جهود الطبيب جون تيتلر الإسكتلندي في نقل الكتب العلمية والطبية إلى اللغة العربية (1)

إعجاز القرآن الكريم
3 فبراير, 2025

جهود الطبيب جون تيتلر الإسكتلندي في نقل الكتب العلمية والطبية إلى اللغة العربية (1)

بقلم: د/صاحب عالم الأعظمي الندوي

باحث في تاريخ الهند وجزيرة العرب والخليج

بينما كنتُ منشغلًا بمطالعة فهرس مقتنيات المكتبة الملكية البريطانية العظمى، وإذا وقفتُ على عنوان كتاب في فنِّ الطب والجراحة، نقله إلى اللغة العربية المستشرقُ الإسكتلندي جون تيتلر من اللغة الإنجليزية، ونشره بعنوان “كتاب أنيس المشرِّحين في علم الطب” في كلكتا عام 1836م. فخطر ببالي أنْ أبحث في سيرته ومشاغله العلمية في بلاده وفي بلاد الهند على عصر الاستعمار البريطاني. ومن حُسن الحظ أنْ وقفتُ على سيرته وترجمته في طائفة من المقالات له ولغيره مما نُشرت في مجلات الجمعية الآسيوية آنذاك، واستعنتُ بها في كتابة هذا المقال عنه. لم يكن جون وحده مَن كرس جهوده في تعلُّم اللغات العربية والفارسية والهندية ونقْل جملة من الكتب العلمية والأدبية ما بين تلك اللغات الشرقية والغربية، بل هناك طائفة من العلماء والمستشرقين الغربيين الذين تفرَّغوا لإنجاز تلك المهمات العلمية والثقافية، برعاية مجموعة من المعاهد والكليات والمدارس التي أُنشئت في كلكتا ومدراس وبومباي، وغيرها على عصر الاستعمار. إلا أن ما تفرّد به جون عن أقرانه من المستشرقين هو إتقانه للغة العربية وإلمامه بآدابها، واشتغاله بها كتابةً وترجمةً. وهذه ميزة نادرة بين المستشرقين الذين اشتغلوا في العلوم العربية والإسلامية، حتى بين أولئك الذين عاشوا مدة طويلة في البلاد العربية، إذ لم يتخذوا العربية لغةً لكتاباتهم على وجه العموم. غير أن جون تفرد بتعلمه العربية بعد وصوله إلى الهند، دون أن تتوفر له البيئة العربية التي أتيحت لغيره من أقرانه في عصر الاستعمار. وفي الواقع، عند عقد المقارنة ما بين كفاءته العلمية والطبية باللغة العربية وبين أولئك المستشرقين المعاصرين له في الهند، لا نرى فيهم أذكى خاطرًا، وأحسن فطنة، وأغور علمًا، وأجود قريحة، وأظرف أخلاقًا منه.

ولئن اتخذت الحكومة البريطانية الهندية تدابير ووسائل عدة لتعزيز اللغة الإنجليزية وترويجها ونشرها بين السكان الهنود المحليين من أجل تحقيق نتائج متنوعة، فإنها دأبت أيضًا على تشجيع موظفيها وعلمائها وأدبائها الأوربيين على تعلُّم اللغات الشرقية والهندية، خاصة اللغات: العربية والفارسية والسنسكريتية والهندوستانية، وأغدقت عليهم المنح والامتيازات، وذلك لتحقيق مصالحها السياسية والثقافية والإدارية. وقد ظلَّ إتقان هذه اللغات الشرقية ضرورياً للتواصل والتفاعل الفعلي مع الخواص والعوامِّ على حد سواء، ثم إنَّ تعلم اللغات المحكية وإتقانها لأغراض علمية ورسمية عامة ليس كافيًا. ولا ننسى في هذا المقام أنَّ طبيعة الصلات والتفاعلات بين الأوربيين والهنود كانت تعكس في الغالب علاقة هرمية فوقية؛ مما أعاق تبادل الأفكار أو الفهم المشترك، بل عززت الكراهية والازدراء المتبادل والعزلة أحيانًا، وقامت التحفظات والحساسية حاجزًا أمام تكوين علاقة حقيقية مع العلماء والأدباء والمتعلمين المحليين، إذ يميل الأوربيون من ذوي المكانة الرسمية وحتى المثقفون منهم إلى تجنب مثل هذه الاتصالات والعلاقات، ويُعزى هذا جزئيًا إلى نقص الثقة في إجراء مناقشات دقيقة وواسعة مع أولئك العلماء والأدباء والمفكرين الهنود. ولذا، وجب الاحتكاك والانسجام مع السكان المحليين كأنداد من ناحية، والإلمام العميق باللغات والآداب والثقافات المحلية من ناحية أخرى.

