ذكريات وخواطر
9 سبتمبر, 2023هيهات لا يأتي الزمان بمثله!
9 سبتمبر, 2023مدرس مثالي فقدناه
مبين أحمد الأعظمي الندوي
تمر الأيام تلو الأيام، وتمضي الساعات بعد الساعات، ولكن ذكرى شيخنا سماحة الأستاذ السيد محمد الرابع الحسني الندوي – رحمه الله – لا تزال جديدة في أذهاننا، ودموعاً في أعيننا، وحزناً في قلونا، وحديثاً في مجالسنا، بل ربما تتجدد عند ما تصادف الساعةُ ساعاتِه، ساعاتِه لرئاسة الحفلات، وإلقاء الخطب، والتدريس في الصفوف، والنصيحة في المجالس، والمشورة عند الفواجع والوقائع، وأكبر وأحلى من ذلك، ابتسامته عند الرؤية، وطلاقة وجهه عند اللقاء، وبهجته عند معرفة الإنجازات لتلامذته، والاطلاع على مكرمات أصاغره، وما إلى ذلك، مما يوجب علينا أن نأخذ أقلامنا، ونسطر ذكرياته بمداد من الحب، والإخلاص، والتوجع على رحيله، والدعاء له بقلوب كئيبة متحزنة متكسرة. ولكن هل يستطيع أحدٌ أن يغطي جميع جوانبه في عدة سطور؟ لا، وبالطبع! ومن هذا المنطلق، ليس لصاحب القلم إلا أن يأخذ جانباً من حياته، ويكتب حوله، ويقدم أمام قارئيه ما يتعلق به بقدر إمكانه، فالآن! إني أذهب لأُخبر قراء هذه السطور بأسلوب تدريسه كما خبرته، وأُعرِّفهم بطريقة إفهامه كما عرفته.
فمن سعادتي وحظي أنني تلمذت عليه، وتعلمت منه العلم والأدب، وكم كان أسلوب تدريسه أخاذا وجميلا، ونموذجيا مثاليا! قرأت عليه كتابه “جزيرة العرب”، وكتابه: “الأدب العربي بين عرض ونقد”، و”المعلقات السبع” لشعراء الجاهلية. وقد كان الأستاذ يشرح علينا الكلمات، ويفتح لنا ما كان يكون فيها من الغريب والمغلق، وأحياناً يبدأ في تدقيق الكلمات، وشرح معانيها، وبيان جوانبها الأدبية والتاريخية، فإذا تم ذلك، بيَّن معنى العبارة، وما تحمل هي من الدروس والعبر، والأدب والفكر، والعلم والمعرفة. وفيما يلي أذكر بعض الخصائص والميزات التي كان متصفاً بها، والتي يجب أن تكون في المعلمين:
أخلاق المعلم:
فالمعلم يجب أن يكون متمسكاً بمكارم الأخلاق، ناصحَ الجيب ونقيَّ القلب، باسم الوجه عند اللقاء، ورصينا رزينا في منصة الدرس، غير هازل ولا عابس، لا في غرفة الدرس ولا في خارجها، وغير مشدد على الطلاب، كاظماً للغيظ، وعافياً عن المسيئين منهم، مما يحببه إلى تلامذته، ويجعلهم يدنون منه، ويتقربون إليه، ويتشجعون للتعلم منه، ولا يشعرون بأي حرج في المداخلة والإشكال، وكان الأستاذ رحمه الله على ذلك، فكان لا يشدد على الطلاب، ولايؤنفهم، ولايسخر منهم إذا لم يجيبوا عن سؤاله، وإذا سأله طالب عن شيءٍ أجاب عن سؤاله إجابة مفصلة مقنعة، فكان محبوبا لدينا، وكنا ننتظر حصته للتدريس، فإذا حان الموعد أسرعنا إليه، وتسابقنا في الجلوس في الصف الأول. وقد ذكرت في مقالي السابق “رجل في قمة الإنسانية” قصة تدل على ذلك.
الإحاطة بالموضوع واتساع المعرفة:
ويتحتم على المعلم أن يكون على معرفة تامة للموضوع الذي فُوض إليه تدريسه، ويحيط به إحاطة شاملة دقيقة، حتى يبلغ فيه مرتبة الاجتهاد، ويستطيع استنباط النتائج والفوائد، ويجيب عن أسئلة الطلاب التي تتعلق بالموضوع، وكان الأستاذ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله متصفاً بهذه الصفة، وأنا أتذكر جيداً أنه عند إلقاء الدرس على جغرافية العرب ربما بدأ يقدم إحصائيات البلاد العربية والإسلامية على اختلاف السنوات حتى أننا نتعجب منه، وكان يستعرض أحوال البلاد العربية ويتحدث عنها كأنها على مرأى ومسمع منه، بل كأنه يشاهدها بأم عينيه، فإذا تم الدرس، بان الأمر وانكشفت الأحوال.
