كتاب مهم في جغرافية جزيرة العرب
10 سبتمبر, 2023مساهمة علماء شبه القارة الهندية في التاريخ للأدب العربي: جهود محمد الرابع الحسني أنموذجًا
10 سبتمبر, 2023قراءة في تقديم الشيخ محمد الرابع الندوي لكتاب “رسائل الأعلام”
شمس الدين درمش – السعودية
عُنِيَ الشيخ محمد الرابع الندوي (رحمه الله تعالى) في كتاباته بالأدب الإسلامي، وهو أمر بدهي، وتحصيل حاصل من مثله، فقد نشأ في بيئة إسلامية وعلمية وأدبية، وصحب أعلام الأدب الإسلامي، وفي مقدمتهم سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي (رحمه الله تعالى)، ووضع مناهجه، وعلَّم مقرراته في ندوة العلماء، بل دبَّج فيه مقالات قيمة، ثم أخرجها في كتب قيمة مفيدة.
وقد تيسر لي الاطلاع عن كثب على بعض هذه المؤلفات، ومنها: “الأدب الإسلامي وصلته بالحياة مع نماذجه لصدر الإسلام”، و”أضواء على الأدب الإسلامي”، و”الغزل الأردي.. محاوره ومكانته في الشعر”. وقد كتبت تعريفاً بكتابه الأخير نشر في العدد (117) من مجلة الأدب الإسلامي، في باب المكتبة، ونشر أيضًا في مجلة الرائد الصادرة من مكتب رابطة الأدب الإسلامي لشبه القارة الهندية. وعنوان الكتابين الأولين يفصحان عن مضمونهما المباشر في الأدب الإسلامي، والحديث عنهما حديث مباشر يمثل تعريفاً بتفاصيل الكتابين، وسيكون – إن شاء الله – في وقت آخر.
إن الأديب الإسلامي الذي يتشرب روح الإسلام، ويصير في حياته كما في قوله تعالى: “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” (الأنعام:162)، هذا الأديب ستكون كل كتاباته وإبداعاته نابعة من ظلال هذه الآية الكريمة، وسيلمس ذلك كل قارئ لكتاباته الأدبية المباشرة، وغير المباشرة، كما يسري الماء في نسغ النبات الأخضر، وكما يسري الدم في شرايين الإنسان الحي.
ولا غرو؛ فإن الشيخ العلامة الداعية الأديب محمد الرابع الندوي من هذا الطراز من الكتاب. وفيما يأتي نظرة في تقديمه كتاب “رسائل الأعلام” للشيخ أبي الحسن الندوي، نرصد من خلاله عنايته بالأدبية فيما يكتب ويقرر؛ فضلًا عن الإسلامية التي هي روح كتاباته.
* * *
يقرر الشيخ محمد الرابع في بداية تقديمه أدبية الرسائل، فيقول: “إن الرسائل من أبرز النماذج الكتابية التي يتجلى فيها التأثير والإمتاع. فقد يتخذها صاحبها ذريعة لنقل تأملاته وانفعالاته النفسية، وتكون ناجحة في إصابة الغرض عندما تكون طبيعية غير متكلفة” (ص7)، فيقرر في هذه العبارات بعض أهم أسس الأدبية، وهي التأثير والإمتاع، والتأمل والانفعال النفسي الذي يعبر عنه كثيراً بالتجربة الأدبية.
ثم يعود بنا إلى تاريخية أدب الرسالة، فيقول: “ويبدأ تاريخ الرسائل القوية في اللغة العربية منذ الصدر الأول، فهناك مجموعة من رسائل [يتصل] سنديًّا [إلى] علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي مع كون طائفة منها مشكوك في نسبتها إليه، ولكن الذي لا يشك فيه أن منها ما يبلغ أيضًا من الجمال الأدبي والتأثير النفسي إلى الدرجة العالية” (ص8). فالشيخ محمد الرابع هنا يؤكد أدبية الرسائل، وسماتها الرئيسية.
ويشير إلى تنوع مجالات الرسائل من سياسية واجتماعية وإخوانية فردية، ويقول: “وتقتصر قوة الرسالة الأدبية على الانفعال النفسي لكاتبها في الغرض الذي يكتب لأجله، وعلى رعايته للحالة النفسية للمرسل إليه، وفي كل الأحوال كان لا بد للكاتب أن يراعي الفصاحة في كلامه” (ص8).
فالرسالة في رؤية الشيخ قطعة أدبية، أو تجربة أدبية ينبغي أن تتضمن عناصر الأدب الرئيسية من الانفعال العاطفي، ومن شروط الفصاحة حتى تؤدي الغرض الذي كتبت من أجله.
وبعد أن يستعرض أسماء كبار كتاب الرسائل في التاريخ الأدبي بدءاً من رسائل عبد الحميد الكاتب وانتهاء بأبي العلاء المعري، يقول: “وهذه الرسائل كلها بأنواعها المختلفة مادة كبيرة للمتعة الأدبية للقراء والدارسين”.
