العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي: كلمات ونظرات

ما أعظم الحرمان وما أفدح الخسران…..!
9 سبتمبر, 2023
ملامح بارزة لشخصية الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله
9 سبتمبر, 2023

العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي: كلمات ونظرات

بقلم: محمد الوالي العلوي، المغرب

في بداية الثمانينيات من القرن العشرين الميلادي، وفي إحدى المدن الصغيرة في جنوب المغرب العزيز، وأنا في شرخ الشباب، وقفت أمام واجهة إحدى المكتبات الصغيرة أتأمل معروضاتها، فلفت نظري كتاب عنوانه: “إلى الإسلام من جديد” للعلامة أبي الحسن الندوي، فأثار العنوان فضولي وتساؤلي – ولم أكن إلى حدود ذلك اليوم قرأت شيئا ذا قيمة تذكر – فاشتريته بدراهم لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. وبدأت أقرأه قراءة مسترسلة، فوجدت نفسي أمام أسلوب ندي لم يكن لي عهد به من قبل، وحقائق عن الإسلام وأهله، وواقعه وآفاقه، تعرض عرضا رائقا شيقا مؤثرا، سلسا شجيا، يفتح أقفال الفهم المغلقة، حقائق كبيرة، وأخبار جديدة جيدة محكمة، واستشهادات مقتبسة من القرآن الكريم، والسيرة النبوية الزكية، وكتب التراجم والسير وتاريخ الصحابة، وتاريخ الإسلام العام، توضع في محلها، تعزز الفكرة، تجليها وتقويها. وكأنني أسمع عن الإسلام لأول مرة، إنه حديث غير الحديث المعهود، وكلام جديد غير ممل يلمس شغاف القلب. وكنت أقرأ الفقرة وأكرر قراءتها لا أمل أسلوب الشيخ أبي الحسن. واحتفيت بالكتاب احتفاء كبيرا كأنني عثرت على كنز ثمين أو صادفت حبيبا على غير ميعاد، وكنت أغشى صفحاته بين الفينة والأخرى، أختلس نظرات، أقرأ سطورا أو فقرات. وأصبح ”إلى الإسلام من جديد” محط تقديري واهتمامي، وازداد فضولي، وبدأت أرتاد المكتبات وهمي الوحيد أن أعثر على كتاب يحمل اسم “الندوي”. وكنت أظن أول الأمر أن “الندوي” لقب عائلي، وعرفت فيما بعد أنه لقب علمي يحمله متخرجو دار العلوم – ندوة العلماء مؤسسة العلم والعلماء الشريفة العريقة في الهند. وقد أحببت الكاتب والمكتوب، وظللت أتتبع آثار الإمام الندوي وألتقط نتف أخباره المبثوثة في الصحف المصرية والخليجية، وأجمع كتبه من المكتبات حتى تجمع عندي ما نشر له في الديار العربية. وما لبث ذلك الحب الدفين للإمام أبي الحسن الندوي أن تسرب إلى من تربطه بهم رابطة النسب والدم من السادة الحسنية والحسينية في تكية كلان، وطونك، ورائي بريلي، ولكهنؤ وغيرها من أقطار البلاد الهندية، وإلى من تصله بهم صلة العلم والأدب في ندوة العلماء المجيدة، من رفاق دربه، الشيوخ الأساتذة العلماء الأبرار، أشجار الثمار والوقار.

