حضور المتلقِّي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربيّة (2)

ندوة العلماء
18 مايو, 2024
اللِّص
6 يونيو, 2024

حضور المتلقِّي في تشكيل الأسلوب في البلاغة العربيّة (2)

أ.د.وليد إبراهيم القصَاب

–الأسلوب والفرد “المبدع”:

إن المؤلف هو مبدع الأسلوب، وهو صاحبه. والأسلوب من علامات عبقريته وتميّزه وهو – في أحد وجوهه – ظاهرة فردية، تمثّل القائل، وتدلُّ عليه.

وقد أشار عبد القاهر الجرجاني إلى الجانب الفردي في عملية الإبداع الأدبيّ، وإلى مقدار الجهد الشخصيّ المبذول فيها وإلى الجهة التي منها يضاف الكلامُ البليغُ إلى صاحبه،وهي ليست في أنفُس الكلام التي يملكها كلُّ أحد، ولكن في أسلوب صياغتها. يقول:”نحن إذا أضفنا الشعر أو غير الشعر من ضروب الكلام إلى قائله..لم تكن إضافتنا له من حيث هو كلِمٌ وأوضاع لغة، ولكن من حيث تُوُخّي فيها النظمُ الذي بينّا أنه عبارة عن توخّي معاني النحو في معاني الكلِم.. فكما لا يشتبه الأمر في أن الديباج لا يختصّ بناسجه من حيث الإبريسيم، والحليّ بصائغها من حيث الفضة والذهب.. ولكن من جهة العمل والصنعة، كذلك ينبغي أن لا يشتبه أن الشعر لا يختصّ بقائله من جهة أنفس الكلام وأوضاع اللغة..”(1).

وهنالك لون من ألوان الدراسات الأسلوبية الحديثة تعنى بالفرد القائل من منطلق عبارة بوفون المشهورة:”الأسلوب هو الشخص(2) نفسه “وتسمى الأسلوبية الفردية، أو أسلوبية الكاتب. وهي ترى أن اللغة ظاهرة فردية، وهي تتشكل عند كل قائل على نحو معين، يعبر عن شخصيته وطبعه وطبقته وانتمائه،”إنّ الأسلوب عموما هو التعبير الدقيق عمّا في داخله”(3).

وكما أن كل إنسان – مع اتفاقه مع سائر الخلق في الإنسانية ومظاهرها المختلفة – يخالفهم بعد ذلك في الشكل، أو الطبع، أو الذوق،أو ما شاكل هذا، فكذلك الحال في اللغة ؛ فالقائل – على خضوعه لقواعد اللغة العامة التي يلتزمها المتكلمون بهذه اللغة جميعا – له ذوقه الخاص في استعمالها وتشكيلها واختيار ما يريد من ألفاظها ورموزها ومصطلحاتها، على نحو يعكس بيئته وثقافته وشخصيته ورسوم ذاته.

إن الأسلوب هاهنا اختيار، أو انتقاء، إنه “استعمال لغويّ شخصيّ”(4) يعكس شخصية القائل، ويكون – كما يقول شوبنهاور– “التعبير عن معالم الروح”(5) “ودعني أسمع كيف تتكلّم أقل لك من أنت”(6).

وللمؤلف حضوره في البلاغة والنقد العربيين؛ وقد أشار القاضي الجرجاني إشارة ذكية واضحة – سبقت الأسلوبيين المعاصرين – إلى صلة الأسلوب بطبع صاحبه ومعالم شخصيته حتى إنه – كما يقول–: “يرقّ شعر أحدهم، ويصلب شعر الآخر، ويسهل لفظ أحدهم ويتوعّر منطق غيره. وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع،وتركيب الخلق، فإن سلامة الألفاظ تتبع سلامة الطبع، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة.وأنت تجد ذلك ظاهرا في أهل عصرك وأبناء زمانك ؛ ترى الجافي الجلف منهم كزّ الألفاظ، معقد الكلام، وعر الخطاب، حتى إنك ربما وجدت ألفاظه في صوته ونغمته، وفي جرسه ولهجته.”(7).

