بين العلم والعقل في حياة الإنسان!
14 مايو, 2023ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
19 سبتمبر, 2023وغرس طاب غارسه فطابا
سعيد الأعظمي الندوي
حُلم حلُم به أستاذنا رحمه الله، وفكرة ساورت ذهنه، وأمر انتابه، وأصبح همه الوحيد وشغله الشاغل، فلا يقر له قرار، فكان يعيش في هذه الفكرة، ويتمني تحقيقها علي أرض الواقع، هي تعليم اللغة العربية لطلاب المدارس الإسلامية، حتي يتمكنوا من فهم كتاب الله تعالي وسنة رسوله، ويستطيعوا إبلاغ دعوته إلي الناس كافة في صورة إصدار صحيفة عربية علي لسان الأطفال والناشئين في اللغة العربية، وكان هذا الأمر سرًا، لا يعرفه أحد من الناس سوي أنا وأستاذنا رحمه الله تعالي، وقد حصل رحمه الله لهذه الصحيفة علي ترخيص رسمي من الحكومة الهندية، باسم صحيفة “الرائد” التي تصدر في كل خمسة عشرة يوم بإذن الله تعالي.
بدأت سلسلة جمع المواد والأخبار لهذه الصحيفة، وقد ساهم في هذا الأمر طلاب السنة النهائية لدار العلوم لندوة العلماء آنذاك، وهم أمناء النادي العربي والمسئولون عنه، أمثال الأستاذ شفيق الرحمن الندوي والأستاذ تقي الدين الفردوسي والأستاذ ضياء الحسن الندوي والأستاذ غلام الجيلاني الندوي والأستاذ إقبال أحمد الأعظمي الندوي البختاوري، وكانت طباعة هذه الصحيفة في مطبعة تنوير بلكناؤ، وكان كاتب هذه الصحيفة المقرئ عليم الدين الذي يحمل مهارة في الكتابة الفنية. حينما تمت طباعة هذه الصحيفة، وقدمت نسختها الأولي إلي سماحة شيخنا الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي، فكان ذلك مفاجأة سارة له، فهنأ رئيس تحريرها أستاذنا الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي والعاملين معه علي إصدار هذه الصحيفة الطلابية لتعليم اللغة العربية للناشئين، وذلك عام 1959م.
كان إصدار صحيفة الرائد نواة وبذرة لتعليم اللغة العربية، وقد أخرجت هذه النواة شطأها، واستوت علي سوقها، وأثمرت ثمارًا يانعة جنية في مدة قصيرة، وقد أعدت جيلا، بل أجيالا للناطقين باللغة العربية وكتابها، وكانت حاجة الساعة، لأنها لا توجد صحيفة في شبه القارة الهندية تنهج منهجها وتسير سيرها، فأقبل عليها الطلاب بكل شوق ورغبة، فكانوا يطالعونها ويدرسونها بنهامة علمية وأدبية، وكانوا يقدمون فيها مقالاتهم وأخبارهم المترجمة من الأردية والإنجليزية إلي العربية، وتعليقاتهم، فتنشر هذه المقالات بالأقلام الواعدة، وكانت باعثًا علي حفز الهمم وشحذ العزائم.
والجدير بالذكر أن مجلة “البعث الإسلامي” قد صدرت قبل صحيفة الرائد بخمس سنوات، عام 1955م، وكان أسلوبها علميا ودعويا. ولاتزال تصدر بحمد الله وتوفيقه محتفظة بروحها وأصالتها، وهي في عامها التاسع والستين. وكان أستاذنا رحمه الله يكتب فيها مقالات أدبية وعلمية.
هذه المأثرة اللغوية التي يتصف بها أستاذنا الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي كانت ولا تزال بمثابة “إنجازات عملاقة”، فكان أمة في رجل، وكانت صحيفة الرائد ليست عنده كجريدة تصدر وتنشر من مدرسة من المدارس العربية، بل كانت تحمل عنده فكرة جامعة لتعليم اللغة العربية، ومنبرًا صادقًا لنشر الفكر الإسلامي، ومدرسة صحفية لتربية الأجيال الناشئة، كما كانت همزة وصل بين العرب والعجم لتبادل الأفكار والاتجاهات البناء ة، ولا شك أن هذه الأهداف قد تحققت في هذه المدة بأكمل صورها وأشكالها، وكل ذلك بجهود واعتناء أستاذنا الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله.
