نفحة من نفحات النسب الطاهر وأريج من عبق الفضيلة
19 مايو, 2025حفلات التأبين على وفاة الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي
19 مايو, 2025الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي: معلم حكيم ومرب فاضل
محمد معاذ خان الندوي
في عالمٍ يزخر بالعلماء والمفكرين، يندر أن تجد شخصياتٍ تترك بصمةً لا تُمحى في قلوب طلابها. كان الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي، رحمه الله، واحدًا من أولئك النادرين الذين أثروا الفكر الإسلامي واللغة العربية بأعمالهم الجليلة وعطائهم الخالد. فقد وافته المنية إثر حادثٍ مروري يوم الأربعاء 15 رجب 1446هـ، الموافق 15 يناير 2025م، في مدينة رائي بريلي بولاية أترابراديش، مخلفًا وراءه إرثًا علميًا وفكريًا سيظل خالدًا في ذاكرة الأجيال القادمة.
وُلد الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي في بيت علمٍ وصلاح، فهو ابنُ العالم الجليل الشيخ السيد محمد واضح رشيد الحسني الندوي، رحمه الله. نشأ في بيئةٍ علميةٍ زاخرةٍ بالمعرفة، فنهل من علومها حتى أصبح عالمًا بارعًا، وأديبًا بليغًا، ومؤلفًا مبدعًا، ومحاضرًا مؤثرًا. تلقّى تعليمه في دار العلوم لندوة العلماء، حيث تتلمذ على أيدي كبار العلماء والمفكرين الذين غرسوا فيه حب العلم والتأمل العميق. كان يتمتع بقدرةٍ استثنائية على الربط بين العلوم الشرعية واللغة العربية، مما أكسبه تميزًا خاصًا في مجال التدريس والتأليف. لم يكن مجرد أستاذٍ يُلقي دروسه في قاعات الدراسة، بل كان ملهمًا حقيقيًا، يزرع في نفوس طلابه حب العلم والتفكير النقدي والبحث المستمر.
عندما التقيتُ به لأول مرة، أدركتُ أنني أمام شخصيةٍ استثنائية تمتلك موهبةً فريدةً في جذب انتباه طلابها وإشعال شرارة الاجتهاد والتعلم لديهم. علّمني كيف أكتب المقالة بأسلوبٍ واضحٍ ومنظم، وكيف أعبر عن أفكاري بثقةٍ وإتقان. كان يؤمن بأن التعلم ليس مجرد حفظٍ للمعلومات، بل هو عملية تفاعلية تنمّي لدى الطالب ملكة التفكير النقدي والقدرة على التحليل.
قال لي ذات يوم موضحًا أهمية الترجمة: “الترجمة ليست مجرد نقل الكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي عملية إبداعية تسعى لنقل المعاني بروحها وأسلوبها، مع الحفاظ على جوهر النص الأصلي. إنها جسر يربط بين الثقافات، والمترجم الماهر هو من يستطيع أن يوازن بين الأمانة للنص الأصلي وسلاسة التعبير في اللغة المستهدفة، ليقدّم ترجمة تنبض بالحياة وتصل إلى القارئ كما لو كانت مكتوبة بلغته الأم.” كان يؤمن بأن الترجمة ليست مجرد نقل للكلمات، بل هي فن يعكس روح النص ومعناه العميق، مما يجعلها أداةً لنشر العلم وتوسيع آفاق الفكر.
ما يميز الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي أكثر من علمه وثقافته، هو أخلاقه الرفيعة وسلوكه المتواضع. كان دائمًا يعامل الجميع باحترامٍ ومحبة، لا يفرّق بين طالبٍ وآخر، بل يمدّ يده للمساعدة لكل من يحتاجها. كان يتحلى بالصبر والهدوء، ويستمع لكل طالبٍ باهتمام، ويمنحه الفرصة للتعبير عن نفسه دون مقاطعة أو تقليل من شأنه. كان يشجع طلابه دائمًا على القراءة والاطلاع، مما جعلهم يدركون أهمية الكتابة كوسيلةٍ للتواصل والتأثير في الآخرين.
لم يكن مجرد أستاذٍ جامد يقتصر على تدريس المناهج، بل كان مربّيًا حقيقيًا، يسعى إلى بناء شخصيات طلابه، ويحثهم على تبني القيم الإسلامية والأخلاق الرفيعة. كان يؤمن بأن العالِم الحقيقي ليس فقط من يحفظ المعلومات، بل هو من يعيش القيم التي يدعو إليها وينقلها إلى الآخرين بسلوكه قبل كلماته.
لقد قدم الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي جهودًا مشكورة في خدمة الإسلام والفكر الإسلامي من خلال كتاباته المؤثرة، ومقالاته العميقة، ومحاضراته التي زودت الآلاف من طلبة العلم والمثقفين بزادٍ من العلم والمعرفة. لم يكن عالمًا منعزلاً، بل كان يخالط الناس، يحمل همّ الأمة، ويعمل على نهضتها الفكرية والثقافية.
ألّف العديد من الكتب التي جمعت بين الأصالة والمعاصرة، وساهم في شرح القضايا الإسلامية بأسلوبٍ علميٍّ رصين. لم تكن كتاباته أكاديمية عامة، بل كانت تجمع بين العمق العلمي والأسلوب السلس الذي يمكّن القارئ من فهم الأفكار المعقدة بسهولة.
كان خبر وفاته صادمًا لكل من عرفه وتتلمذ على يديه، لكن إرثه العلمي والفكري سيظل خالدًا في وجدان طلابه ومحبيه. لقد ترك وراءه جيلاً من الطلاب والمثقفين الذين نهلوا من علمه، وتأثروا بفكره، وساروا على نهجه في البحث عن الحقيقة ونشر المعرفة.
إن فقدان الأمة الإسلامية لعالمٍ من طراز الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي هو خسارة كبيرة، لكن عزاءنا أنه ترك لنا إرثًا ثمينًا من العلم والفكر، سيظل منارةً تضيء الدرب للباحثين، ونبراسًا للأجيال القادمة. أسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، ويجزيه خير الجزاء على ما قدمه من علمٍ نافعٍ وخدمةٍ جليلةٍ للأمة.
رحم الله الأستاذ جعفر مسعود الحسني الندوي، وأسكنه فسيح جناته، وألهمنا جميعًا أن نسير على خطاه، ونعمل على نشر العلم والمعرفة، وخدمة أمتنا الإسلامية بما نستطيع.