2 – الأسلوب والنصّ “الرسالة”

ولكن الأسلوب – هذه الظاهرة الفردية – لا يخضع فقط لشخصية القائل، ولا هو وحده المشكّل للأسلوب، بل يخضع لعوامل أخرى، منها النصّ نفسه، المتمثّل في طبيعة الرسالة، أو الغرض الذي يراد التعبير عنه. وقد فطنت البلاغة والنقد العربيان إلى هذا العنصر الهامّ من عناصر الاتصال، فربطت الأسلوب بالرسالة المراد إبلاغها.

يشير ابن الأثير إلى ارتباط الألفاظ المفردة التي ينتقيها المتكلّم بالغرض أو الموضوع فيقول: تنقسم الألفاظ في الاستعمال إلى جزلة ورقيقة ؛ ولكلّ منها موضع يحسُن استعمالها فيه؛ فالجزل منها يستعمل في مواقف الحروب، وفي قوارع التهديد والتخويف وأشباه ذلك. وأما الرقيق منها فإنه يستعمل في وصف الأشواق، وذكر أيام البعاد، وفي استجلاب المودّات، وملاينات الاستعطاف، وأشباه ذلك..”(8).

ويقول ابن قتيبة متحدّثا عن ارتباط أسلوبيْ الإيجاز والإطناب بالموضوع: “ليس يجوز لمن قام مقاما في تحضيض على حرب، أو حمالة بدم، أو صلح بين العشائر، أن يقلّل الكلام ويختصره، ولا من كتب إلى عامّة كتابا في فتح أو استصلاح أن يوجز..”(9).

ومن قبله نقل الجاحظ أن”الإيجاز هو البلاغة. فأما الخطب بين السماطين، وفي إصلاح ذات البين؛ فالإكثار في غير خطل، والإطالة في غير إملال.. والسنّة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطب، ويقصّر المجيب..”(10).

ويربط ابن رشيق أسلوبيْ الصنعة العفوية وصنعة التحكيك والتثقيف بالغرض الشعريّ، فيقول:”قد قيل: لكلّ مقام مقال ؛ وشعر الشاعر لنفسه وفي مراده وأمور ذاته، من فرح وغزل ومكاتبة ومجون وخمرية وما أشبه ذلك، غير شعره في قصائد الحفل التي يقوم بها بين السماطين؛ يُقبل منه في تلك الطرائق عفوُ كلامه، وما لم يتكلّف له بالا.. ولا يُقبل منه في هذه إلا ما كان محكّكا معادا فيه النظرُ جيّدا، لا غثّ فيه، ولا ساقطة، ولا قلق. وشعرُه للأمير والقائد غيرُ شعره للوزير والكاتب، ومخاطبته للقضاة والفقهاء بخلاف ما تقدّم من هذه الأنواع”(11).

المراجع:

1–دلائل الإعجاز: ص: 339.

2–نحو نظرية أسلوبية لسانية: فيليسانديرس،ترجمة: خالد محمود جمعة ” دار الفكر، دمشق: 1424/2003″ ص: 29.

3–السابق نفسه.

4–السابق: ص: 32.

5–السابق: ص: 30.

6–نحو نظرية أسلوبية لسانية: ص: 165.

7–الوساطة بين المتنبي وخصومه.

8–المثل السائر: 1/168،تحقيق: أحمد الحوفي، وبدوي طبانة، دار نهضة مصر، القاهرة:1381/1962.

9–أدب الكاتب،تحقيق محمد الدالي،مؤسسة الرسالة،بيروت: 1995.

10–البيان والتبيين: 1/116.

11–العمدة: 1/231،وانظرمفتاح العلوم للسكاكي: ص95″ البابي الحلبي، القاهرة: 1990.

×