء ذلك مقاصد؛ منها التعليم، والتأثير، وتركيز المفهوم الجديد، بحسب ما بين المؤلف.
وكذلك نظر محمد الرابع إلى الشعر، فوجهه الوجهة الإسلامية المناسبة. ومن ذلك أنه قدم لنا تفسيرا جميلا لبيت النابغة الجعدي:
“بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا”.
فالبيت الواحد يمكن أن يكون له تفسير يؤدي إلى الكفر، وتفسير آخر يرسخ الإيمان.
قال الكاتب: (فلما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير وجهه الكريم، وسأل: “إلى أين يا أبا ليلى؟” فقال الشاعر: إلى الجنة يا رسول الله. فطابت نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه عرف من شرح الشاعر لشعره أن المفهوم ليس كما يبدو من ظاهر النص بأن يكون جراءة مع الذات الإلهية، بل إنه مفهوم التقرب إليه، وطلب مثوبته وجنته، فبيت واحد من الشعر كان يدخل في حيّز الإلحاد والكفر إذا وجدنا تفسيره تفسيرا مغايرا للحق والإسلام، ولكنه يصير بيتا من الشعر الإسلامي عندما يتفق مفهومه مع النظر الإسلامي”. ص.24
وهناك فكرة أخرى أساسية، وهي أنّ الأجناس الأدبية لم تتغير، ولكن تغيرت مضامينها. وهذا يعني أن الإسلام يتسع لكل الأجناس الأدبية، القائمة حاليا، والمستحدثة في المستقبل، شرط أن تكون مضامينها إسلامية.
وهكذا فإن النظرة الإسلامية إلى الأدب الجاهلي منسجمة مع هذا التصور، ذلك (بأن الإسلام لم يشطب الأدب الجاهلي كله، بل إنما شطب الأدب الكاذب والمنافق والفاسد منه).26 ولذلك استنشد الرسول عليه السلام عمرو بن الشريد من شعر أمية بن أبي الصلت، فأنشده مائة بيت، فقال عليه السلام: “آمن لسانه، وكفر قلبه”.
والأدب الإسلامي قسمان:
قسم يؤدي دور نشر الوعي الديني، وهو (أدب الدعوة والدين). وقسم واسع بلا حدود، يشمل كل مناحي الحياة، وليس شرطا فيه حمل شعار الإسلام، إلا أنه يلتزم بحدود الإسلام، وهو (الأدب العام).
فهل لنا نص أدبي إسلامي يقتدى به؟ نعم، إنه أدب الرسول صلى الله عليه وسلم. فالبلاغة النبوية هي قمة البلاغة في كل عصر وفي كل مصر. وقد سبق صلى الله عليه وسلم إلى عبارات صارت من بعد ذلك أمثالا، واختار لنا الكاتب نماذج، منها:
“رفقا بالقوارير”. و”يا خيل الله اركبي”. و” لا ينتطح فيه عنزان”.
ثم ساق نماذج من أدب الرسول صلى الله عليه وسلم. ونماذج أخرى نثرية من أدب الصحابة.
وساق لنا أيضا قول عائشة رضي الله عنها، حين دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها أبواها يبكيان، من حديث الإفك. وإنها لقطعة أدبية تقطّع الأكباد. وهي تكشف عن حسن الاختيار، كما قال الشاعر قديما:
قد عرفناك باختيارك إذ
كان دليلا على اللبيب اختياره
وبعد ذلك قدم الكاتب قانونا أدبيا به يفصل ما بين الأدب الإسلامي وغيره، وهو قوله: “الالتزام بالطبيعة الإسلامية هو المبدأ الوحيد للأدب الإسلامي”. 54
وقد سبق الشيخ محمد الرابع رحمه الله إلى قضية التمييز بين “الأدب الديني” الذي هو موجود في كل الأديان الأخرى، وبين “الأدب الإسلامي” الذي له خصوصيته.ففي الأديان الأخرى هناك الحديث عن الأدب الديني لا غير. أما الأدب الإسلامي فواسع مع الالتزام، ومقيد مع الشمول، لأن الأدب الإسلامي هو أدب الفطرة، (والطبيعة الإسلامية هي الفطرة التي فطر خالق النّاسِ النَّاسَ عليها)
أما الاختيارات الشعرية والنثرية التي قدمها المؤلف، فهي تكشف عن حس نقدي متقدم، وذوق أدبي رفيع. ومما اختاره نماذج كثيرة لحسان بن ثابت الأنصاري، وهذا أمر طبيعي، لأن حسان بن ثابت، أكبر شاعر إسلامي عبر التاريخ.
وحسّان لم يكن شاعرا عاديا، بل كان فحلا في الجاهلية والإسلام. وقد وضع في الإسلام ميزانا جديدا لنقد الشعر، فقال مما اختاره الكاتب:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه
على المجالس إن كيسا وإن حمقا
وإن أشعر بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدَقا
فسقطت بذلك مقولة: (أعذب الشعر أكذبه).
