الإسراء والمعراج

وزين لهم سوء عملهم (1)
3 فبراير, 2024
في ضوء الواقع: يشتعل هذا العالَم نارًا… فأطفؤوها بشآبيب الحب والرحمة والتسامح!
14 مارس, 2024

الإسراء والمعراج

الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله تعالى

إن الإسراء والمعراج حدث جليل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونعمة انفرد بها رسول الله صلى الله عليه وسلـم، وتكريم خصه الله تعالى به من بين رسله وأنبيائه صلوات الله عليهم وسلامه، وجاء هذا التكريم في أصعب مرحلة من مراحل نبوته، وأقسى حال من أحوال صبره واحتماله على محن كانت تصيبه في سبيل الدعوة وأداء مسئولية النبوة، وكان مأمورًا بأن يقوم بأداء واجب الحق مهما واجهته في ذلك من معاداة وإيذاء، ويصبر على المقاطعة التي يقوم بها أبناء قومه، كان قضى في هذه الظروف الحرجة ثلاث عشرة سنة يحتمل ويصبر ويقوم بواجب الدعوة رغم كل أذى يصيبه، وعداوة تأتي إليه حتى ضاق عليه الجوُّ، واشتد البلاء، وكاد الأمر يتجاوز قوة احتماله، ولكن وحي الله تعالى كان يؤاسيه، ويهيئ له الله تعالى أسباب سكينة له بطرق مختلفة، كان من أهمها بل وأعظمها الآيات القرآنية التي كانت تمنح السكينة، وتنفس الكربة، وكان منها حماية عمه أبي طالب له التي أتاحها الله له بكرمه عليه، فكانت حمايته بمثابة سد أمام أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها مؤاساة زوجته خديجـة رضي الله عنها، وكانت تقوم بتهدئة الهمّ الذي كان يساوره من أنواع الإيـذاء، والإهانات التي كانت تصيبه من أبناء قومه رغم أنه كان قبل نبوته محترمًا وعزيزًا فيهم لصدقه، وأمانته، وصفاء أخلاقه الإنسانية وكرم طبيعته، ولكنه لما قام بواجب الدعوة إلى التوحيد انقلب الناس أعداءّ له، واستمرت معاداتهم له، واشتدت حتى بلغت إلى حد كاد يتجاوز صبره عليه، ووقع ذلك بصورة خاصة عندما توفي عمه أبو طالب، وتوفيت زوجته خديجة رضي الله عنها فلم تبق له حماية عمه، ولم تبق مؤاساة زوجته، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يلتمس بديلاً لذلك في الطائف من أشراف قبيلتها ثقيف، ولكن الرد جاء منهم قاسيًا ومؤيسًا، فبلغ الأمر بذلك إلى الحد الأقصى من الاحتمال بضيق الأحوال، وبخاصة عند ما حدث له ما حدث في الطائف، وهو مما يكسر همة الأقوياء في الهمة والعزيمة، ويظهر أثر ذلك من دعائه في الطائف بقوله في دعائه إلى ربه “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم عدو ملكته أمري”. (البداية والنهاية: 3/136)

ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم ذلك لم يضعف في الصبر على هذا الحادث القاسي أيضًا لأنه كان في سبيل الله، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في نفس الدعاء ولفظه: “إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح به أمر الدنيا والآخرة” ففاضت رحمة الله عليه، وأرسل جبريل عليه السلام ليعرض عليه إرسال الله عذابه على أهل الطائف عقابًا على سوء معاملتهم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عنهم.

إن وقوع أحداث الجفاء والبأساء بصورة مستمرة متواصلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رسوله والله راضٍ به، إنما كان لأن الله تعالى أراد لرسوله المثل الأعلى في احتمال الأذى والصبر على عداوة الأعداء في سبيل تبليغ الحق، والدعوة إلى العبودية لله وحده، فترك الله تعالى أحوال الأذى تقسو عليه إلى أن تبلغ القسوة إلى المدى، ولما أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتهى وفائه لربه، والصبر إلى الحد الذي يرضيه فاضت رحمة الله، وأظهر له ما يملأ قلبه طمأنينة ورضًا، وهو طلبه له إلى السماوات حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وحصل له أقرب قرب ممكن إلى ربه تعالى عن طريق الإسراء والمعراج الذي هيأ الله تعالى له به العروج إلى السماوات العلى ومشاهدة أحوال البرزخ، وما سيحدث يوم القيامة، وما يحصل له من كرامة في الآخرة، فكان بذلك تفريجًا للهم الشديد الذي كان قد يساوره في أحوال المكاره والشدائد، ومن معاملة الناس معه، وكان ذلك تنفيسًا للكربة التي كان يشعر بها حينًا لحين خلال أداء مسئولية الدعوة في أوساط قريش الكافرة العنيدة حيث لم يكن له سندٌ إنسانيٌ يلجأ إليه، أو قوة مادية يعتمد عليها لمواجهة هذه الشدائد التي قد استمرت وطالت، فكان من رحمة الله تعالى وكرمه أنه خفف وطأة شعوره بالشقاء والهم الذي كان ينشأ في قلبه من الأحوال القاسية، فكان الإسراء والمعراج بذلك سبب هدوء لنفسه، وتخفيفًا لهمه، وبعثًا للأمل في مستقبل سعيه وجهده.

