ملامح شخصية الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي
9 سبتمبر, 2023هكذا أحببناه
10 سبتمبر, 2023الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ومنهج تدريسه في اللغة العربية
محمد خالد ضياء الصديقي الندوي(*)
شخصية متعددة الجوانب:
كان الشيخ العلامة محمد الرابع الحسني الندوي – رحمه الله – أحد أفذاذ العلماء الربانيين، الذين أنجبتهم الأمة الإسلامية الهندية في القرن العشرين، وقدجمع الله في شخصيته من الفضائل والمواهب ما لم تجتمع عامةً في شخصيةٍ واحدةٍ، فشخصيته كانت تحمل أبعاداً كثيرةً ونواحيَ متعددةً؛ فكان العلم والنبوغ، والفكر والفن، والأدب والنقد، والتعليم والتربية، والورع والتقوی، والعفاف والغنى، والتواضع والعجز، والاتزان والوسطية، والفهم والفراسة، والحكمة والبصيرة، والكرم والشرف، والوقار والرزانة، والحلم والأناة، وحسن الصورة والسيرة……. كل ذلك اجتمع في شخصيته اجتماعاً جميلاً، جعلها في العهدالأخيرمن أبرز العلماء وأحب الشخصيات لدى كل طائفةٍ في داخل الهند وخارجها.
ولحياة شيخنا الحبيب جوانب متعددة مشرقة جميلة، وكل جانب من جوانب حياته يجذب القلم إليه لإ لقاء الضوء عليه؛ ولكن كاتب هذه السطور حاول في هذا المقال الوجيز أن يأتي أمام قارئه من جوانب حياته المتعددة بجانبٍ تجلى فيه ذوقُه العلمي والأدبي فحسب، فمن أجل ذلك يُضطرُّ إلى تركيز اهتمامه على هذا الجانب الوحيد.
إن الدراسة العميقة لحياة شيخنا من هذه الناحية تؤكد أن ما قام به شيخنا من أعمال وخدمات، لها مجالات مختلفة ومتعددة؛ ولكن المجال الذي ظهر فيه ذوقه العلمي والأدبي خاصةً، هومجال التأليف والتدريس.
كان ذوقه العلمي والأدبي عالياً جداً، فكل من جلس إلى مجلسه ولو لساعةٍ، امتلأ صدره بالعلم والأدب، فكانت مجالسه الشخصية – أيضًا – لا تخلو من جواهر الأدب ودرر العلم، حتى إنها كانت مشتملةً على النكات الأدبية والكنوز العلمية مما لم يطلع عليها حتى الطالب المجد إلا بعد إمضا ء الوقت الطويل في المطالعة والدراسة.
مجالان ظهر فيهما ذوقه العلمي والأدبي
(أ) مجال التأليف والتصنيف
كان ذوقه العلمي تجلى في شتى المجالات، من الأدب والإنشاء، والصحافة، والتدريس، والتربية، والتوجيه والإرشاد، والتصنيف والتأليف؛ ولكن له ولعاً خاصاً وشغفاً زائداً بموضوع الأدب والقرآن والسيرة، والجغرافية. وله مؤلفات قيمة في العديد من الموضوعات العلمية والدينية والأدبية، نالت إعجاباً وتقديراً لدى الأوساط العلمية والأدبية. وبعض تصانيفه أدخلت في المقررات الدراسية في بعض المدارس الدينية والكليات العصرية في داخل الهند وخارجها.
أسلوبه
أما أسلوبه، فكان سهلاً سائغاً ميسوراً، خالياً من التكلف والتعمد، نافذاًفي القلوب لسحره وجماله وتأثيره. كان شيخنا لايكتب بأسلوبٍ مزدانٍ بالاستعارات والمجازات، والعباراتِ ذات الجزالة والفخامة؛ بل كان يكتب بأسلوبٍ سهلٍ بليغٍ مؤثرٍ، فكان لا يحاول أن يلقي الرعب في قلوب القارئين والدارسين؛ بل كان يحاول أن يؤثر فيهم أيما تأثيرٍ بلهجته الصافية، ولسانه البليغ الصريح، وفكرته النيرة. ومثل هذا الأسلوب (السهل الممتنع) لا يقدر عليه إلا كاتب بارع، وذواطلاع واسع على علم النفس.