حينما نعاين المسار العلمي والتعليمي للمستشرقين والمسؤولين الإداريين الأوربيين في الهند، نلاحظ أنهم ما كانوا يستطيعون اكتساب المهارات اللغوية والأدبية، وتوسيع نطاق الدائرة الثقافية واللغوية دون الاستعانة بالعلماء والأدباء المحليين، ومع ذلك يفتقر طائفة منهم إلى الشغف بالدراسات اللازمة، وينقص غيرهم الإصرار والمثابرة والمواظبة، ولم يكن الوقت يسعف آخرين لمتابعة البحث والدراسة. وعليه، تقع مسؤولية هذا الانخراط اللغوي والأدبي والثقافي إلى حدٍّ كبير على عاتق الأفراد الذين كان يقودهم إما حبٌّ شخصيٌّ للمعرفة، أو سعيٌ للتفرد. فقد تراوحت دوافع العلماء الأوربيين لانخراطهم في الأدب الشرقي ما بين التسلية والتنوير الشخصي، والرغبة في توسيع المجموعات الأدبية الأوربية بإضافات مهمة. وقد سعى علماء وأدباء ومؤرخون إلى كشف اللثام عن تاريخ العصور الهندية القديمة ودراسة لغاتها وحضاراتها وفلسفاتها ودياناتها، مستكشفين جذور اللغات والمعرفة العلمية وحتى الحضارة الإنسانية، في حين انصبَّت اهتمامات آخرين على فحص التراث والتاريخ والتمدن الإسلامي، فضلًا عن معرفة أخلاق تلك الأمم وعوائدهم وثقافتهم، وغالبًا ما كانت هذه المساعي العلمية والأدبية تتماشى مع تحقيق الأهداف العلمية البحتة من ناحية، وتحقيق المقاصد السياسية والإدارية إلخ من ناحية أخرى.

هذا، وعند النظر في سيرة الطبيب والجراح جون تيتلر ومشاغله العلمية والطبية، نجد أنه اتجه لدراسة اللغات العربية والشرقية وآدابها رغبةً في اكتساب العلم والمعرفة في المقام الأول، فضلاً عن تعزيز العلوم والآداب الإنجليزية بواسطة تلك اللغات، وخاصة العربية والفارسية في الهند. كان جون عالمًا مخلصًا في الأدب الشرقي وصديقًا حقيقيًا لشعب الهند. وكانت إسهاماته في ميادين الطب والتعليم والثقافة عميقة وذات تأثير بالغ في تلك الفترة. ويعكس اهتمامه باللغات الشرقية رغبةً حقيقية في تعزيز الفهم المتبادل بين الثقافات، مما ساعد على إثراء التعليم وتطوير المناهج الدراسية في الهند. تُجسد هذه الجهود روح التعاون والتفاعل الثقافي التي أسهمت في تحسين جودة التعليم وتوسيع آفاق المعرفة في ذلك الوقت.

كان شغف السيد جون العلمي والفكري على الأرجح إرثًا عن عائلته، إذا كانت كلتا الجهتَين تنعم بتاريخ أدبيٍّ متين، فقد ربطت والده الدكتور ويليام هنري تيتلر صلة قرابة باللورد وودهوسلي المعروف، في حين كانت والدته كريستينا جيلز شقيقة الدكتور روبرت جيلز المورخ المشهور في تاريخ الروم واليونان. أما والده فقد كان ملمًا بالأدب؛ إذ قدَّم إسهامات جليلة بنقل طائفة من الكتب الكلاسيكية؛ كترانيم كاليماخوس وملاحم سيليوس إيتاليكوس وغيرها إلى اللغة الإنجليزية.