لقد جعل الله تعالى لرسوله الكريم ذلك المستوى الرفيع والمكانة العالية في كونه إنسانًا جامعًا بين الصفتين البشرية والربانية بمروره من خلال أكثر الشدائد البشرية التي يمر من خلالها الإنسان البشر، وبصعوده إلى السماء ومروره من خلال أجواء الملائكة ومواضع الملكوت العالية، وبذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عاش في البيئة البشرية بأحوالها المختلفة في جانب، وشاهد الأحوال الملكية المقدسة في السماوات العلى في جانب آخـر، فجمع بذلك بين أحوال الأرض وأجواء السماء، وقد منّ الله تعالي عليه بذكر صفته العبدية التي تشير إلى علاقته بالأرض مع الرفعة الملائكية التي أكرمه الله تعالى بها بإسرائه به وعروجه إلى السماء، وذلك بقوله جل وعلا: )سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنُريَه من آياتنا إنه هو السميع البصير(.( بني إسرائيل: 1)

لقد كان الإسراء والمعراج عناية إلهية عظيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت إليه هذه العناية في وقت كان مضى على صبره على استمرار وقائع الأذى والإهانة له من قومه، وعلى حرمانه من أسباب القوة الظاهرة التي تصد قومه من هذه المعاملة القاسية والموقف المعادي له الذي أصبحت وطأته أشد ما يمكن بعد وفاة عمه أبي طالب الذي كان ردءًا له إلى حد ما، ووفاة زوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها التي كانت تهدئ الألم الذي يطرأ على باله من جفاء الناس والعداء له، ولقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل الطائف اليأس فهيأ الله تعالى تنفيسًا لكربته وإزالة لألم نفسه بهذه الوقعة العظيمة وقعة الإسراء والمعراج التي انفرد بها نبينا صلى الله عليه وسلم والتقى بها بالأنبياء السابقين فوصل إلى أقصى ما يمكن وصوله إليه، ورأى من آيات ربه الكبرى فكان ذلك بلسمًا لجراحه، وسكينة لقلبه، وتشجيعًا لهمته وعـزيمته، وأملاً في منحه العز والكرامة والانتصار الذي كتبه الله تعالى له في المستقل في بناء أمة ونشر دين، كما حمّله مسئولية تبليغه إلى الناس ليكون دينهم الوحيد المستمر إلى يوم القيامة.

لقد ميزه الله تعالى بهذه النعمة نعمة الإسراء والمعراج من بين الأنبياء الآخرين، إنه التقى في هذه الرحلة المقدسة، بسائر الأنبياء الأولين وفيهم جده جد الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسـلام، والتقى بسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وكان بينهما حوار في أمور لها صلة بالشريعة والدين، أصبحت بذلك هذه الليلة التي اشتملت على واقعة الإسراء ليلة من أعظم الليالي في تاريخ الأنبياء، وعند ما تأتي هذه الليلة، ولعلها تأتي في شهر رجب كل عام تثير في نفس كل مؤمن ذكريات عطرة لميزة الرسول الأعظم خاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم، فذكرى وقوع الإسراء والمعراج ذكرى جليلة ونعمة تدل على مقام رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي جاء كآخر رسل الله والذي أكمل الله عليه دينه وأتم عليه وعلى أتباعه نعمة الإسلام، وهو الدين الذي كان مبدأه من آدم عليه السلام وإتمامه على هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فموقع الإسراء والمعراج قمة السعادة والعظمة التي وصل إليها سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ونحن لكوننا أتباعًا له ومن أمته نجد هذه المكرمة والعزة والكرامة والشرف عزة وشرفًا لنا أيضًا لانتسابنا إلى هذا النبي الكريم، نشكر الله تعالى على أن جعلنا من أمة خاتم أنبيائه ومن متبعي الدين الذي أكمله الله تعالى عليه صلى الله عليه وسلم وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

×