(ب) مجال التدريس
أما مجال التدريس، فهو الذي تجلى فيه ذوقه العلمي والأدبي أكثر فأكثر، فقد أبدع فيه وتفرّد، وفاق معاصريه وبذّ أقرانه، فكان من أنجح المدرسين وأحبهم لدى التلاميذ، فالطلاب كانوا يتدافعوں في حصته (وهو يلقي الدروس والمحاضرات في الجامع الكبير لندوة العلماء)نحوالصفوف الأمامية، مشرئبين الأعناق إليه، شاخصين الأبصارنحوه، حاضرين أذهانهم، مستعدين للأخذ من علمه الغزيز وذوقه الرفيع.
لقد وهبه الله سبحانه وتعالى القدرة الفذة العجيبة على التعبير عما في ضميره، ونقل فكره وذوقه إلى الطلاب والدارسين نقلاًجميلاً. فكان يتعرف على عقلية الطلاب ومدى إدراكهم جيداً، ولذا لا يقدّم درسه بأسلوبٍ يسمو إدراكهم؛ بل يلقي الدرس بأسلوبٍ يجعل فهمَه وتلقُّفَه ووعيَه سهلاً عليهم.
منهج تدريسه في الأدب العربي (نثراً وشعراً)
* كان من عادات شيخنا أنه كان يستخدم كثيراً القطع الصغيرة أثناء الدرس التي يجوز أن تُعدَّ من أنفَسِ الذخائر الأدبية، والتي تزيد الطلاب علماً وأدباً، والتي تشير في نفس الوقت إلى أن مثل هذه النوادر لا تُحصلُ بسهولةٍ، فيجب على الطالب أن يبحث عنها في المصادر والمراجع والقواميس للمزيد من المعلومات والتفاصيل. وإليكم أمثلةً من هذا القبيل:
فقال مرةً وهو يلقي الدرس: “اللغة”: هي معرفة المعاني التي تحملها الألفاظ، والأدب عبارة:عن معرفة كيفية الألفاظ وحالتها”.
وقال: “إ ن للأدب صلةً قويةً بالثقافة، فالثقافة تستمد قوتها من الكيفيات والوجدانيات”.
وقال مبيناً الفرق بين العلم والفن: “العلم هو قوة التفكير، والفن هو قوة التأثير والتأثر”.
وقال: “الطريق الموصل إلى “الحقيقة” هو العلم، والطريق الموصل إلى “المجاز” هو الأدب”.
وقال مرةً: “يستطيع الأديب أن يعبر عن الكيفيات والوجدانيات التي قد لا تعتريه، لأنه خبير ومطلع على مواطنها، أما غير الأديب فلايمكنه أن يأتي بالكيفيات التي لاتدور في نفسه”.
هذه الأمثلة وهي غيض من فيض، توضح أن مثل هذه الكلمات الأدبية الذهبية والنوادر العلمية النفيسة _ التي هي صغيرة في القامة وكبيرة في القيمة _لا يأتي بها بسهولةٍ من هذا القدر إلا ماهر بالعربية ومطلع على مصادر الأدب العربي.