الإعداد المهني:
ويعني ذلك أن المعلم مهما يكن عارفاً بموضوعه، متضلعاً من مباحثه، وخبيراً بجوانبه، فعليه – مع ذلك – أن يتهيأ للتدريس أولاً بالقلب والقالب، ويستعد له استعداداً كاملاً، ولا يدرِّسه دون الدراسة المبكرة، وإلا سوف يرتبك خلال التدريس، ولا عجب إذا ارتكب بعض الأخطاء. وكان الأستاذ رحمه الله يعرف ذلك، فكان يستعد للدرس، ويتهيأ له، فرأيت عندما كان يُدرسنا المعلقات السبع أنه يشرح الكلمات لغوياً شرحا بسيطاً حتى أنه قد يذهب فيه مذهب اللغويين، فيخبرنا بما يشتق منه من الأفعال والأسماء، وما يتفرع منه من الصيغ والأشكال، وما يوجد فيها من الفروق اللغوية، ثم يشرح العبارة، ويشير إلى الجوانب الأدبية والتاريخية، ثم إلى الدروس والعبر المكنونة فيها، وذلك مؤشرة واضحة على أن الأستاذ على أهبة كاملة، واستعداد تام. وإلى ذلك أشار تلميذه النيل، الأديب الأريب، والعالم العبقري الأستاذ الدكتور سعيد الرحمن الأعظمي الندوي – أطال الله بقاءه – وهو يقول: “وكان أسلوب أستاذنا أسلوباً جميلاً رائعاً، حينما يشرح الكلمات والمفردات فيخوض في فقهها وباطنها، وردت مرة خلال الدرس كلمة حين في معنى الوقت، فقال: حان يحين حيناً معناه قرب، مثلاً: حانت الصلاة، وحين جمع أحيان: قال الشاعر العربي:
وأحياناً على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا
وحان يحين حيناً بفتح الحاء في معنى هلك، والحين بفتح الحاء الهلاك والدمار، قال العرب: نحن في يد الحين بين البحرين”. (الافتتاحية للبعث الإسلامي ذو القعدة 1444ه/ يونيو 2023م ص: 6.)
تشويق الطلاب إلى الموضوع:
فإن التشويق والترغيب أهم شيء مطلوب من المعلم، لأن المعلم إذا اكتفى بتزويد الطلاب بالمعلومات والمعارف، ولم يهتم بترغيبهم إلى الموضوع، وإنشاء الذوق فيهم، لم يواظبوا على الدراسة، ولم يستمروا عليها استمرارا، فحتماً سيجيء يومٌ وقد ذهب عنهم ما تعلموا، وسيعودون صفر اليدين، حتى كأنهم لا يعرفون شيئاً منه. وسماحة الأستاذ رحمه الله كان يدرك ذلك حق الإدراك، فإذا بدأ تدريس كتابٍ، خُذ “المعلقات السبع” على سبيل المثال، تحدث عن الأدب العربي؛ نشأته، وتاريخه، وأقسامه، ونثره، ونظمه، وما هي العناصر التي يتكون منها الأدب، وكيف يمكن للإنسان أن يكون أديباً. وإيفاءً بهذا الغرض، وتشويقاً للطلاب، ربما يأتي بأمثلة بعض الكلمات، ويفصل كلامه تفصيلاً، حتى يصلوا إلى الغاية، ويدركوا الهدف.
ومن المعلوم أن رعاية مستويات الطلاب هي أهم شيءٍ لإنشاء الذوق فيهم، فكان الأستاذ رحمه الله يراعي ذلك أشد الرعاية، ولذلك، إذا أتى بمثال لإيضاح شيء، اهتم بأن يكون المثال بحسب مستويات الطلاب، وبأشياء يرونهم ويفهمونهم جيداً، فقال مرةً وهو يدرس في مسجد دار العلوم لندوة العلماء: الأدب كهذا العمود، فإنه كما تم بناءه بمواد عديدة أو مكونات متنوعة امتزج بعضها ببعض، وكل شيء منها بمقدار مطلوب، لا قليل ولا كثير، فكذلك الأدب، فإن له عناصر ضرورية مطلوبة، وهي العاطفة، والفكرة، والخيال، ثم الصورة اللفظية، فإذا وجدت هذه كلها معاً، باختيار مناسب، وبمقدار عادل، وتركيب صحيح دقيق، جاء الأدب، وجاء المعنى المطلوب. وكان كثيراً ما يُمثل بكلمة “آه”، فإنها كلمة صغيرة في المبنى، وكبيرة في المعنى، لأنها – مع صغرها – ترجمانُ الوجع والألم اللذين يشعر بهما الإنسان، وبما يحس به جسده، وربما يدل على ما يخفيه قلبه، وما لا يتلفظ به لسانه، وكذلك كلمات أخرى تستخدم عند الضجر والانزعاج، والتأفف والتأسف، فإنها مع أن بعضها ليست بمعدودة في قائمة الأسماء، ولا في فهرس الأفعال، لكونها من أسماء الأفعال، ومع ذلك، فإنها تلعب دوراً كبيراً في التعبير عن ما في الضمير، وتترجم أحاسيس الإنسان ومشاعره، فكلمة “آمين” تمنٍّ شديد من الإنسان أن يستجيب له ربه، ويقبل دعاءه، ويقضي حاجته. وكلمةُ “أف” مع أنها لاتتكون إلا من همزة، وفاء مشددة، تدل على انزعاج الإنسان وضجره بشيء، لأن الإنسان إذا تضايق من شيءٍ، وكثر به تبرمه، وأراد أن يعبر عن ذلك بأسرع وقت، دون أن يضيع وقته، ودون أن يطيل كلامه، استعجل وقال: “أف”. فإذا قال ذلك، رمى الغاية، وبلغ المقصود، وفهم المخاطب غرضه.
