الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (3)

الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (2)
22 May, 2025
الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (4/ الأخيرة)
22 June, 2025
الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (2)
22 May, 2025
الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (4/ الأخيرة)
22 June, 2025

الأستاذ جعفر مسعود جزء من التاريخ (3)

أبو يحيى السيواني

والشيخ قد استفاد من كل ما حملت إليه الأيام فيما مضى، من حلو وحامض، وأعطى الإدارة كل ما كان يملكه من مال وكفاءة علمية ومواهب وقدرات.

فكان لا بد أن يملك عليه التفكير أمره كله… فكان يُجيل النظر حوله ليختار من هو أولى بذلك. يرى أصحاب العلم والمواهب، ولكنها قد لا تجدي نفعًا إذا لم يكن صاحبها قد اكتوى بنار الإصلاح والتربية، لأن تولية الإدارة الدينية لا تصلح لمن لم يمر بتربية تُشبه تربية الأنبياء في قهر النفس وإخضاعها لأمر الله، وابتغاء مرضاته، والبعد عن أسباب الشهرة وكسب ثناء الناس. فلم يعد يهتم بالمؤلف والخطيب والكاتب والمتخصص الموهوب، بل بدأ يبحث عن شخص تكون عنده قناعة تامة بالمبدأ والمنهج، الذي إذا تضعضع واضطرب فلا فائدة من الجدران والأبنية، ولا من اللافتات البراقة، وأن يكون عارفًا بمنهج المؤسسة وأهدافها ومبادئها، بل متمسكًا به، لا يرضى بالتنازل عنه قيد شبر. وأن لا تكون معرفته بالمبدأ معرفة سطحية، يعرفه الإنسان بعقله، ويقوله بلسانه، ولا يطمئن إليه ضميره، ولا يؤمن به قلبه، ولا تصدق به حركاته وسكناته، بل يكون قد عرفه فهضمه فاستساغه، فسرى في مخه وعظامه، وجري في دمه. لأن الندوة عبارة عن عقيدة، وعبادة، وسلوك؛ فلها منهج في العلم والتحقيق، وأسلوب في الدعوة والإرشاد. وكان لا بد أن يكون الشخص أهلًا لتحمل هذه الأمانة من ناحية تربيته الدينية والروحية والخلقية، لأن الأمر أمر العقيدة والعبادة والسلوك، فإن انحرفت لبنة من هذه اللبنات عن مكانها المحدد من قبل الشريعة الغراء، فقد انهار البناء وتهدّم.

وما أكثر ما تعرض الإسلام للانحراف الفكري والعقدي من قبل أذكياء العالم، أصحاب المواهب والكفاءات والمؤهلات…

فنظر إلى القريب والبعيد، وإلى العالي والنازل، فوقعت عينه على شخص درس هذا المنهج وعاشه، وكل ذلك تحت عينه وبصره، فلم يخفَ عليه شيء من عقيدته وعبادته وفهمه للدين وفقهه لقضاياه… ولم يشك في إخلاصه وتفانيه في أداء مسؤوليته وأمانته…

إنه الشيخ بلال والشيخ جعفر، هما شخصان، ولكن من حيث التربية، ومن حيث الثقة والاعتماد، شخص واحد. كما رأينا وشاهدنا طوال عمرنا أن الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي والشيخ محمد واضح رشيد الحسني الندوي كانا شخصين ولكنهما في الحب والمودة، والمبدأ والمنهج، والعقيدة والعبادة والسلوك كانا شخصاً واحداً، لا يُميّز بينهما في شيء من ذلك.

كان يعلم جيدًا أن كثيرًا من المؤسسات العلمية قد أُسست على التقوى والأسس المتينة، ولكن بعد ذهاب مؤسسيها المخلصين آل الأمر إلى أناسٍ عُرفوا بأهل العلم والثقافة، مع خلوهم من أصالة الدين ومناهجه القويمة. لمّا آل الأمر إلى هؤلاء، فقدت المؤسسة هُوِيَّتها وابتعدت عن مناهجها، وصارت ميدانًا للصراع: الصراع من كل ناحية.

2 – وناحية أخرى: هي حياة الشيخ جعفر هل هي استوفت تلك الصفات المطلوبة التي تؤهِّله لهذا المنصب؟

حياة الشيخ جعفر:

وُلد الشيخ جعفر في بيت الشيخ واضح رشيد الندوي، ابن أخت الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله. وقضى أيامًا من طفولته في دلهي، ثم انتقل مع أهله إلى لكناؤ. لم يكن انتقاله مجرد نقل مكاني من مدينة إلى أخرى، بل كان انتقالًا من حياةٍ وأنماطها وفرصها إلى حياةٍ أخرى وأنماطها وفرصها.