* ومن طرق تدريسه للشعر العربي أنه يتحدث أولاً بشكلٍ مسهبٍ عن العصر الذي يعيشه الشاعر، أتذكر جيداً أنه _ ونحن نقرأ عليه من كتاب”مختارالشعر العربي” ما يمثل العصر العباسي _ لما بدأ الدرس للشعر العربي، تحدث أولاً عن أدب العصر العباسي وخصائصه، وتحدث كذلك عن التغييرات التي طرأت على هذا العصر، ثم ذكر العوامل التي ساعدت على ازدهار الأدب (شعراً ونثراً) في هذا العصر بشكلٍ ملموسٍ، ثم بين بشيء من التفصيل كيف نشطت الحياة الأدبية نشاطاً كبيراً في هذا العصر؟ وكيف استفاد هذا العصر من الحضارات الأخرى كالفارسية واليونانية؟ وماهي مظاهر التجديد في الأدب؟ وماهي اتجاهات الشعر في هذاالعصر؟ وماهي السمات الخاصة التي تميز الشعراء العباسيين عن الشعراء الذين سبقوهم؟ وماأشبه ذلك.
ثم تحدث عن الشاعر أبو تمام الذي يعد من ألمع الشعراء في العصر العباسي، فقال: “إنه عاش في القرن الثالث الهجري، وكان على رأس الطبقة الثانية من المولدين، وقد شق له طريقاً جديدةً آثر فيها تجويد المعنى على تسهيل العبارة، وكان أول من أكثر من الاستدلال بالأدلة العقلية والكنايات الخفية”. ثم تحدث عن أصله التي انتمى إليه، وعن بيئته التي عاشها وعاصرها، وعن ثقافته التي حصلها، وعن مكانته المرموقة التي استحقها بجدارة، وعن سماته التي امتاز بها على غيره، وعن شعره الذي جمع بين جزالة الأ لفاظ وابتكار المعاني، وبين التفنن في الاستعارت والتشبيهات وتوليد المعاني الجديدة.
ثم عاد، فتحدث عن الشعرالذي يريد أن يدرّسه يشرح معاني المفردات الصعبة للبيت، ويحلل بيتاً بيتاً؛ بل لفظاً لفظاً تحليلاً لغوياً، وأدبياً، وبلاغياً، ونحوياً، وصرفياً، مع الإشارة إلى خلفية الأشعار والمناسبة التي قيلت فيها، وكل ذلك مستعيناً بموهبته الفطرية وقدرته العجيبة على التدريس ونقل الدروس إلى الطلاب بأسلوبٍ سهلٍ سائغٍ ميسورٍ، ورائعٍ أخاذٍ جميلٍ.
* كان شيخنا أثناء درسه كثيراً ما يأتي بأمثلةٍ خارجيةٍ من الكتاب، وذلك تقريباً للدرس إلى الأذهان وتسهيلاً له على الطلاب، فمثلاً إنه لما وصل إلى درس “عناصر الأسلوب الأدبي” وهو يدرسنا كتابه المعروف: “الأدب العربي بين عرض ونقد”، قال: إن الأسلوب الأدبي يشتمل على أربعة عناصر: العاطفة، والفكرة، والخيال، والصورة اللفظية، ثم شرحها شرحاً وافياً كافياً بقوله: “هذه العناصرالأربعة دعائم العمل الأدبي؛ ولكن لايكفي لتحقق الأسلوب الأدبي أن توجد فيه هذه العناصر فحسب؛ بل يجب رعاية المقدار في كل منها كذلك، فإذ ازادت العاطفة أونقصت الفكرة، أوغلب الخيال على الصورة اللفظية، لايستحق هذا الأسلوب أن يدعى أسلوباً أدبياً، فالأسلوب الأدبي يكتمل حينما توجد في الكتابات العناصرُ الأربعة بمقدار مناسب دون نقصٍ وزيادةٍ. ثم أتى بمثالٍ خارجيٍ، وهو مثال “الشاي “موضحاً: “الشاي كالأسلوب الأدبي – أيضًا – يشتمل على أربعة عناصر: الماء، والحليب، والسكر، وورق الشاي، فالشاي كما لا يصنع إلا بامتزاجه مع هذه العناصر، كذلك يجب رعاية المقدار المناسب في كل منها، فإذا نقص أحد منها أوزاد، لايكون الشاي جيداً، ولا يحظى بالاستحسان والقبول لدى من له ذوق عالٍ للشاي. تأمل، ما أجمل هذاالمثال، وما أليق بالمقام!!