صنائع فاق صانعها ففاقت

وغرس طاب غارسه فطابا

من الرجال المصابيح الذين همو

كأنهم من نجوم حية صنعوا

أخلاقهم نورهم من أي ناحية

أقبلت تنظر في أخلاقهم سطعوا

وكم كنت أنتشي بذكر علماء وأدباء الندوة أو من سار في ركابها وآزرها، وأردد أسماءهم الكبيرة، أمثال: مولانا أبي الكلام آزاد، وحميد الدين الفراهي، وعبد الماجد الدريابادي، ومحمد علي المونكيري، والسيد عبد الحي الحسني، وشبلي النعماني، والسيد سليمان الندوي، والأمير حبيب الرحمن الشيرواني، والدكتور عبد العلي الحسني، ونجله السيد محمد الحسني، وغيرهم من الكبار الأفذاذ وصولا إلى الإمام أبي الحسن الندوي وأبناء أخته الأشقاء الأربعة: السيد محمود الحسن، والسيد محمد الثاني، والسيد محمد الرابع، والسيد محمد واضح رشيد، رحمهم الله، ومن عاصرهم أو جاء بعدهم.

وقد زار الشيخ أبو الحسن الندوي بلدنا المغرب العزيز سنة 1976م، وقضى به أسبوعين ممثلا لرابطة العالم الإسلامي في مؤتمر “رابطة الجامعات الإسلامية” بمدينة الرباط، ودون يوميات تلك الرحلة الطيبة في كتابه: “أسبوعان في المغرب”؛ وقد شاع بين المغاربة وقتها أن من لم يقرأ كتابه: “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” فليس مثقفا. كما زار بلدنا أيضا السيد محمد الثاني الحسني المظاهري الندوي مع ثلة من رجال التبليع والدعوة، وصالوا وجالوا في عدد من المدن المغربية، وقد دون تفاصيل تلك الزيارة في كتابه: “الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي حياته ومنهجه في الدعوة”؛ وزارها أيضا شقيقه السيد محمد الرابع الحسني الندوي ورفقة معه، حضروا وشاركوا في أعمال الملتقى الدولي الثالث للأدب الإسلامي: “النقد التطبيقي بين النص والمنهج، دورة محمد المختار السوسي” بتاريخ 21 – 23 شوال 1421هـ الموافق لـ 16 – 18 يناير 2001م، في كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة ابن زهر بمدينة أكادير، وكانت آخر زيارة قام بها الإمام أبو الحسن الندوي للمغرب سنة 1994م لحضور مؤتمر رابطة الأدب الإسلامي العالمية بمدينة وجدة.

ولم يلبث العلامة السيد أبو الحسن الندوي أن انتقل الى الرفيق الأعلى، فخلفه العلامة الأديب الأريب، السيد محمد الرابع الحسني الندوي، خلفه في العلم والأدب، والتربية والمشيخة ورئاسة الندوة، واستمرت معه السيادة والقيادة والريادة، والأخلاق والتقوى، والصفاء والنقاء، والوقوف على الثغور العلمية والميدانية، والأحوال الشخصية الأسرية الإسلامية، مؤازرا من شقيقه السيد محمد واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله وثلة من الأشراف الحسنيين، والأساتذة العلماء الندويين الأعلام، وعلى رأسهم الشيخ الكبير، الجندي العظيم، الأستاذ سعيد الرحمن الأعظمي الندوي، أستاذ أساتذة الندوة وخادمها، حفظه الله تعالى.

لقد قاد الشيخ محمد الرابع الحسني “ندوة العلماء” بالحلم والعلم، والصبر والحكمة، والحنكة والكياسة، وكان حامل لواء العلم والعمل، ورائد الدعوة والتربية والزهادة والعبادة، كان خير خلف لخير سلف، سار على نفس الدرب القويم، قاد سفينة ندوة العلماء مقبلا لا مدبرا متقدما لا متأخرا، جاهد وإخوانه حق الجهاد. كان حييا حيويا، كرس حياته ونفائسه وأنفاسه للهدف النبيل الأسمى، خدمة العلم والإسلام، والذب عن حياض الدين، وحماية حمى الندوة، وترشيد أبنائها وروادها حتى أسلم الروح لباريها، وسلمت مقاليدها ليد أمينة تؤمن بمبادئها وسياستها، ونهجها العلمي والعملي السليم، وتحرص عليها حرصها على أنفس النفيس.

