سنوات مع فضيلة الوالد العلامة السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله
5 سبتمبر, 2023ذكريات وخواطر
9 سبتمبر, 2023آخر الكبار كما عرفته
كتبه/ د. أبو سحبان روحُ القدس الندوي
قضى نحبه متمتعًا بالإيمان، مشتغلاً بالعلم، ذاكرًا لمولاه، شاغلاً بذكره، مؤدِّيًا واجبه المسند إليه، مقبلاً على ربِّه حلاً وترحالاً، صحة ومرضًا، شاكرًا لأنعمه، صابرًا ما ابتُلي به من الأسقام والإرهاق والهم والغم، راضيًا بقضاء الله وقدره، فطاب محياه وطاب مماته إن شاء الله.
وقد سلك المحجَّة البيضاء، والاستراتيجية القيِّمة، في السلوك والعمل الجماعي، والدبلوماسية المحكمة للشؤون الإدارية والسياسة الشرعية، مجتنبًا عن الإفراط والتفريط والغلو والانفعالية والعجلة، لم يكن فظًا، غليظَ القلب، من لقيه أحبَّه، ولم ينفض من حوله أحدٌ عرفه فكان سَلِسًا، سهلاً، وجيهًا، عفيفًا، نزيهًا، نابهًا، نابغًا، كريمًا، صادق اللهجة، وقد جمع الله فيه محاسن الفضائل، ما لم يجمع في غيره من معاصريه.
وإنما انتهج منهج الوسطية والتوازن، مميِّزًا بين الثوابت والمتغيرات، واختار الزهادة وتحلَّى بالورع والأخلاق الحسنة، وتجنّب عن الرذائل والفحش والتفحّش، وما اختلق الفُشارَ قطّ(1)، ولم يركب الصَّعبَ والذّلولَ أبداً (2)، وكان من ثقات العلماء الأعلام، المتفق على جلالة شأنه في دماثة الخلق، ولين العريكة وحسن التعاشروالتعامل مع الناس والشعور بالمسوؤلية وأداء الواجب من غير تقصير، هكذا عاش حياة حافلة بمحاسن الإسلام وترك ما لا يعنيه، كان متصفًا بالتيسير والتبشير دون التنفير والتعسير..
ألّف في السيرة “سراجًا منيرًا” وعاش في ظلالها.
كتب “الهداية القرآنية” واهتدى بهدي القرآن وتخلّق بأخلاقه.
أصدر “جغرافية جزيرة العرب”، ومن خلاله وقف طلبة العلم المنبثون في أرجاء الهند المعمورة على جغرافية الجزيرة، تاريخها وثقافتها، وموقعها ومعالمها وخِطَطها، ومدى حاجتهم إلى معرفتها لدراسة أرض القرآن والحديث والشعر العربي والثقافة الإسلامية وحواضن الحضارة العربية.
قرأ نصوصًا أدبية وانتزع منها “منثورات من أدب العرب” فاطلع في اقتضابها على موارد الأدب وخبايا زواياها.
تسنَّى له الولوعُ بالأدب الإسلامي وصلته بالحياة وفكرته ومنهاجه وغلب ذلك كلُّه في أسلوبه وكتاباته.
خاض معترك النقد الأدبي، فألّف “الأدب العربي بين عرض ونقد” وكان المشوار كثير العِثار فسلك الجَدَدَ أمِنَ العِثارَ.
اقتطف ملامح بارزة في شخصية الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي وشَغِف بها وكان على شاكلته سلوكًا واستيراتيجية.
جُلُّ كتاباته إما سدٌّ للحاجة العلمية، وملأٌ للفراغ، وأداءٌ للواجب المنشود.
ها هو ذا شيخي الجليل وأستاذي النبيل الأديب الضليع “محمد الرابع الحسني الندوي (1929 – 2023م)، الذي عرفته منذ نعومة أظفاري ووجدته أنا وطلبة العلم الذين عاصرتهم أبًا حنونًا، ومربيًا ناصحًا، وأستاذًا قديراً ناجحاً، ومسؤولاً أمينًا، مُطاعًا ومحنَّكًا. عرفته وما كنتُ أعرف معنى “الهوى” وآدابه ومقتضاه وصدق الشاعر حيث قال:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبًا خاليًا فتمكَّنا(3)
لا جرم أن شيخي هذا كان يساجل أسلافَه في شتى مجالات الحياة منقبةً وقدرًا وإن تأخر عنهم طبقةً وعصرًا.
إنه أحبَّ لله، وأبغض لله، وآثر مصلحة الجامعة – التي كان رئيسها بعد وفاة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي – على كل مصلحة ولم يتنازل عن موقفه من مشاجرات الصحابة، وحبّه لهم ولم يخرج في ذلك عن مذهب أهل السنة والجماعة قِيد شبر، ولم يُبالِ فيه إلاًّ ولا ذمَّةً، لحق بربّ العالمين، وقد قام بأعماله المسندة إليه خير قيام، مقدِّرًا جهودَ الآخرين، تقديمًا لمؤلفاتهم وتنويهًا بها. يُبعث إن شاء الله على ما مات عليه كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر برقم (2877) قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “يُبعث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه”.
وإنه عاش في الدنيا كأنه غريبٌ أو عابرُ سبيل وفارقها ولم يُورّث دينارًا ولا درهمًا، وإنّما ورّث العلمَ، كشأن العلماء الذين هم ورثةُ الأنبياء حقّاً.
وقد حزنت الجامعات والجمعيات والمؤسّسات والأكادميات على فراقه، وقد طال عمرُه، وحسُن عملُه، غفر الله له وأمطر عليه شآبيب رحمته وأدخله فسيح جناته.
الهامش:
(1) والفشار كغراب الذي تستعمله العامة بمعنى الهذيان، ليس من كلام العرب.كما في “القاموس”للمجد الفيروزآبادي
(2) والمعنى لم يسلك كل مسلك مما يُحمد ويُذمُ.
(3) اختلفوا في عزوه إلى قائله على أقوال، فعزاه الصفدي خليل بن أيبك في “الوافي بالوفيات” (24: 400) إلى ابن الطثرية (ت 126هـ) بلاشك.