رأى أن أباه ترك راتبًا كان أعلى بكثير من راتبه الذي انتقل إليه في دار العلوم، فكان ذلك نقطة تحوّل في حياة هذا الفتى. الحياة الأولى كانت تتيح له فرص الأثرياء والأغنياء: دراسة عصرية في كليات عظيمة، ثم سفر للدراسات العليا إلى الجامعات العالمية، ليتم بها الفخار على الأتراب وتتحقق به الآمال العراض التي تحلم بها الأسر التي تعيش مع وليدها الوحيد وتعقد به آمالها. أما الحياة الثانية التي انتقل إليها، ففيها الصبر والكفاح، ومجاهدة النفس للتغلب على شهواتها وغرائزها، والتنصل من الحرص والطمع. وفيها التقشف، وشظف العيش، والقناعة بالقليل، والرضا بما قسم الله له، وإحياء الليالي بصلاة التهجد، وصرف النظر عن ملذات الدنيا، لأن هذه الحياة كانت تحت قيادة خاله العظيم الذي ركل الدنيا برجله وأعرض عنها، وربّى أولاد أخته وأخيه على معرفة حقيقة الدنيا، حيث لا تعدل جناح بعوضة عند الله، ومعرفة حقيقة الله وكيف يعيش أولياؤه وأصفياؤه.

فالحياة الجديدة فرضت عليه أن يخرج على الناس دائمًا مبتسمًا مبتهجًا، مهما اشتد به الضُّر، ومهما كان الفقر والخَلّة، ومهما تعذّر القوت، وألا يُري الناس من نفسه ضعةً ولا استكانة، ولا شكاة مما يمر به أهل البيت، كأن الأسرة علمت علم اليقين أن لهم نصيبًا من ميراث النبوة في الزهد والفقر، لينجم منهما الاستغناء عن الدنيا وما فيها، ولينشأ في نفسه الطموح وعلو الهمة وصدق العزيمة.

إن الفقر والحاجة إذا كانا بغير تربية وبغير قدوة صالحة ونموذج حي، فهما مصداق القول: “كاد الفقر أن يكون كفرًا”، يورثان الذل والمهانة، ويحرمان الصدق والعزيمة. أما إذا كانا مع التربية، فهما ذروة اليقين وقمة التوكل وغاية التوحيد وكمال العبودية.

إذا تكلمنا عن الفقر وما يأتي به، وعن الزهد والاستمرار فيه، وكل ذلك مع القدرة على كسب المال واقتناء الثراء وحصول الأموال الطائلة، فقد تحدثنا عن القيادة الروحية الحقيقية. فإن بيت الشيخ عبد الحي، والشيخ أبي الحسن، والشيخ محمد الرابع الحسني الندوي لا يمكن أن يكون فقيرًا، فكم من أناس أصبحوا أثرياء ببيع مؤلفاتهم وبالتوسل بهم. أما هؤلاء، فقد فقد المال عندهم والفقر معناهما، فلا بقي المال عندهم مالًا عزيزًا مطلوبًا يطلبونه بأي حال من الأحوال: بالإيمان والكفر، والمَلَق والتزلف، والحيل المباحة وغير المباحة. ولا بقي الفقر فقرًا: بؤسًا، وشقاءً، وحرمانًا، وتعاسةً تؤدي إلى الذل والخنوع وتسلب الحرية.

انتقل الفتى مع والده ليتعلم هذه الخصال في باكورة عمره. التحق الشيخ جعفر بدار العلوم فكان طالبًا ساذجًا بسيطًا. يقول عنه زملاؤه: إنه كان يجلس في ناحية من الصف، لم يكن يناقش، ولم يكن يطرح الأسئلة، ولا يسرع في الإجابة على الأسئلة، الأمر الذي يدل على جهد الطالب وذكائه ونبوغه، ويدل كذلك على حب الظهور أحيانًا إذا لم يكن في الطالب إخلاص وأدب واحترام لأساتذته. فبقي زملاؤه ينظرون إلى ما اعتاد الناس أن ينظروا إليه في الظاهر، من أن الطالب الذكي النبيه هو من يظهر في الصف بنقاشه وكثرة كلامه، أو من يحصل على درجة الامتياز في الاختبار، ويخطب، ويكتب، ويكسب ثناء الأساتذة، ويسترعي انتباههم. ولا شيء من ذلك كان – في نظرهم – في جعفر. ولكن خفي عليهم أن هذا الطالب ينشأ معهم، ويشب، ويترعرع، ولكن تنشأ فيه صفات أخرى – غير ما يتوقعه أصدقاؤه ومعارفه – سوف تُمكِّنه مع مرور الوقت من الوصول إلى شيء يقدره الله لمن يشاء من عباده.

حتى انتهت أيام دراسته، ففرغ، وفرغ أصحابه، ثم تفرقوا لما خُلقوا له، وتفرغ هو لما خُلق له… فكل ميسر لما خُلق له.

صار مدرسًا في مدرسة “العرفانية”..