وُلد جون في مدينة بريشين عام 1790م، وقد تأثرت مسيرة تعليمه منذ طفولته حتى شبابه بتعدُّد تنقلات عائلته، فقد انتقلت عائلته أولًا إلى غيرنزي، ثم إلى رأس الرجاء الصالح حيث خدم والده صيدليًا في الجيش البريطاني. مما جعله يعتمد على نفسه في اكتساب اللغات والمعارف، ورغم هذه التحديات والصعوبات قادته رغبته الشديدة في التعلم إلى دراسة عدد من اللغات بمساعدة والده، وتعلَّم الرياضيات من بعض الجنود، ولقنته أخته الكبرى مبادئ اللغتَين الفرنسية والإيطالية. كانت إنجازات جون الأدبية المبكرة، رغم الظروف غير المثالية التي عاشها، جديرة بالتقدير. وقد وردَت إشادة بموهبته الناشئة في كتاب رحلات بارو في جنوب أفريقيا؛ إذ أشار السيد بارو إلى أنَّ جون، وهو في الثانية عشرة من عمره فقط، ترجم موزونة لأحد مقاطع فيرجيل، ما أثار إعجاب المؤلف بمهاراته الشعرية واللغوية. ولم تقتصر تجربة تيتلر في رأس الرجاء الصالح على الجوانب الأكاديمية فحسب؛ فقد استوحى كثيرًا من جمال البيئة الطبيعية، التي تركت فيه أثرًا عميقًا. وعندما عاد لزيارة الرأس في سنواته اللاحقة، عبّر عن شعور حزين بالمفارقة بين آماله وتطلعاته الشابة المستمدة من رهبة المناظر الطبيعية، وبين خيبة أمله في مواجهة تلك المشاهد الثابتة والشامخة بنفس الإحساس لكن ممزوجًا بالكآبة والأسى.

عندما عادت عائلته من رأس الرجاء الصالح في عام 1803م، أقامت لفترة وجيزة في لندن، حيث التحق جون بالأكاديمية في ساحة سوهو بإدارة السيد وايتلوك. ثم انتقلت العائلة إلى إدنبرة، حيث حضر جون دروسًا جامعية لفصل دراسي واحد فقط. وخلال هذه الفترة، أُعجب أشد العجب بمحاضرات الأستاذ بليفير في الرياضيات. أظهر جون تفردًا في الرياضيات، ما لفت انتباه الجنرال ميلفيل، الذي عرض عليه المساعدة في الحصول على منصب تلميذ هندسة في كلية وولويتش، وهو منصب كان مناسبًا لقدراته الفكرية. غير أنَّ متطلبات هذا الدور العملية تعارضت مع طبيعته المتعاطفة ومعتقداته الدينية، ما دفع والدته إلى معارضة هذا المسار المهني، وآثرت دخوله المجال التجاري، فالتحق جون، في سنِّ الرابعة عشرة والنصف، بمكتب عمه السيد جيليز التجاري في لندن، وهو من أبرز المؤسسات التجارية آنذاك.

رغم متطلبات وظيفته، واصل جون دراساته الكلاسيكية والرياضية بحماس كبير، حتى علَّم نفسه اللغة الألمانية وأتقنها، حتى أنه عندما توفي المراسل الأجنبي للشركة فجأة، تمكَّن جون من تولي ذلك الدور. وبعد وفاة والده في عام 1809م وجد جون نفسه مسؤولًا عن والدته الأرملة وأخته، حيث كانت أوضاعهم المالية غير مستقرة. وكان شقيقه الأكبر، روبرت، قد سافر سابقًا إلى البنغال ليعمل جراحًا مساعدًا. تحمَّل جون هذه المسؤولية بإخلاص كبير، وانتقلت والدته وأخته للعيش معه في لندن. ثم غادرت أخته لتنضم إلى روبرت في الهند عام 1812م. وفي ذلك الوقت، ونظرًا لقلة الفرص في المجال التجاري وسط الاضطرابات السياسية في أوروبا، قرر جون تغيير مساره المهني من التجارة إلى الطب. وبدأ دراسة التشريح والجراحة للتحضير لوظيفة في الخدمة الطبية في الهند. وتحت إشراف أطباء مشهورين، مثل: السير جيمس إيرل، والسيد أبرنيثي في مستشفى سانت بارثولوميو، اكتسب جون احترامهم بسرعة، وخاصة السيد أبرنيثي. ورغم الصعوبات المالية، تمكَّن من مواصلة دراساته الطبية إلى جانب عمله في المكتب التجاري لدعم نفسه وعائلته. وبعد اجتيازه للامتحان الطبي، عُيّن جون جراحًا مساعدًا في عام 1813م وأبحر إلى كلكتا برفقة والدته. خلال الرحلة، التقى بالعقيد السير هنري وورزلي، الذي أدرك مواهب جون الأكاديمية وشجعه على دراسة اللغات الشرقية، مما ألهمه لتكريس جهوده لذلك الهدف. (يتبع)

×