ثم إن الكاتب نفسه، وضع لنا ميزانا جديدا وحصيفا، ينبغي مراعاته عند الموازنة بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي، بل بين شاعر وشاعر. فقال: “إن المقارنة بين شاعرين ينبغي أن تكون بمعيار شعري واحد” 82
هذا هو المعيار الذي وضعه الكاتب، وهو يعتمد فيه على الحجة والمنطق، لا على الهوى الذي لا يغني من الحق شيئا.
يقول مثلا: (هل نقارن بين النابغة وامرئ القيس في أغراض واحدة؟
أليست لكل واحد منهما مجالات مختلفة عن مجالات الآخر في القوة والبراعة؟ فلماذا لا نقول: إن امرأ القيس ضعيف في الشعر، لأنه لم يحسن الاعتذار والاستعطاف، وإن النابغة ضعيف في الشعر، لأنه لم يحسن في وصف الخيل والصيد كامرئ القيس؟ فلماذا نقيس الشعر الإسلامي بما لا نقيس به الشعر غير الإسلامي؟
فإن لكل شاعر مجالات في القول، ولكل عهد مجالات، فمن الإنصاف أن نزن الشعر في مجالات قائله وعهده).
ومن القضايا التي أصّلها الكاتب رحمه الله تعالى، خصائص الشعر وميزاته بين العهدين الجاهلي والإسلامي
وفي هذا المبحث يقوم الرد على من قال بضعف الشعر في الإسلام.
ومعلوم أن السهام توجهت بخاصة إلى شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، حسان بن ثابت الأنصاري، فكان من الطبيعي أن يكون هو المثل الذي يستشهد به، لأنه إذا ثبت أن شعر حسان لم يضعف في الإسلام عنه في الجاهلية، فإن ذلك يكون حجة قاطعة على من يزعم غير ذلك.
والحجة البالغة أولا هي أن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يحض الشعراء ومنهم حسان على قول الشعر، وما كان للرسول صلى الله عليه وسلم، أن يتخذ في معركته مع قريش شاعرا ضعيفا. ثم إن الكاتب يقرر أن “شعر حسان في الإسلام بارع”. 77
وليس هذا مجرد ادعاء، بل إن مستنده هو النظر في شعر حسان في الجاهلية وشعره في الإسلام.
ويقيس الشيخ محمد الرابع رحمه الله الشعر بمدى أثره في المتلقي، وهل حقق هدفه أم لا؟فيقول:(وقد تبين من دراسة شعر سيدنا حسان بن ثابت الأنصاري أن الأثر الذي كان يتركه بشعره على النفوس في عهده الإسلامي كان أكثر مما تركه في عهده الجاهلي، وإن كان شعره قد اشتمل في العهد الجاهلي على روائع عديدة مما له سهم كبير في رفع مكانته بين الشعراء، ولكن دوره الشعري في العهد الإسلامي هو الذي بلغ به إلى مكانته الشعرية الخالدة التي بلغها، ولو لم يكن ذلك لكان واحدا من عشرات الشعراء الذين عُرفوا بالإحسان الشعري في العهد الجاهلي… ثم إن الإسلام هو الذي حمله على اعتصار قريحته في مجالات جديدة، واستخراج اللآلئ من الشعر الرقيق الرصين في موضوعاته، وكان ذلك إضافة مثرية إلى عدد من قصائده البديعة الرائعة التي قالها في عهده الجاهلي في مدائح ملوك غسان والحيرة، وبخاصة قصيدته اللامية التي نالت الإعجاب والتقدير العظيمين، وقررت مكانته الشعرية بين الشعراء. ولكن قصائده في العهد الإسلامي وهي قصائد مصطبغة بالصبغة الإسلامية المحافظة، وخاصة قصائده في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي ممتازة بالروعة والإجادة ودقة الوصف رغم تقيده بالإطار الإسلامي للشعر، وهناك فرق كبير بين أن يقول الشاعر ما يقول بدون تقيد بإطار وبالتقيد بإطار، فإذا لم تضمحل جودته مع التقيد كان أبلغ وأبرع ممن يجيد وهو حرّ وغيره مقيّد، ويدلّ على ذلك أنه هجا قريشا ولم يصب هذا الهجاء ابن قريش العظيم محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي). 83
وأنا أشهد أني عاشرتُ حسان بن ثابت في شعره زمنا طويلا، وأزعم أنني قرأت أكثر ما كتب عنه، من كتب مستقلة، مثل ما كتب د. محمد الطاهر درويش، ود. إحسان النص، إضافة إلى الكتب العامة التي عرضت للشعر الإسلامي في عهد النبوة، وكلها عرضت لموقف الإسلام من الشعر، وقضية ضعف شعر حسان بن ثابت بخاصة، فما رأيت عند أحد من الأنصار والخصوم على السواء حجة أبلغ، ولا منطقاَ أسدّ، مما كتبه الشيخ محمد الرابع رحمه الله تعالى. هذا على الرغم من أنه لم يركب التعقيد في سوق الحجج، ولا الرهبة في إصدار الحكم، لأنه كان مقتنعا كل الاقتناع بما يقول، وكان أمام قضية يعلم أن كسبها هو كسب للأدب الإسلامي، وهو قد كسَبها بكل تأكيد، إن كان حكمنا يقوم على الإنصاف.