ويستدرك على هذه الرسائل وحدة النمطية، فيقول: “إذا قرأت رسالة منها فلا تقرأ بعدها إلا شقيقتها وأختها إلى آخر المجموعة، وهذا الشكل من العمل الرسائلي يخلو من التنوع الفني، والتنوع النفسي كذلك، فكانت الحاجة ماسة إلى أن يكون بين أيدي القراء مجموعات للرسائل المتنوعة الأسلوب بتنوع كتابها، وهو ممكن إذا راعينا وحدة المرسَل إليه لا وحدة الكاتب، أو تركنا الوحدة وجمعنا الأشتات بشريطة أن يكون كتابها من أهل الأقلام البليغة، وإلا لم تبلغ هذه الرسائل إلى درجة النفع والإمتاع”، (ص9). وهنا يدهشنا فضيلته في الإصرار على أدبية الرسائل، وشروط هذه الأدبية، ويكشف عن عمق تشرُّبه الأدبيةَ في رؤيته وكتاباته تنظيراً وتطبيقاً.
ثم ينقلنا فضيلته من هذا التقديم التاريخي والتأطير التنظيري لأدب الرسائل إلى النموذج الأدبي الجديد الذي سيعرضه في هذا الكتاب “رسائل الأعلام”، وهي رسائل سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي وجهها إلى عدد كبير من الأعلام الذين خاطبهم في موضوعات متنوعة بأسلوب تحققت فيه سمات الأدبية، فيقول: “فقد كانت لديه بتأثير ارتباطه بشخصيات متنوعة كثيرة في العالم الإسلامي رسائل كثيرة يوجد عليها طابع أخوي، وطابع أدبي، وطابع فكري معاً”، (ص10).
ويذكر لنا أن الشيخ أبا الحسن الندوي هو الذي اختار من رسائله هذه المجموعة لتوفر سمات الأدبية فيها، فيقول: “فرأى أن يختار منها ما يحتوي على الإفادة والإمتاع أكثر، وينشرها للراغبين في مثل هذه النماذج المفيدة؛ ليطلع الطلبة على الأساليب اللائقة لكتابة الرسائل، فتغذي ملكتهم في إبداء الخواطر، ومخاطبة الأصدقاء، وأهل الفكر والأدب، كما يطلع بها أهل العلم والدراسة على اتجاهات وآراء وأفكار للشخصيات النابهة المختلفة، فيستنتجون منها نتائج ذات قيمة علمية ودينية”، (ص10).
ونجد في هذا الوصف لاختيار العلامة الندوي من رسائله وضوح الرؤية لوجهي العمل الأدبي الشكلِ والمضمونِ، وغائية العمل الأدبي، وأنه عمل هادف فيه إفادة وإمتاع، وليس الإمتاع وحده حسب مذهب الفن للفن.
ويعطي فضيلة الشيخ محمد الرابع وصفاً لرسائل هذه المجموعة فيقول: “نجد في رسائل هذه المجموعة تنوعاً لا نجده في مجموعات الرسائل الأخرى، وذلك لأن صاحب هذه المجموعة نفسه يمتاز بالتنوع العلمي والأدبي، ويلتقي بأصحاب الرسائل من أصحاب المجالات العلمية والأدبية المختلفة على تنوعهم بكل واحد منهم في نوعه، أن فضيلته أديب بالعربية والأردية، وعالم من العلماء المعروفين، ومفكر وداعية…، وبذلك أصبحت المجموعة حديقة ذات ألوان، وروائح مختلفة، لا نجد هذا النموذج في مجموعات الرسائل الأخرى، وهي ميزة تمتاز بها هذه المجموعة، ويزيد ذلك من قيمتها وأهميتها” (ص11 – 12).
وعن حجم الرسائل المنتخبة وعددها في كتاب “رسائل الأعلام”، يقول: “كما أنها نخبة من كثير، لأن الرسائل التي نجدها لدى فضيلته – أي الشيخ أبي الحسن الندوي – تناهز في عددها ثلاثمئة رسالة، اختار منها فضيلته نحو سبعين رسالة بالاعتناء بجوانب الإفادة والمتعة معاً…، وتمتد المساحة الزمنية لذلك إلى سبعة وثلاثين عاماً”، (ص12 – 13).
إن تقديم فضيلة الشيخ محمد الرابع لكتاب “رسائل الأعلام” لسماحة الشيخ أبي الحسن الندوي؛ كشف لنا عناية الشيخين بالأدب شكلاً ومضموناً، وبدايةً وغايةً، فالكتابة عمل إبداعي يصبغه كاتبه بلون أدبي مفيد وممتع، يضع فيه عقله وروحه وعاطفته.
وهذا التقديم يدعونا إلى قراءة هذه الرسائل قراءة أدبية متأنية وعميقة للكشف عن جانب آخر من جوانب الأدبية في كتابات الشيخ أبي الحسن الندوي، لم يتعرض له أحد فيما أعلم، رغم الكثير الذي كتبه عنه.
فرحم الله سبحانه؛ الشيخين أبا الحسن الندوي، وخليفته محمد الرابع الندوي، وجعل ما تركاه من كتب علماً ينتفع به إلى يوم القيامة.