هذا في جانب، وقد رأي أستاذنا الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي أن طلاب المدارس الإسلامية لا يتقنون كتابة المقالات العربية، وانهم ضعفاء في التعبير وإجادة الفكرة السديدة في صورة قشيبة، حتي انهم لا يتمكنون من ترتيب المقالات حسب العناصر المرسومة، وكان في ذهنه إعداد أجيال في هذا المجال، وتجهيز كوادر أدبية لنشر أدب القرآن والسنة، ففكر وقدر، ثم شاور كبار الأدباء في الهند، ولا سيما خاله العظيم، ومربيه الجليل الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله تعالي، حتي جاء هذا الاقتراح في ذهنه أن يؤلف كتابا، يبين أصولا وآدابا للتدريب علي الكتابة العربية، فألف كتابه القيم حول الموضوع باسم: معلم الإنشاء (الجزء الثالث)، ولا شك أن هذا الكتاب هو تحفة أدبية ولغوية لطلاب اللغة العربية، فان هذا الكتاب قد بين أمام الطلاب كيف يجعلون الجمل صغيرة، وكيف يجعلونها كبيرة، ثم كيف يلخصون المقالات والكتابات الطويلة، كما يضع الكتاب أمامهم النقاط حول إعداد المقالات حول عناصر أربعة: المقدمة، والافتتاح، وصلب الموضوع، والاختتام. وإذا قسم الطالب عنوان المقال في ضوء هذه العناصر الأربعة يسهل عليه إعداد المقال، وترتيب المواد بكل يسر. وهذا الكتاب من مقررات المدارس الإسلامية العربية، ولا سيما في دار العلوم لندوة العلماء، وقد ألف من قبل الجزئين الأول والثاني لمعلم الإنشاء الأستاذ عبد الماجد الندوي زميل الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي، وهما يشتملان فقط علي صياغة الجمل المفيدة والتامة، لكن لا يعلمان طرق الكتابة والتأليف.
فإذا ربطنا علاقة هذا الكتاب بصحيفة الرائد، فكان هذا الكتاب مفتاحًا للطلاب في تعليم الكتاب العربية والمقالات الإسلامية، انهم يتعلمون من هذا الكتاب أصولا وآدابًا للكتابة العربية، ويطبقونها في المقالات التي يعدونها لهذه الصحيفة، إن دل هذا علي شيء فإنما يدل علي أن أستاذنا الجليل لم يحمل مجرد نظرية وفكرة، بل كان يرجو تطبيقها علي أرض الواقع، وكلما حلم بأمر أو رأي رأيا شاور الكبار والصغار وأتي بأمر، ألقي الجميع في حيرة واستغراب.
صحيفة “الرائد” عبارة عن فكرة فكرها أستاذنا الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي، ورأي وجودها ثم استمراريتها وبقاءها إلي هذه المدة المديدة، فكان ذلك يسرُنا ويسرُه ويسرُ جميع الأوساط العلمية واللغوية والأدبية، فإذا لم نتكلم عن أي خدمة لأستاذنا رحمه الله في حياته العامرة بالانجازات والأعمال الجليلة سوي هذه الصحيفة لكان ذلك مفخرة لنا وله، وذخيرة نافعة له في ميزان حسناته. وصدق الشاعر العباسي أبو العلاء المعري حينما قال:
صنائع فاق صانعها ففاقت
وغرس طاب غارسه فطاب
وكنا كالسهام إذا أصابت
مراميها فراميها أصابا
رحم الله منشئ هذه الصحيفة ورئيس تحرير ها الأول، وأدخله فسيح جناته، وجعل الله التوفيق حليف العاملين في هذه الصحيفة، فإنها كشجرة طيبة أصلها ثابت، وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس، لعلهم يتذكرون.