وأخيرا وقف المؤلف عند أمر جلل، وهو فتح شعراء الإسلام لأبواب جديدة في الشعر: 80، ومنها التسامي بالحب الذي كان غرضا شائعا في الجاهلية، يصب في قالب “الغزل”، ويحصر نفسه، غالبا، في التغني بمحاسن المرأة الجسدية، فقد انتقل الحب من صورته الإباحية والشهوانية، إلى حب الخير في الآخرة، وحب الله ورسوله. وحتى في باب الغزل، أبقى على مكارم الأخلاق التي كانت في الجاهلية، لأنها أخلاق إنسانية، تستريح إليها الفطرة الإنسانية، وذلك تطبيقا للحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو هريرة: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
ووجدنا في الإسلام من الغزل العفيف ما تخضع له الأعناق، مما فتح الباب واسعا أمام الغزل الرمزي، الذي ارتقى إلى درجات سامية من الفن الرفيع. وعندنا من ذلك غزل حميد بن ثور الهلالي، الصحابي، القائل:
أبى الله إلا أن سرحة مالك
على كل أفنان العضاه تروق
وقد كنى عن المرأة بالسرحة، طلبا للعفة.
وقد تطور شعر الحب إلى أن أخذ صورة هذا الشعر الذي يتغنى بحب الله ورسوله، واتخذ صورا عديدة، عن شعوب إسلامية كثيرة، ومنها المديح النبوي، والشعر الإلهي الذي بلغ ذروته مع شعراء التصوف.
وهنا، لم يفت المؤلف أن يشير، ولو باللمح العابر، إلى الأدبين الإسلاميين، الأوردي والفارسي، وذلك عند الحديث عن غرض شعري مشترك بينهما، ألا وهو المديح النبوي، الذي هو غرض جديد، ليس في الشعر العربي فقط، بل في شعر الشعوب الإسلامية قاطبة.
فإلى جانب أغراض شعرية جديدة ابتكرها الشعراء الإسلاميون، كان هناك أغراض تقليدية، طوروها، وأهمها المديح الذي كان غرضا شائعا في الجاهلية، واستقل منه غرض شريف، وهو المديح النبوي.
وحديثه عنه هو حديث أديب خبير، وناقد بصير، بحيث يبرز لنا نشأته، وتطوره، وخصائصه، وكيف أنه استفاد من أغراض أخرى غير المديح، إلا أن امتصّ منها ما يناسبه، وصرف النظر عما يجافيه.
يقول الشيخ رحمه الله تعالى: (وبجانب ما ابتكره الشعر الإسلامي من أبواب جديدة للشعر ونوّع بعض أغراضه الرائعة تنويعا، منه تنويعه للمديح، وابتكار نوع منه هو المديح النبوي، الذي سار في الناس على مر العصور والأزمان كنوع شعري بذاته، وسمّي بالنبويات بالغربية، وبالنعت، بالفارسية والأوردوية، ونبغ فيه طائفة من الشعراء، ونالوا تقديرا بالغا منهم في هذا النوع، وهذا النوع الشعري الجديد امتاز بجمعه لخصائص النسيب الرقيق بالمديح البليغ، واجتمع فيه التعظيم مع الحب، تعظيم لا كتقديس لأن التقديس لله وحده، وحب لا كحب النساء لأنه مجال الغرائز الساقطة والخواطر السافلة).88
ثم يذكر انتقال هذا الغرض من الشعر العربي إلى الشعوب الإسلامية الأخرى، فيقول: (ظهر هذا النوع الشعري في شعر الشعراء المخضرمين ثم استمر بعده في التاريخ، في الشعراء المسلمين، وفي لغات الشعوب الإسلامية الأخرى كذلك، ولا يزال إلى اليوم).
هذا ومن نظرات المؤلف النقدية الحصيفة، أنه تعرض لقضية شعر الخلفاء الراشدين، ثم شك في نسبة كثير منه إليهم على الحقيقة، وهو القول الصواب.
والخلاصة أن هذا الكتاب، غزير المادة، بليغ العبارة، قوي الحجة، يغني عن غيره في موضوعه، ولا يغني عنه غيره.
والحمد لله رب العالمين.