* كان أستاذنا – رحمه الله – إذا دخل ليلقي الدرس، طلب من أحد تلامذته أن يقرأ عليه النصوص، فإذا أتمها التلميذ، بدأ الدرس، فوقف أمام كل لفظٍ يحلّله ويجزّئه، فإذا شرح معنى مفردة أوكلمة، تقتضي أن يذكر ضدها أيضًا، ذكر، مثلاً لما بين معنى كلمة “الحطب”، ذكر ضدها”الخشب”.
وكذلك يبين فرقاً بين المترادفات إذا كان، فقال في معرض ذكر اللعب واللهو: “اللعب”: الانشغال بشيء فيه نوع من الفائدة، و”اللهو”: عمل لايفيد ولاينفع. وفي ضمن البر والصلة: “البر” يتعلق بالإحسان إلى الوالدين، و”الصلة” تتعلق بالإحسان إلى الأقارب.
وكذلك إذا وجد الجانب البلاغي في بيت، أشارإليه، فقال بعد شرح هذا البيت:
عداك حر الثغورالمستضامة عن
برد الثغور وعن سلسالها الحصب
في هذا البيت جمع الشاعر”الطباق والجناس”.
وكذلك إذااطلع على محاورة عربية، كشف عنها، فقال وهو يشرح هذا الشطر من البيت: “ولى وقد ألجم الخطي منطقه “: هذه محاورة عربية، استخدمها الشاعر في شعره بلباقة، وهي تستعمل بالعربية بمناسبة شدة التحير والاندهاش.
* ومن مزايا تدريسه أنه يحترم أسئلة الطلاب، فإذا وجّه إليه أحد منهم سؤالاً، لم يغضب؛ بل استمع إليه استماعاً، وعُني به عنايةً لائقةً، ثم أجاب عنها جواباً مقنعاً وهو في سرور وارتياح؛ وربما يقلب سؤال الطالب على وجوهه كلها حتى يجد له مناسبةً في الموضوع، تشجيعاً وتقديراً منه له. وهذه خصيصة نادرة قل وجودها في هذاالزمان.
* وبم أن ذوق شيخنا الأدبي كان رفيعاً جداً، فلذا يحاول أثناء الدرس أن يغرس في تلامذته التذوق السليم للنصوص الأدبية، فيركز عنايته على تعليمهم رموزَ اللسان وأسرارَ البلاغة والبيان، وأحياناً يرشدهم إلى مطالعة الأدباء والكتاب المرموقين كأمثال: المنفلوطي، والطنطاوي، والرافعي، والعقاد، وأحمدأمين، والشيخ أبي الحسن الندوي وغيرهم ممن أثروا المكتبة الأدبية بمؤلفاتهم النافعة وكتبهم القيمة، حتى يستقوا منهم اللغة والأدب والأسلوب، فَكُتُبُ هؤلاء وأمثالهم نماذج قوية رائعة للنثر المرسل السلس، والتعبيرات الجميلة الفصحية المؤثرة، وصور زاهية للأسلوب الأ دبي، ولها دور كبير في إنشاء الذوق السليم في النشء الجديد.
هذا شعاع من الضوء على منهج تدريس شيخنا في اللغة العربية، يدل على أنه كان على المكانة المرموقة والمحل الرفيع من الدرس والإ فادة، وأنه كان من أنجح المدرسين، وأحبهم لدى تلامذته، وأحرصهم على إنشاء جيلٍ يعشق العلم والأدب، ويساهم في نشاط الحركة الأدبية، ليصان قدر اللغة والشعر والأدب، فشيخنا كان حقاً أستاذاً بكل ما تعنيه هذه الكلمة جلداً وصبراً، وإخلاصاً، ونزاهةً، ووفاءً للعلم.
رحم الله شيخنا وأستاذنا رحمةً واسعةً.
(*) الأستاذ: بالمدرسة المعينية عظمت العلوم، صاحب غنج، مظفر فور، بيهار.