المسلمون وعبادة الصيام

أمة الإسلام عودى إلى القيادة!
14 مارس, 2024
الإنسان والإسلام معاً!
14 مايو, 2024

المسلمون وعبادة الصيام

سعيد الأعظمي الندوي

الصيام يخفف حدة المعدة ويصرفها لفترة من الوقت عن متطلباتها المادية من الأكل والشرب، ثم المتعة الجسدية، وفي خلال هذه الفترة يهتم الصائم بالاتصال بالأجواء العلوية الشفافة، يقبل على ربه ذكراً وتلاوة، وشعوراً بأنه عبد الله وحده، ليس غير، ورغم امتلاكه كل شيء من المواد الغذائية والطيبات من الرزق، ورغماً من احتياجه الشديد إليها لا يستطيع أن يتصرف فيها، بل يحرمها على نفسه إلى وقت معلوم، امتثالاً لربه تبارك وتعالى، وهو يحصل بذلك على فائدتين: فائدة التدريب على الامتناع عن الأشياء المألوفة وإعداد النفس لتحمل المشاق في سبيل الهدف، والحصول على فائدة الطاعة والخضوع أمام كل حكم من أحكام الله تعالى وتنفيذ أوامره في كل شيء في كل حال وزمان.

ومما هو معلوم أن الناس لا يتحاربون فيما بينهم ولا يتخاصمون إلا على أساس من المنافع العاجلة المادية، ولكن الإنسان إذا تجرد عنها ولو لمدة قليلة لان قلبه وترقق شعوره، ونشأت فيه عاطفة النصح والتواضع، وعاد عبداً خاشعاً لله، مسالماً للناس، ومحباً للمعروف وكارهاً للمنكرات، ويمثل نفسه كمسلم مسالم، متواضع، لا يجد في نفسه شيئاً من الحقد والكراهة والنفور.

الصيام يتيح فرصة كبرى لتطهير النفس من جميع الشوائب والإغراءات التي تتسفل بالمرء أحياناً إلى أسفل درك من البهيمية، ويقوم بالتزكية الروحية وتوطيد علاقة صاحبه بالرب تبارك وتعالى، حيث تتقوى معنويته إلى درجة أنه يجد نفسه مع الله في كل حين، ويعيش في شفافية تنذاب فيها جميع العلائق المادية، ولا يحتاج إليها الإنسان إلا بقدر الحاجة والكفاف، ومن هنا يأتي الإعلان العام الذي ينطلق من فوق السموات العلى ويتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتحدث عنه في حديث قدسي يرويه عن الله تعالى يقول:”كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه وشرابه من….”. (رواه البخاري في كتاب الصوم رقم: 1894 والإمام مسلم في باب فضل الصيام رقم الحديث: 1151).

وهنالك يعلو الصائم على قمة من الإخلاص وتتوطد علاقته بالله تعالى بحيث يحل لديه محل المحبوب الأثير، وينال جزاءه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربه”. (صحيح البخاري رقم الحديث: 1894 صحيح مسلم: 1151)..

وهذه البشارة تفوق كل شيء آخر، فإن الفرحة التي يعطاها الصائم، عند لقاء ربه لا تساويها بشارة ولا نعمة ولا لذة، إنها فرحة مزدوجة طالما يتمناها الإنسان ولا يجدها، ويحلم بها في حياته ولكن دون جدوى، إن لقاء الرب تبارك وتعالى لمن أعظم السعادات وعلامات الفوز والقبول في الآخرة، ففي سبيل ذلك يضحى المسلم الواعي والمؤمن الصادق بكل ما عنده من عدة وعتاد ونفس ومال، وأهل وأولاد، ومتاع، ولكنه قد لا ينجح، وقد لا تجد محاولاته وجهده أي قبول، بل يرفض ويرمى على وجهه، ولكنه هو الصيام الذي يصومه المؤمن بإخلاص وصدق ولإرضاء الله تعالى وابتغاء وجهه، إنما يكرمه بهذا اللقاء ويسبب له هذه الفرحة العظيمة ويقدّر له هذه النعمة الكبرى.

أما الأعمال الأخرى فإنها ليست مثل الصيام الذي يخول صاحبه بالسعادة في الدين وبالصحة والهناء وشفافية الحياة في الدنيا، لذلك فإن أولئك الصائمين الذين يجمعون بين الجوع والعطش والكذب والزور، ويعيشون في حالة الصيام وفي أيام رمضان حياة لا تتميز عن حياتهم في غير هذا الشهر، فإن الله تعالى لا يحتاج إلى صيامهم الذي يتلخص في الجوع والعطش والسهرات، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:” من لم يدع قول الزور والعمل به ليس له من حاجة أن يدع طعامه وشرابه” ويقول: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر”(رواه ابن ماجه باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم رقم الحديث: 169).

في ضوء هذه الأحادث الشريفة يمكن أن يتأمل كل قائم في أيام رمضان فيما يقوم به من أعمال ونشاط، وفي مدى الإخلاص والورع الذي هو النتيجة الأولى والآخرة للصيام، ذلك لكي تكون المشقة ذات ثمار حلوة، ويكون الصيام تدريباً عملياً للمسلم على الطاعة والامتثال، ونموذجاًَ مثالياً للعبودية والتواضع والنصح والتعاون على البر والتقوى.

فما أحوج المسلم اليوم إلى هذه الخلال الطيبة، وهذه السلوكيات الفذة، التي لا تكاد تحلم بها أمة ولا شعب ولا فلسفة ولا نظرة تعبدية.

×