تحديد الأهداف:
ليس العلم هو المقصود بذاته، بل إن الهدف وراء تحصيل العلم هو تطبيقه على الحياة، ومعالجةُ جميع الأمور وفقاً لأصول العلم، مما قد تعلمه الإنسان في غرف الدرس، أو في مجالس العلماء والصلحاء، أو مما قد ظفر به عند أصحاب الخبرة، وذوي العلوم والمعارف، ولذا، فإن المعلم مطالب بأن يهتم بهذا الجانب بشكل خاص، ويحدد للطلاب أهدافهم وراء تحصيل العلم، وينير لهم الطريق إلى الجادة الصحيحة المستقيمة، مشيراً إلى المسؤوليات التي تقع على كواهلهم بسبب هذا العلم، وناصحاً لهم ومرشداً إياهم إلى كل ما يصب في صالحهم في حياتهم الفردية والجماعية، ومحذراً إياهم سلبيات الأمور وقبائح العادات وشنائع الأفعال التي تضر حياتهم وحياة من يعولهم من أهل بيته وأسرته، ومن يعايشهم من أحباءه وأقاربه، وكباره وصغاره. وكان سماحة الأستاذ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله شخصاً نموذجياً من هذه الناحية كذلك، فلا يفوته هذا الجانب المهم، وإنه لا يكتفي بإكساب الطلاب العلوم والمعارف، وإعطاءهم الصناعة، بل كان يشير إلى الجوانب الخلقية المتواجدة في ثنايا الكتاب، والمودعة في بحابيحه، ويُنبههم على المسؤوليات التي سوف تعود إليهم بحكم تحصيل العلم، وأتذكر جيداً أنه ذات يوم فصل كلامه حول الربا، وبين لنا ما فيه من الاثم، والنتيجة السيئة، والخزي والذل، وسخط الله تبارك وتعالى، وإيذانه بالحرب ضد من يتعامل هذا التعامل؛ آكلاً وموكلاً وشاهداً وكاتباً، وبَسَط حديثه بسطاً حتى كأنه قذرٌ يُنجِّس من يصيبه، فوقع منا كلامه موقعه، ووجدنا نفوسنا تقذر الربا وتكرهه كراهة شديدة.
فالشكر لك يا أستاذنا المكرم! ويا شيخنا الحبيب! ويا مربينا المرشد! فإن عنايتك بنا عناية شاملة، وعناية دقيقة، غطتنا من ناحية العلم والأدب، ومن ناحية الفكر والنظر، ومن ناحية التوجيه والترشيد، ولا تستطيع كلمات ضخمة فخمة، ولا تعبيرات عويصة عريضة أن تفي بحقك، وتؤدي ما علينا من الواجب إزاءك، لأنك أعطيتنا ما يتعالى من التقويم، وما يترفع من كل ثمن. فهل يستطيع إنسان أن يفي بحق أستاذه، الذي تعلم منه نمط الحياة، وأسلوب العيش، وتعلم منه كيف يهذب نفسه، ويثقف حياته، وكيف يواجه الدنيا، وكيف يتعامل مع الناس، وكيف يخلطهم فيصبر على أذاهم، وعرف منه ما يعيبه، وما ينقص من مجده وشرفه، ويقلل من مكانته وأهميته، ثم يكون على بعدٍ منه، وذلك لكي تكون حياته حياة طيبة، وحياة نموذجية مثالية؟ لا، وبالطبع! إنه لايستطيع.
فكنت مثالياً، وأردتنا مثاليين. جزاك الله خير الجزاء، وجعل قبرك روضةً من رياض الجنة، وحشرك مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وأسكنك دار النعيم! آمين.
فروض العلم بعد الزهو ذاوٍ
وروح الفضل قد بلغ التراقي
وبحر الدمع يجري في اندفاق
وبدر الصبر يسري في انمحاق