كنت أرصد مقالاته في صحيفتي “البعث الإسلامي” و”الرائد” فأرى فيها رائحة السلف، وأصالة الرأي، ونجاعة الأسلوب، ودقة المعلومات، وأراها جامعة مانعة.. ولقد كانت فيما مضى تنذر المعلومة وتصلنا بشق الأنفس، وبذل الأنفس، فدار الزمان دورته، وتطورت وسائل الاتصال والتواصل، وتقاربت المسافات، وأصبح كل شيء متاحا، فتوسع مجال المعرفة والاطلاع على ما يدبجه الندويون، وأتيح لنا التعرف على تراث أئمة العلم والأدب في الندوة وغيرها من المدارس الإسلامية الهندية. وأصبح تراث الشيخ محمد الرابع الحسني أيضا متاحا باللغات المختلفة وخاصة لغة الضاد، فإذا هو من الأئمة الفطاحل، من أصحاب الأقلام الطويلة، في التأليف والتصنيف والتحقيق، على خطى أسلافه الأمجاد، كابرا عن كابر. كانت مؤلفاته موزعة بين شتى الفنون، من أجلها ما كتب في السيرة النبوية الشريفة: “سراجا منيرا”، و”جزيرة العرب تاريخيا، ثقافيا وجغرافيا”؛ وقد وصلني الكتاب الأخير من الديار الهندية هدية من أحد الطلبة النبهاء في دار العلوم ندوة العلماء، موقع الإهداء بقلم الشيخ رحمه الله، وقد بلغ الطالب سلامي وحبي وتقديري للشيخ وأسرته الحسنية والندوية، وأخبرني أنه كان سعيدا مغتبطا بذلك، وطلب منه أن يبلغني السلام. وكم كنت مسرورا بما حدث، وبذلك التفاعل والتقدير من الشيخ، وبتوقيعه على صفحة الكتاب القيم. كما يسر الله تعالى أن يجيزني الشيخ – على بعد الشقة وشط المزار – إجازة عامة، عبر الأثير، بعد سماع الأوائل السنبلية والمسلسلات عليه في 22 ذي القعدة 1442م الموافق لـ 02 يوليوز 2021م.

ومن إيجابيات التقدم العلمي اننا أصبحنا نرى رسوم العلماء وشخوصهم وسيماهم، كأنهم حضور بيننا، فنرى في وجوههم سيمياء وأوصاف رجال السلف الصالح كما وصفتها أقلام فطاحلة الأدب والتاريخ، فتجتمع لدينا صورة السمع والعيان، فما ندري أيهما أكثر روعة صورة الصيت والسمعة أم صورة العيان والمشاهدة، فلا والله لا تملك العين أن تكذب ما سمعت الأذن…والحديث ذو شجون.

أما بعد، فماذا يمكن لليراع أن يدبج عن السيد محمد الرابع الحسني، فارس الدعوة والقلم، وارث الأنبياء، سليل الدوحة الحسنية النبوية، ورائد الأسرة العلمية الندوية، جدور ثابتة في الأرض، وفروع سامقة في السماء، مجموع أشتات الفضائل، فارس مضى وترجل، ونجم تولى وأفل، بعد طول سطوع ونبوغ، ارتقى بعد أن أدى الأمانة وبلغ الرسالة، وجاهد في الله حق جهاده…، بدر منير ما زالت الحاجة لمثله ماسة وقائمة لإنارة السبيل، لكن سنن الله في الأكوان ماضية، وأسرار تدبيره جلية وخافية، يبدي ويعيد، ويفعل ما يريد.. “كل يوم هو في شأن”.

هذا غيض من فيض، جهد المقل، حول الشيخ الشريف الكريم المتواضع الجليل، رحمه الله، وطيب ثراه، وبرد مضجعه، وجعل الجنة مثواه، وخلد في الصالحات ذكره.. وجعل البركة والخير في خلفائه الأمجاد على امتداد الآماد.

×